More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
ظللتُ على مدى سنوات أحتفط بمفكرة ـ لم تكن دفتر يومياتٍ بالمعنى الحرفي للكلمة، وكانت تدويناتها مكتوبة بطريقة عشوائية ولا يجمعها نَسق ـ ولم أكن أرضى أبدًا أن يطلع على مضمونها أيُّ أحد سواي.
انتابني بعض القلق وأدركت أنني إذا ما قررت ذات يوم التخلص من المفكرة، فإن تلك اللحظة سوف تتزامن بالضرورة مع قراري بإنهاء حياتي.
وحينما وضعت نفسي في مكان الدكتور «جولد»، تساءلت عما إذا كان يعتقد جديًّا أن هذا العجوز الذي يفتقر إلى الحيوية والذي بات محطَّمًا وشبه عاجزٍ وصاحب مشية متثاقلة وصوت متحشرج ويستيقظ كل صباح من نومٍ جاء تحت تأثير مهدئ «هالسيون»، يمكن أن يشتهي أي متعة جنسية .
فهناك منطقة في تجربة الألم يمنح فيها غالبًا اليقين بزوال حدة الألم قدرة فائقة على التحمل.
وفيما عدا الحالات التي يرتبط الألم فيها بمرض عُضال، فإن هناك غالبًا شكلًا من أشكال الارتياح من الألم؛
إن اليأس هنا هو ما يَسحق الروح بدرجة يفوق بها ما يفعله الألم. ولذلك فإن قرارات الحياة اليومية لا تؤدي، كما هو شأنها في الأمور العادية، إلى الانتقال من موقف مزعج إلى آخر أقل إزعاجًا ـ أو من ضيق إلى ارتياح نسبي، أو من ضجر إلى نشاط ـ ولكنها تؤدي إلى الانتقال من ألمٍ إلى ألم. فالمرء لا يفارق سرير مساميره، ولو لفترة وجيزة، ولكنه يظل يحمله معه حيثما يذهب.
أمَّا المصاب بالاكتئاب فليس له مثل هذا الخيار، ومن ثم يجد نفسه، مثل مصابِ حربٍ يمشي على قدميه، وعليه أن يُقحم نفسه في مواقف اجتماعية وأسرية لا طاقة له بها.
ومن بين الظواهر التي لاحظها بعض الأشخاص حينما أُصيبوا باكتئاب حاد هو الإحساس بأن ثمة ذاتًا ثانية ترافقهم، وهي بمثابة مراقب يشبه الشبح،
تبين لي أن كتابة رسالة انتحار، والتي شعرت بهوس يوجب عليَّ كتابتها، هي أصعب مَهمة تصديت لها في مجال الكتابة.
والمفارقة أنني قد وجدت في هذا المكان ـ بمظهره البسيط وبأبوابه المقفلة والمصنوعة من الأسلاك وردهاته الخضراء التي تبعث على الكآبة وسيارات الإسعاف التي تزعق ليلَ نهار أسفل مني بعشرة طوابق ـ الراحة بعد أن هدأت ثورة العاصفة التي كانت في ذهني،
ويرجع ذلك في جزء منه إلى العزلة والشعور بالأمان والانتقال إلى عالم تتلاشى فيه رغبة المرء في التقاط سكين وغرزه في صدره بفضل المعرفة الجديدة التي اكتسبها، وسرعان ما يتضح حتى لمريض الاكتئاب صاحب الذهن المشوَّش، بأن السكين الذي يحاول أن يُقطِّع به شريحة لحم سويسرية كريهة مصنوعٌ من بلاستيك قابل للثني.
وهو ما يبرهن مرة أخرى على الأثر المهدئ الذي يمكن للمستشفى أن يحدثه، وقيمته المباشرة كملاذٍ يمكن أن تعود فيه الراحة والطمأنينة للعقل .
وقد تراكمت أدلة كثيرة مؤخرًا تدين دواء «هالسيون» (واسمه الكيميائي «تريازولام») باعتباره عاملًا مسببًا لهوس الانتحار وغيره من اضطرابات التفكير لدى الأفراد المعرضين للإصابة. وبسبب هذه التفاعلات، تم حظره تمامًا في هولندا، ولذلك يجب أن يخضع هنا على الأقل لمراقبة أكثر دقة.
وفي حالتي لم يكن «هالسيون» بالطبع هو الشرير الوحيد ـ فقد كنت بالفعل في طريقي نحو الهاوية ـ لكنني أعتقد أنني، لولاه، ربما ما كنت لأبلغ هذا الحد من الإنهاك الشديد .
فقد كانت مسلسلات تلفزيونية مثل «داينستي» و«نوتس لاندينج» ونشرات الأخبار المسائية التي تقدمها قناة «سي بي إس» ليلًا في غرفة الترفيه الخاوية، تشعرني أحيانًا على الأقل بأن المكان الذي وجدت فيه ملاذي كان مستشفًى للمجانين أرحم وألطف من ذلك الذي تركته بالخارج.
وكما يأتي الاكتئاب بشكل غامض، ويتحقق الشفاء منه بشكل غامض، فإن المعاناة التي يسببها تأخذ مجراها ثم يجد المرء الراحة والطمأنينة .
فحينما تكون في بر الأمان وتطلب من شخصٍ آخر يغرق أن «يبتهج»، فإن طلبك هذا يرقى إلى مستوى الإهانة،
قدرٌ هائل من أدبيات الطب النفسي تتناول موضوع الاكتئاب، حيث تزداد النظريات المفسِّرة لمسببات المرض بكثرة لا تقل عن تلك التي تُفسِّر موت الديناصورات أو نشأة الثقوب السوداء. وما هذا العدد من الفرضيات في حد ذاته سوى دليل على ما يكتنف هذا الداء من غموض يجعله عصيًّا على الفهم.
لقد كان الانتحار موضوعًا دائمًا يتخلل كتبي، فهناك ثلاث من شخصياتي الرئيسية قتلوا أنفسهم. وحينما أعيد، للمرة الأولى منذ سنوات، قراءة بعض المشاهد من رواياتي ـ وهي مقاطع كانت بطلاتي يترنحن فيها على طريق الهلاك ـ تُذهلني الدقة التي صوَّرتُ بها مشهد الاكتئاب في عقول هؤلاء الفتيات الشابات، وهن يصفن على نحو طبيعي تمامًا، وانطلاقًا من عقلٍ باطن تُكدره بالفعل اعتلالات المزاج، عدم التوازن النفسي الذي أودى بهن إلى الهلاك.
وتزداد الخطورة إذا واجه الصغير ما يُسمى «الحداد الناقص» ـ ولم يستطِع، في واقع الأمر، أن يبلغ حالة التطهر التي يُحدثها الحزن، ومن ثم يظل يحمل في دخيلته على مدى سنوات لاحقة عبئًا لا يُطاق، وهو عبء مشحون بمشاعر الغضب والذنب وليس بالحزن الدفين فقط، والذي يصبح بذورًا محتملة لإهلاك النفس .
فإذا صحَّت نظرية الحداد الناقص هذه، وأحسبُها كذلك، وإذا صح أيضًا أن المرء في الأعماق السحيقة لسلوكه الانتحاري يظل يواجه لاشعوريًّا خسارة فادحة ويحاول التغلب على جميع آثارها المدمرة، فعندئذٍ ربما يكون تجنبي للموت بمثابة تحية إجلال متأخرة لوالدتي.
إن الهلع المصاحب للاكتئاب عادة ما يكون طاغيًا ويتعذر التعبير عنه من قِبل معظم هؤلاء الذين يصابون به، ومن هنا يأتي الإحساس بالعجز الذي يتجلى حتى في أعمال أعظم الفنانين .
لكن المرء لا يحتاج إلى أن يبدو مخادعًا أو مشجعًا كي يؤكد حقيقة أن الاكتئاب ليس نهاية العالم؛ فالرجال والنساء الذين تعافوا من هذا المرض ـ وهم لا حصر لهم ـ شهودٌ على ما قد تكون ميزة الاكتئاب الوحيدة وهي أنه مرض يمكن قهره .
«وهكذا خرجنا، ومرة أخرى أبصرنا النجوم ».

