More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
الكلمة أكبر الفتوح الإنسانية في عالم الكشف والاختراع، لو لم يخترعها الإنسان لوجب أن يخترع ما يساويها وينوب عنها؛ لأنه لا حياة له بغير التفاهم بينه وبين أبناء نوعه، ولا تفاهم على شيء من الأشياء بغير الكلمة أو ما يدل دلالتها …
هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب، وهناك ضحك العطف والمودة، وهناك ضحك الشماتة والعداوة، وهناك ضحك المفاجأة والدهشة، وهناك ضحك المقرور، وضحك المشنوج، وضحك السذاجة، وضحك البلاهة، وما يختاره الضاحك وما ينبعث منه على غير اضطرار.
«الملاحظة المزدوجة أو الملاحظة اللاذعة»،
الأفانين «الآبدة»، أو العبارة الشاردة،
وكان موظفان يعملان في مكتب واحد، يفرغ أحدهما من عمله نحو الساعة الرابعة كل يوم، ويبقى الآخر بعده ساعتين أو أكثر لإنجاز عمله، فسأل هذا صاحبه ذات يوم: «كيف تنجز عملك في هذا الموعد؟!» قال صاحبه: «إنني لا أنجزه أيها الزميل، ولكنني كلما صادفت مسألة معضلة كتبت على الورقة: «يعرض على مستر سمث»، ولا بد أن يكون في هذا المكتب «مستر سمث» واحد على كل حال!»
والمفارقة إحدى هذه المضحكات، وعلى نحوها نصيحة الناصح: «لا تقصَّ على الأصلع حكاية يقف لها الشعر، فهو جهد ضائع»، وعلى نحوها تحذير المحذر: «لا تقتل الرجل الذي قبَّل زوجتك اليوم، فإنك لم تقبلها منذ سنة!»
لا تنتفخ وأنت تعلم أن الصفر أسمن الأرقام!
«الرجل الذي يسوق بيد واحدة يصطدم بالكنيسة.»
تقص المدرسة على الأطفال قصة الحَمَل الذي لم يسمع كلام أمه فأكله الذئب، فيقول أحد الأطفال في براءة أو في خبث: «والحَمَل الذي سمع كلامها أكلناه نحن!»
وما من قارئ عربي ألَمَّ بعلوم البلاغة بعض الإلمام إلا وهو يعرف التورية والمقابلة والمشاكلة والهزل الذي يراد به الجد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، والإضمار في مقام الإظهار، وإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، والتشبيه الملفوف والمفروق، والفصل والوصل، والقلب والالتفات والتغليب، والكناية والتحريف والتصحيف.
بعض الناس يحبون المتعة ولا يعنيهم لماذا يستمتعون بها، وبعضهم تتم متعته بها إذا عرف أسبابها.
كانت لي في نحو السادسة عشرة مفكرة يومية أدوِّن فيها خواطري وتعليقاتي، جمعتها بعد ذلك باسم «خلاصة اليومية»، وحذفت منها عند الطبع كثيرًا من الخصوصيات التي ترتبط بتلك الخواطر لا أذكره الآن.
ولكنني لاحظت فيها أن المضحكات أكثر من الضحك،
إن المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون،
«ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورًا برجحانه فهو يضحك في الأحوال التي رجحانه فيها معروف غير محدود؛ فالرجل المعروف المكانة ليس يضحك من تصرف الصعلوك الوضيع وإن كان مضحكًا في ذاته، إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهي بطبقته أو من أهل بلاد ليباهي ببلاده.»
«في تلك المواضع يقول المسلم متمثلًا: لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه لا يريد أن يكون ضعيفًا إلا أمام الله الذي يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم في الضعف أمام حوله وطوله، والأطفال المستضعفون أكثر الناس بكاء لأنهم أقلهم اقتدارًا … على أن عدم البكاء لا يفيد في أكثر الأحيان القدرة على دفع المصاب، فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار على كل حال.»
«بالقفش»
وصفع رجل «جحا» على قفاه بعرض الطريق يريد أن يسخر منه: فأخذ جحا بتلابيبه إلى القاضي ولم يقبل منه اعتذاره بالخطأ فيه؛ لأنه ظنه من أصدقائه الذين يمازحونه بمثل هذا المزاح الثقيل. وكان الرجل العابث من معارف القاضي فأحب أن ينجيه من العقاب، وحكم لجحا بأن يصفعه كما صفعه أو يتقبل منه عشرة دراهم على سبيل الجزاء أو التعويض. وطمع جحا في الدراهم فسأل القاضي المدعى عليه: أمعك الدراهم؟ وفطن صاحبنا لغرض القاضي فقال: كلا، ولكنني أحضرها بعد قليل من البيت. وأذن له القاضي بالانصراف لإحضار الدراهم، فذهب ولم يعد. وطال الانتظار على جحا، فأدرك حيلة القاضي واقترب منه كأنه يهمس في أذنه، ثم صفعه صفعة عنيفة، وقال له وهو
...more
aqeel liked this
وضاع حماره، فأقسم ليبيعنه إن وجده بدينار واحد، ثم وجده وندم على حلفه، ولم يشأ أن يحنث في قسمه، فاحتال عليه ليبِرَّ باليمين، ويحفظ على نفسه ثمن الحمار، وعرض الحمار في السوق وقد ربط إلى عنقه حذاءً قديمًا، فجعل ينادي عليه: الحمار بدينار والحذاء بعشرة دنانير، ولا يباعان على انفراد!
جاء الشرطي برجلين إلى مجلس القضاء، وجحا عند القاضي يحدثه في بعض شئونه، فعرض الشرطي قضية الرجلين، وقال إنه وجد في الطريق بين بيتيهما أقذارًا ممنوعة، وادَّعى كلٌّ منهما أن جاره مُطالَب بإزالتها؛ لأنه هو الذي وضعها في عرض الطريق. وأراد القاضي أن يعبث بجحا ليسخر منه ويفضح دعواه؛ لأنه كان يدَّعي العلم ويتصدى للإفتاء، فأحال عليه القضية، وسأله أن يقضي فيها بالحق بين الرجلين. فقبل جحا مقترح القاضي، وسأل الشرطي: هل كانت الأقذار أقرب إلى دار هذا أو دار ذاك؟ قال الشرطي: إنها كانت في الوسط بينهما. قال جحا: إنما يزيلها إذن مولانا القاضي؛ لأنها في الطريق العام، ومولانا القاضي هو المسئول عن المدينة.
والخلاصة من الناحية التاريخية — وهي أقل النواحي ثبوتًا وأهمية في هذا المبحث — أننا نستطيع أن نتقبل أبا الغصن جحا كما ذكره الميداني في أمثاله كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها، ولا داعية للشك في إمكان وقوع النوادر المنسوبة إليها، فإن الذين يشبهون أبا الغصن هذا في غفلته وسهواته يوجدون في كل بيئة، وفي كل زمن، وإن تنوعت المناسبات والأحوال التي تكشف للناس عما طبعوا عليه من الغفلة.
أما جحا التركي المسمى بالخوجة نصر الدين فالمنسوب إليه يملأ مئات الصفحات، وبين أيدينا كتاب بالتركية مطبوع في الآستانة بالحرف الدقيق (سنة ١٣٢٨ هجرية) يقع في مائتي صفحة وخمس وخمسين، ولا يستوعب كل ما نسب إلى جحا أو إلى الخوجة نصر الدين من نوادر الحكمة أو نوادر الغفلة والبلاهة.

