More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وأتذكر أنني قلت لنفسي حينما غادرت باريس عائدًا إلى نيويورك في صباح اليوم التالي إنني لن أعود إليها أبدًا.
فإن الشعور بكراهية الذات أو، بتعبير ألطف، انعدام تقدير الذات، هو أحد أعراضه الأكثر شيوعًا، ومع استفحال الداء تفاقم لديَّ شعورٌ عام بانعدام القيمة .
فإن وجهة نظري هي أن هناك جوائز بعينها، وإن كان ذلك ليس حتمًا بالضرورة، يمكن أن يكون الفوز بها أمرًا بالغ الروعة. وكانت جائزة «ديل دوكا» قد وقعت مني موقعًا حسنًا للغاية جعل أي محاسبة للذات تبدو عملًا سخيفًا،
الاكتئاب هو اضطراب في المزاج يصاحبه ألمٌ بالغُ الغموض وشديد المراوغة في طريقة ظهوره للذات ـ
على الرغم من أن الكآبة، أو «مشاعر الحزن» التي تنتاب الأشخاص من حين لآخر، وترتبط بعناء الحياة اليومية، تنتشر على نطاق واسع وتعطي الكثيرين لمحة عن المرض حينما يكون في شكله الكارثي.
ولذلك فقد أصابتني الدهشة حينما اكتشفت أنني أكاد أكون جاهلًا تمامًا بمرض الاكتئاب، والذي قد لا يقل خطورة عن مرض السكر أو السرطان.
فإن الاكتئاب في مراحله الخطيرة ليس له علاج سريع المفعول، ولذلك فإن العجز عن تخفيف حدة المرض هو أشد عوامل المرض فجاعة بينما يكشف عن نفسه للضحية،
وهذا كله يؤكد حقيقة جوهرية وإن كانت صعبة والتي أرى أني بحاجة إلى إيضاحها في بداية سيرتي هذه وهي أن مرض الاكتئاب لا يزال لغزًا كبيرًا.
إن التحزبات القوية التي تسود الطب النفسي اليوم، والتي تكتسب أحيانًا طابعًا هزليًّا، وتتجلى في الانقسام بين المؤمنين بالعلاج النفسي وأتباع العلاج الدوائي، تشبه تلك المشاحنات التي كانت تدور في الأوساط الطبية في القرن الثامن عشر
الذي كان قد تفاقم إلى حدٍّ بدأت تظهر معه بعض أعراضه الشهيرة والخبيثة، مثل الارتباك وعدم القدرة على التركيز الذهني وهفوات الذاكرة.
«أنا مريض». وأضفتُ: «لديَّ مشكلة نفسية ».
تدهمني هذه «الغشية ». ولا تحضرني كلمة أخرى أنسب لوصف هذه الحالة، وهي حالة من الخَدَر العاجز التي يغيب فيها الإدراك ويحل محله ذلك «الألم الخالص والمحسوس ».
تأكَّد لي ضياعه. هل أضعتُ الشيك «عن قصد»؟ كنت قد شعرت مؤخرًا بضيق شديد مبعثه أنني لا أستحق هذه الجائزة.
إن مقالة «كامو» «تأملات حول المقصلة» تُعد وثيقة فريدة من نوعها تقريبًا، وهي مشحونة بمنطق رهيب متَّقد؛ بل ويصعب تصور أن يحتفظ أشد المؤيدين حماسة لعقوبة الإعدام بموقفهم نفسه بعد الاطلاع على الحقائق المريرة التي تعرضها المقالة بهذه الدرجة من الحماسة والدقة.
لم أشعر في حياتي تقريبًا بمثل هذا الفَقد الشديد إزاء شخصٍ لا أعرفه كما حدث مع «كامو».
وتأتي إحدى أشهر المقولات الفكرية في القرن في مستهَل «أسطورة سيزيف»: «ليستْ هنالك سوى مشكلة فلسفية وحيدة وخطيرة فعلًا، ألا وهي الانتحار. فالحكم بأن الحياة تستحق أن تُعاش أو لا تستحق، هو بمثابة الجواب على السؤال الأساسي الذي تطرحه الفلسفة».
كان أمرًا طبيعيًّا للغاية أن يسارع هؤلاء المقربون من ضحايا الانتحار مرة تلو مرة وبطريقة محمومة إلى إنكار الحقيقة. وهم ربما لا يجدون مناصًا من الإحساس بالتورط والشعور بالذنب على المستوى الشخصي ـ وهو أمر ينبع من فكرة أن هذا الشخص أو ذاك ربما كان بمقدوره الحيلولة من دون وقوع الانتحار لو أنه قد اتخذ بعض الاحتياطات وتصرف بطريقة مغايرة.
وقد بدا كما لو أن هذا الرجل الذي كان يحظى بإعجابهم الشديد، والذي تحمل كثيرًا من الويلات على أيدي النازيين ـ وهو رجل ذو بأس وقادر على الصمود ـ قد أظهر بانتحاره ضعفًا وانهيارًا في شخصيته كانوا يكرهون القبول بهما.
وأمَّا فريق البؤساء الذين يُضطرون إلى إهلاك أنفسهم، فيجب ألا يُوجَّه إليهم لومٌ بأكثر مما يُوجَّه إلى ضحايا السرطان في مرحلته الأخيرة .
ولا بد من التشديد على أن هذه الخلاصات يجب أن تظل مستندة إلى الوقائع التي جرت مع فردٍ واحد. ولستُ أنوي خلال تسجيلي هذه التأملات أن أقدم تجربتي القاسية باعتبارها تمثيلًا لما يحدث أو قد يحدث مع الآخرين؛ فالاكتئاب مرضٌ شديد التعقيد في أسبابه وأعراضه وعلاجه، ويتعذَّر معه الخروج بخلاصات قاطعة استنادًا إلى تجربة فرد واحد.
«هارت كرين» و«فينسنت فان جوخ» و«فيرجينيا ولف» و«أرشيلي جوركي» و«سيزار بافيز» و«رومان جاري» و«فاشيل ليندسي» و«سيلفيا بلاث» و«هنري دو مونترلان» و«مارك روثكو» و«جون بيريمان» و«جاك لندن» و«إرنست همنجواي» و«وليام إنجي» و«ديان أربوس» و«تاديوش بوروفسكي» و«بول سيلان» و«آن سيكستون» و«سيرجي إيسينين» و«فلاديمير ماياكوفسكي»، والقائمة تطول.
وما زالت كلمة «ملانخوليا» تبدو هي الأنسب والأصدق تعبيرًا عن أشد أشكال المرض قتامة،
ظلَّت الكلمة وعلى مدى أكثر من خمسٍ وسبعين سنة، تزحف ببراعة داخل اللغة وكأنها بَزَّاقة، لا تقول سوى القليل عن سمة الخبث المتأصلة فيه، كما أنها ـ وبسبب وقعها الرتيب ـ تَحول من دون تَشكُّل فهم عام لشدة المرض وفظاعته حينما يخرج عن نطاق السيطرة .
المثال أن تعبير «عصف ذهني» قد استُخدم من قبل لوصف حالة الإلهام الفكري حينما يجري في أجواء مفعمة بالمرح. ولكن يجب علينا أن نصوغ كلمة تكون على هذا المنوال. فحينما يُقال إن اعتلال المزاج لدى أحد ما قد بلغ حد العاصفة ـ وهي زوبعة حقيقية يُسمع عواؤها داخل الدماغ، مما يجعل الاكتئاب الحاد فعلًا لا يشبه أي شيء عداه ـ فإن ذلك قد يدفع حتى الشخص العادي غير المطلع لإبداء تعاطفه بدلًا من ردود الفعل التي اعتادت كلمة «اكتئاب» أن تثيرها، من قبيل «وماذا في ذلك؟»، أو «سوف يزول عنك بعد حين»، أو «جميعنا نمر بأيام سيئة».
كنت قد بلغت الستين من عمري حينما دهمني المرض للمرة الأولى في شكله «أحادي القطب»، الذي تستمر معاناته وتطول.
كما أن هناك تشابكًا بالغ التعقيد بين عناصر الكيمياء والسلوك والجينات الشاذة.
وفاة «آبي هوفمان»، مثل: رد فعله على حادث سيرٍ تعرض له، وفشل كتابه الأخير، ثم المرض الخطير الذي أصاب والدته. أمَّا مع «راندال جاريل» فقد تمثل في تراجع قدراته الإبداعية والذي لخَّصته بقسوة مراجعةٌ نقدية سيئة لأحد دواوينه الشعرية، ومعاناته التي تفاقمت إثر ذلك. وفي حالة «بريمو ليفي» فقد أُشيع أنه كان مثقلًا بعبء رعايته لوالدته القعيدة، وهو عبء أنهك روحَه أكثر مما أنهكتها محنته في معسكر «أوشفيتز». ربما تكون هذه الأسباب قد سِيقت كشوكة في خاصرة الرجال الثلاثة، وربما كانت مصدرًا لمعاناتهم. وهذه الظروف قد تكون فعلًا ظروفًا عصيبة ولا يمكن تجاهلها.
فقد تعاطيت الكحول باعتباره وسيلة سحرية تحملني إلى عالم الخيال وتوصلني إلى حالة من النشوة وتُثري مُخيلتي.
وعلى الرغم من أنني لم أخط في حياتي سطرًا وأنا تحت تأثير الكحول، فقد كنت أتناوله ـ غالبًا بمصاحبة الموسيقى ـ كي أسمح لذهني أن يتصور رؤى لا يمكن لدماغي اليقظ أن يبلغها إلا وهو واقعٌ تحت تأثير شيء ما.
ولكني اكتشفت أن تناول الكحول حتى ولو بقدر ضئيل، بل حتى لو كان جرعة واحدة من النبيذ، قد أصبح يسبب لي غثيانًا كريهًا ودوارًا خطيرًا، ويثير لديَّ الإحساس بالغرق والتقزز.
لقد كان الاكتئاب يحوم من حولي منذ سنوات، ولكنه كان في انتظار اللحظة المناسبة كي ينقض عليَّ.
أمضيت ذلك الصيف الرائع على جزيرة مارثا فينيارد، حيث اعتدتُ منذ بداية الستينيات أن أقضي هناك شطرًا كبيرًا من كل سنة. ولكني بدأت أشعر باللامبالاة إزاء جمال الجزيرة ومباهجها.
المرء أن يفهم أنه منذ القرن السابع عشر ـ ووفقًا لملاحظات أطباء ذلك العصر، وبحسب تصورات «جون درايدن» وغيره ـ كان ثمة ربطٌ ما بين «الملانخوليا» وبين وسواس المرض، فقد ظلَّت الكلمتان تُستخدمان على نحو متبادل حتى القرن التاسع عشر من قِبل كتَّاب مثل السير «والتر سكوت» والأخوات «برونتي» الذين ربطوا أيضًا بين «الملانخوليا» وبين هواجس الأمراض الجسمانية).
وبدأتُ أشعر مرة أخرى بقلق واضطراب وخوفٍ مبهَم
وأحد الملامح الذي لا يُنسى لمرضي في هذه المرحلة هو ما اتسم به بيتي الريفي، الذي ظل مكاني المحبب طوال ثلاثين سنة، اتسم بشؤم يكاد يكون ملموسًا، حينما كانت حالتي المزاجية تتدهور بوتيرة ثابتة إلى أدنى المستويات.
لكن لا تدعوا الشك يساوركم لحظة في أن الاكتئاب، في شكله الحاد، ما هو إلا جنون. والجنون ينجم عن عملية بيوكيميائية شاذة.
أن هذا الجنون يتم تحفيزه كيميائيًّا بين الناقلات العصبية للدماغ، وربما كنتيجة للضغوط التي تتعرض لها جميع أجهزة الجسم، والتي لعلةٍ مجهولة تتسبب في استنفاد مادتين كيميائيتين: هما «نورأبينفرين» و«سيروتونين»، وكذلك في زيادة مستويات هرمون يُسمى «كورتيزول». وفي ظل هذا الاضطراب في أنسجة الدماغ، وفي ظل الإشباع والحرمان المتبادلين، لا غرو أن ينتاب العقل شعور بأنه مهموم ومصاب، وأن تسجل عمليات التفكير المشوَّشة معاناة عضو تعتريه نوبة تشنج. وأحيانًا، ولكن ليس غالبًا، قد تراود هذا العقل المضطرب أفكارٌ عنيفة إزاء الآخرين. ولكن نظرًا لأن عقولهم تنصرف بآلامها نحو الداخل، فإن الأشخاص المصابين بالاكتئاب عادة ما
...more
كنت لا أزال أبقي فكرة الانتحار بعيدًا. ولكن كان واضحًا أن الانتحار قد بات قاب قوسين أو أدنى بالنسبة إليَّ، وأنني عمَّا قريب سوف ألتقيه وجهًا لوجه .
وبدأت أكتشف أن نوبات الهلع الخفيفة التي يُسبِّبها الاكتئاب تأخذ شكل ألمٍ جسماني غامض وبعيد كل البعد عن خبرات الألم العادية . ولكنه ليس ألمًا يمكن للمرء أن يحدد موضعه على الفور، مثل ذلك الذي ينجم عن كسرٍ في أحد الأطراف . وربما يكون من الأدق القول إن اليأس، ونتيجة لبعض الحيل الخبيثة التي تمارسها النفس على الدماغ السقيم، يشبه ذلك الإحساس الرهيب بالضيق الذي يعتريك حينما تُحبس داخل غرفة شديدة الحرارة. ونظرًا لأنه لا يوجد نسيم هواء يخفف من هذا الضيق الرهيب، ولأنه لا مهرب من هذا المحبس الخانق، فمن الطبيعي تمامًا أن تبدأ الضحية في التفكير بلا توقف في الموت .
شعرت بأني أشبه «إيما بوفاري» بعض الشيء في علاقتي مع الطبيب النفسي الذي سأدعوه الدكتور «جولد»، والذي بدأتُ أزوره فور عودتي من باريس،
مضاد للاكتئاب يُسمى «لوديوميل». وهو دواء كان يصيبني بالتوتر وبفرط نشاط كريه في الحركة، وحينما زِيدت الجرعة بعد عشرة أيام، تسببت ذات ليلة في انسداد مثانتي لساعات.
لا شك أن عشرة أيام لشخص مشدودٍ على مخلعة التعذيب هذه تبدو وكأنها عشرة قرون، وهو هنا يتجاهل حقيقة أنه حينما يتم البدء في تعاطي دواء جديد، يجب أن تنقضي عدة أسابيع حتى يتحقق مفعوله، وهو تطورٌ ليس مضمونًا بأي حال من الأحوال . وهذا بدوره يطرح عمومًا مسألة العلاج الدوائي . وهنا يجب علينا أن نمنح الطب النفسي ما يستحقه من فضل لسعيه المتواصل لعلاج الاكتئاب دوائيًّا.
ولا يزال هناك الكثير الذي يجب معرفته (ولا شك أن قدرًا كبيرًا منه سوف يظل لغزًا، وذلك لطبيعة المرض التي تجعله من الأمراض مجهولة السبب،
ولكنْ هناك قطعًا عنصر نفسي واحد لا يرقى إليه شك، وهو فكرة الفقدان. فالفقدان في جميع مظاهره هو علامة من علامات الاكتئاب، في تطوره، وغالبًا، في أسبابه.
ويعتبر فُقدان تقدير الذات عَرَضًا مشهورًا، وقد تلاشى إحساسي بذاتي تمامًا، وتلاشت معه أي قدرة للاعتماد على الذات.
ولذلك فقد أصبح وجودي بمفردي في المنزل، ولو لدقيقة واحدة، يولِّد لديَّ شعورًا رهيبًا بالهلع والخوف .
وأصبح أي شيء يُوضع في غير موضعه ولو بشكل مؤقت، يملؤني بذعر شديد، وبات كل شيء بمثابة تذكير قوي بعالم في طريقه إلى زوال سريع
كنت قد بلغت الآن مرحلة من الاضطراب تلاشى فيها كل إحساس بالأمل، وكذلك تلاشت فكرة المستقبل. ولم يعد دماغي، بسبب هرموناته الجامحة، أداة للتفكير بقدر ما كان أداةً تُسجِّل، دقيقة بدقيقة، معاناته باختلاف درجاتها.