More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
فنحن، سواء أشئنا أم لم نشأ، نعيش في مجتمع متطور، ونحتاج إلى الدراسة الدائمة كي نقف على الاتجاهات والغايات التي ننساق بها وإليها فيه، فيجب لهذا السبب أن يكون لكل منَّا برنامج ثقافي هو برنامج الحياة، بحيث نعيش لنقرأ ونقرأ لنعيش، وهذا البرنامج يقبل بالطبع التنقيح والتغيير، ولكن يجب ألَّا يخلو إنسان منَّا من برنامج ينتظم به ارتقاؤه الذهني.
فالبرنامج التعليمي الذي يُوضع لمليون صبي أو شاب لا يمكن أن يؤدي حاجات كل صبي وكل شاب إلا على وجه عام نتجاهل فيه الخصائص والميزات التي لكل فرد.
فإننا نعيش — بعد المدرسة والجامعة — نحو خمسين سنة وهي غذاؤنا الذهني ووسيلة رقينا الثقافي، فلن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة — لا بل الدراسة — عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية.
وكذلك برناردشو أيضًا، بل يمكن أن نذكر عشرات الزعماء من الساسة والأدباء ممَّنْ لم يتعلموا في مدرسة أو جامعة، ولكن المجتمع الراقي الذي عاشوا فيه هيَّأَ لهم جامعة كبري من الكتب والمجلات التي درسوها، فنَمَتْ أذهانهم، وحصلوا منها على النضج الثقافي الذي ربما لم يبلغه خريجو الجامعات.
أن يكون طالبًا مدى عمره،
جمد وكف عن الدراسة عقب الجامعة فإنه قد عاش بعد ذلك جاهلًا لحرفته.
لو عرف الشاب أن هناك لذة سامية في الدراسة والتوسع الذهني تزيد
على ما يجد من لذة اللهو السخيف، أو حتى في القراءة جزافًا، لما أهمل تثقيف ذهنه، ولما تأخَّر لحظة عن وضع البرنامج وتحمل التكاليف لهذا التثقيف.
أحمل الشاب على أن يتعوَّد الدراسة وهو لا يزال في شبابه حتى إذا بلغ الخمسين أو الستين كانت عادته اللازمة التي تضعه في تساؤل استطلاعي طيلة حياته، وأحب أن أحمله أيضًا على أن يحس أن الدراسة في الشباب تغير أمداء مستقبله، وتفتح له أبوابًا في رقيه كانت تكون موصدة لولا هذه الدراسة.
ولو أقبل الجمهور على زيارة هذه المتاحف بغية الدرس والانتفاع لعنيت الحكومة بها، وفي هذه الحال يمكنها تعيين الخبراء للشرح والتنوير.
والمجتمع الحسن ينظم العمل، وبهذا التنظيم يزيد الفراغ لكل عامل، فيستطيع أن يرصد منه وقتًا كثيرًا لترقية ذهنه بالمعارف، وهو أيضًا يزيد الكسب، ويجعل كل فرد قادرًا على الاستمتاع الثقافي بزيارة المعارض والمتاحف وبالسياحة وارتياد المسارح والمكتبات العامة، ولكل واحد من هذه الأشياء قيمة ثقافية كبيرة في المجتمع الحسن، ولكن قيمتها تنقص في المجتمع السيئ.
ولكن يجب أن نقرر أن المجتمع الذي يربي هو المجتمع الحسن؛ أي المجتمع الذي فشت فيه المتاحف والمعارض، وارتقى فيه المسرح، وأبيحت فيه الحرية للكاتب الصحفي والمؤلف المخلص، أما المجتمع المتأخر الذي يحد من الحرية، حيث تغذو الصحف الجمهور بنخالة الثقافة، والذي تقل فيه المتاحف، ويستحيل فيه الممثل إلى مهرج، والذي يرهق أبناءه بالعمل،
فينقص فراغهم أو يجعلهم تخور قواهم فلا يجدون الوقت أو الجهد للاستمتاع الذهني، هذا المجتمع لا يمكنه أن يربي، ومن البعيد بل من المحال، أن ننتظر منه أن يخرج لنا المثقفين فضلًا عن علماء بارزين.
والمجتمع الراقي يُعْنَى بالمكتبة كما يُعْنَى بالمدرسة، ففي لندن مثلًا ما لا يقل عن مئتي مكتبة للقراءة والاستعارة بالمجان، أو بأجور منخفضة جدًّا، وفي لندن أيضًا نحو مئة متحف، والمقاهي في تركيا تتزود كل منها بخزانة صغيرة من الكتب والمجلات كي يقرأها زبائنها، والحكومة الأمريكية تبعث بلوريَّات كبيرة مشحونة بالكتب إلى الريف؛ كي تعير الفلاحين ما يشاءون منها وتعود بعد أسابيع كي تستبدل بالمجلدات مجلدات أخرى،
ثم إن القواعد الببغاوية في استظهار البرنامج المدرسي وأحيانًا الجامعي، تمنع الطالب من التوسع في الموضوع الذي يدرس، أو الاستطراد منه إلى دراسات أخرى يستمتع بها الطالب الحر الذي لا يتقيد بامتحان.
إنه يجب أن يثقف نفسه حتى لا يفسد.
وإن الحياة الخاوية تحدث سأمًا لا تتخلص منه إلا بالثقافة التي تبعث على الاهتمامات الذهنية وتبسط الآفاق.
فيجب لهذا السبب أن نكون طلبة مدى حياتنا، نحس النمو الثقافي، ونتدرج في التمييز الذهني.
ثم يجب أن نعرف أن حياة الفرد قصيرة محدودة، قلَّما تزيد على ٧٠ أو ٨٠ سنة، ولكن حياة النوع البشري طويلة،
نفهم المغزى من الحياة أكثر مما نفهمه من حياتنا الخاصة،
وانتشار التخصص في أيامنا قد غرس عقيدة فاسدة بين الجمهور، هي أن المعارف — علومًا وفنونًا وآدابًا — لا يمكن أن يدرسها غير المتخصصين، كل في الفرع الذي يختار، وأنه ليس على الطبيب أن يعرف التاريخ، وليس على الأديب أن يعرف الفلك، وليس على المهندس أن يدرس الاجتماع. وهذه عقيدة مخطئة يجب أن تُكَافَحَ حتى تُمْحَى، وصحيح أن المتخصص في علم معين يجب أن يعرف الكثير منه، أصولًا وفصولًا،
ولكن هذا لا يمنع غيره من المثقفين أن يدرسوا الأصول، بل يناقشوها، بل يبينوا ما ربما يكون زيفًا فيها. وليس قصدنا أن نقول إنه يجب على كل منَّا أن يكون موسوعة تحوي جميع المعارف؛ فإن هذا محال، وهو لو قدِّر لما انتفعنا به، ولكن المعارف في الحضارة القائمة مشتبكة،
وليس شك في ضرورة التخصص، ولكن الرجل المثقف يرفض الحدود والسدود، ويتسبيح لنفسه جميع المعارف؛ لأنه يحس أنه محتاج إليها
وأنه ينمو بالاغتذاء بها، بل هو يتطور بها، والتطور حق بل واجب على كل إنسان. فنحن نثقف أنفسنا كي نكبر شخصيتنا، وننمي أذهاننا، وكي نتطور، فلا نموت في سن السبعين ونحن على حال ثقافية قد اكتسبناها من الجامعة أو المدرسة في سن العشرين أو الخامسة والعشرين، بل نظل عمرنا ونحن في دراسة تفتأ تغيرنا التغير الذهني والنفسي؛
بل إن السعادة الشخصية تحتاج إلى الإحساس بالنمو والتغيير والتطور، وأساس كل ذلك هو الفهم ال...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وهذا الفراغ سيثقل علينا عبئًا باهظًا إذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية، ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس أنه يجب على المدارس من الآن أن تعلم تلاميذها كيف يقضون فراغهم أكثر مما يجب عليها أن تعلمهم كيف يحصلون على عيشهم؛
العيش لن يحتاج إلى أكثر من ساعتين في اليوم، وهو لم يعد فنًّا؛ لأن العامل يندمج بين آلاف العمال فيتحيز جزءًا صغيرًا من العمل الذي يؤديه تأدية آلية خالية من المجهود العضلي تقريبًا، أما الفراغ فلن يقل عن ٢٢ ساعة، إذا فرضنا أن ١٠ ساعات منها تُقْضَى في الطعام والنوم، بقيت ١٢ ساعة يجب أن يشغلها بما يرقيه، فإذا جهل الوسائل لهذه الترقية فإنه يحس خواءًا ذهنيًّا لا يطاق، أو هو يملأ فراغه بتسليات سخيفة، أو ربما يقع في غوايات ضارة.
وسبب آخر يجعل هذا التثقيف حتميًّا: أن المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال إلى مجهود ذهني؛ فالقوة العضلية في الإنسان لم تعد لها قيمة كبيرة إلا في المباريات الرياضية، والمصانع تؤسَّس الآن في الأمم المتمدنة التي نرجو أن نصل إلى مستواها،
والعامل في هذا الحال موفر القوة العضلية، وهو يترك عمله مرتاحًا مستعدًّا لأن يقوم بأي مجهود آخر، فهو ليس مثل ذلك العامل الذي يترك عمله عندنا منهوكًا لا يستطيع النظر في الجريدة أو كتاب، حتى لو وُجِدَ الفراغ للقراءة.
العمل لن يجهدنا، ولن يستهلك سوى أقل الوقت، فنخرج منه مرتاحين مستعدِّين للفراغ الذي نملؤه بما يرقينا ذهنيًّا ونفسيًّا وروحيًّا.
الدعاية المضلِّلة. وظهور الأخطار الذرية والهيدروجينية يجعل التثقيف الذاتي ضرورة حتمية؛ لآن غير المثقف لن يفهم هذه الأخطار، بل هو قد يساعد بجهله على الدعاية لها وصنعها.
فإذا ألممنا بجميع هذه الاعتبارات، أمكننا في حقٍّ وصدق أن نقول إن التثقيف الذاتي هو واجب ديني على كل إنسان؛ لأنه الضمان للحكم الصالح على هذا الكوكب.
لأن التثقيف الذاتي يحتاج إلى الفراغ،
«استغلال الفراغ بالتثقيف الذاتي».
يقف عند قراءة القليل والقال في المجلات الأسبوعية، أو قراءة القصص البوليسية،
ويجب أن ندعو هذا المترهل إلى أن يتطور، بأن يرقى ويختار بعض الكتب الأخرى من المؤلفات الدسمة التي تغذي الذهن، وأن نعيب عليه جهله، وأن نعرض عليه ألوانًا حسنة مغرية من الآداب والمعارف تفتح له أبوابًا لعالم آخر يجهله، وتحمله على أن يبحث عن قصده في الحياة.
والفراغ إذا لم يملأ بالكتاب سوف يُملأ بأي لهو آخر قد يضر بالصحة الجسمية أو النفسية أو المالية، ثم الكتاب مع ذلك يمكن أن يكون من الأثاث الفاخر للبيت،
وليس مفر للزوج، إذا شاء أن يعيش سعيدًا في بيته، مثقفًا في ذهنه، مربيًا لنفسه، أن يرفع مستوى زوجته، وأن يجعل الثقافة جوًّا مألوفًا في البيت، فإذا كانت الجريدة والمجلة تصِلَان إلى البيت في نظام لا ينقطع؛ فإن حديث أعضاء البيت يرتفع من القيل والقال إلى السياسة العامة، وطنية أو عالمية، وصحيح أن معظم مجلاتنا لا تسمو على القيل والقال، لكن الزوج البصير يمكنه أن يناقش أعضاء عائلته في الشئون الخطيرة، ويوجههم، فينتفع
ففي مجتمع رجعي يعيش الفرد وهو خاضع في بيته وحكومته وتصرفه لألوان من العادات كأنها شعائر دينية يجب ألَّا تُخَالَفُ أو تُنَاقَضُ، وهذه الحال تنتهي به إلى أن يخضع في تفكيره لقواعد وسنن يجب ألَّا يخالِفها،
كان المجتمع رجعيًّا لأنه مرهق بعبءٍ ثقيل من التقاليد الموروثة،
والناس يتنفسون بعقولهم كما يتنفسون برئاتهم، وهم يحتاجون إلى حركة الفكر كما يحتاجون إلى حركة الهواء كي يصحوا وينتعشوا،
وعندئذٍ يمرضون فيفقدون صحة الجسم والعقل، فلكي تنمو أذهاننا، وكي نربي أنفسنا بالثقافة البشرية العامة،
ولا قيمة لاستقلال تناله أمة بعد التخلص من الاستعمار إذا كان الرجعيون أو المستبدُّون سيتولون الحكم ويثقلونها بقيود الفكر والجسم، فالمستبد والرجعي والاستعماري سواء.
بل نحتاج إلى أن نبين أيضًا أن الوجاهة والمكانة والاحترام تُنال كلها بقليل من الثقافة،
الثقافة هي ما نفكر به، والحضارة هي ما نعمل به.
لأنه يفكر ويعمل بها معًا.
وفي مجتمع أمثل لما نصل إليه، تصير الثقافة والحضارة شيئًا واحدًا في كثير من الشئون؛
تجمع بين جدرانها عشرات أو مئات الرسوم والتماثيل، يدخلها الجمهور من أبواب عليها حرس، فيتنزه المتفرج برؤية الألوان العديدة من الجمال الفني، ثم يخرج بعد هذا الاستمتاع الثقافي إلى منزله، حيث الحرمان من صورة أو تمثال، فهنا الثقافة تختلف عن الحضارة؛ فان الأولى مخزونة في متحف، والثانية معروضة في البيت. ولكن المجتمع الأمثل هو الذي يجعل كل بيت من بيوتنا متحفًا، بل يجعل المدينة بشوارعها
وجدرانها حافلة بالتماثيل والصور والمباني الأنيقة، وعندئذٍ تكون الثقافة هي نفسها الحضارة.
أن تفكيرنا يؤثر في الحضارة؛ لأننا نخرج منه بأن نقول كما قال سقراط: «لست أثينيًّا ولا يونانيًّا إنما وطني هو العالم»،