More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
وقال أبو العباس المبرد في بعض أحاديثه: «لا أحتاج إلى وصف نفسي، لعلم الناس بي أنه ليس أحدٌ من الخافقين تختلج في نفسه مشكلةٌ إلا لقيني بها، وأعدَّني لها، فأنا عالمٌ ومتعلم وحافظٌ ودارس، لا يخفى عليَّ مشتبهٌ من الشعر والنحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، وربما احتجت إلى اعتذارٍ من فلتةٍ أو التماس حاجةٍ، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عينيَّ، ثم لا أجد سبيلًا إلى التعبير عنه بيدٍ ولا لسانٍ، ولقد بلغني أنَّ عبيد الله بنَ سليمان ذكرني بجميلٍ، فحاولت أنْ أكتب إليه رقعةً أشكره فيها وأعرض ببعض أموري، فاتبعت نفسي يومًا في ذلك فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عمَّا في نفسي فينصرف لساني إلى
...more
واللغوي لا يزال يحوط نفسه بالحذر والخوف، والوساوس والبلابل، فإن مشى خُيِّلَ إليه أنه يمشي على رملةٍ ميثاء، وإنْ تحرك خُيِّلَ إليه أنَّ تحت قدميه حفرةً جوفاء، حتى يقعد به خوفه ووسواسه عن الغاية التي يريد الوصول إليها، على أنَّ الكاتب لا يبلغ مرتبة الكتابة إلا إذا نظر إلى الألفاظ بالعين التي يجب أن ينظر بها إليها، فلم يتجاوز بها منزلتها الطبيعية التي تنزلها من المعاني، وهي أن تكون خدمًا لها وخولًا، وأثوابًا وظروفًا، فإذا كتب تركها وشأنها وأغفل أمرها حتى تأتي بها المعاني وتقتادها طائعةً مرغَمةً، والمعاني هي جوهر الكلام ولبه، ومزاجه وقوامه، فما شغل الكاتب من همته بغيرها أزرى بها حتى تُفلت من يده،
...more
إن كان صحيحًا ما يتحدث به الناس من سعادة الحياة وطيبها وغبطتها ونعيمها، فسعادتي فيها أن أعثر في طريقي في يوم من أيام حياتي بصديقٍ يَصدُقني الود وأَصدُقه، فيقنعه مني ودي وإخلاصي، دون أن يتجاوز ذلك إلى ما وراءه من مآرب وأغراض، وأن يكون شريف النفس، فلا يطمع في غير مطمعٍ، شريف القلب فلا يحمل حقدًا ولا يحفظ وترًا، ولا يحدِّث نفسَه في خلوته بغير ما يحدث به الناس في محضره، شريف اللسان فلا يكذب ولا ينُمُّ ولا يُلِمُّ بِعِرضٍ ولا ينطق بهُجرٍ، شريفَ الحب فلا يحب غير الفضيلة ولا يبغض غير الرذيلة.
أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كَرَّةُ الطَّرْف أن افتقدته فما وجدته، ولو أنك أجملت في أملك لما غلوت في حزنك، ولو كنت أنعمت نظرك فيما تراءى لك لرأيت برقًا خاطفًا ما تظنُّه نجمًا زاهرًا، وهنالك لا يبهرك طلوعه فلا يفجعك أُفُوله.
لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التَّلاقِ، ما كانت تَرحَةُ الفراق.
جميع ما في يد الإنسان عاريةٌ مستردَّةٌ، ووديعةٌ موقوتةٌ، وأنَّ هذا الامتلاك الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعةٌ من خدع النفوس الضعيفة، ووهمٌ من أوهامها.
فويلٌ للرجل الصادق من حياةٍ نَكِدةٍ لا يجد فيها حقيقةً مستقيمة! وويلٌ له من صديقٍ يخون العهد، ورفيقٍ يكذب الود، ومستشارٍ غير أمين، وجاهلٍ يفشي السر، وعالمٍ يُحَرِّفُ الكلم عن مواضعه، وشيخ يدعي الولاية كذبًا، وتاجرٍ يغش في سلعته، ويحنث في أيمانه، وصحفيٍّ يتَّجر بعقول الأحرار كما يتجر النخاس بالعبيد والإماء، ويكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباحٍ ومساء!
وكنت امرأة أجمع في نفسي جميع ما يمتُّ به النساء إلى الرجال، فما خنته، ولا ضِقتُ ذرعًا بأمره، ولا قَطَّبتُ في وجهه مرة، ولا أتلفتُ له مالًا، ولا نقضتُ له عهدًا؛
كما يُحْكَى أنَّ شحاذًا مقطوع الساق قد وضع مكانها أخرى من الخشب، تَقَابَل مع آخر كفيف البصر، فتنافسا في مصيبتيهما أيتهما أقذى للأعين وأوقع في النفس وأجلب للرحمة، فقال الأول للثاني: «لقد وهبك الله نعمة العَمَى، ومنحك بِسَلْبِ ناظريك أفضلَ حبالةٍ لاصطياد القلوب، واستفراغ الجيوب.» فقال له صاحبه: «وأين يبلغ العمى من هذه الرجل الضخمة الثقيلة التي تجلب في كل عامٍ وزنها ذهبًا؟!»
سألت رجلًا من وجوه الريف المعروفين بالبر والإحسان عن كمية ما ينفقه كل عامٍ في هذا السبيل فأطلعني على جريدة حسابه، فرأيتها هكذا:
إنفاق ما يجتمع من المال على تربية اليتامى الذين لا كَاسِبَ لهم، والقيام بِأَوَدِ العاجزين والعاجزات عن الكسب، وتفقد شئون الذين نَكَبَهُمُ الدهر وتنكَّر لهم بعد العز والنعمة، وصيانة ماء وجوههم أن تراق على تراب الأعتاب، والإنفاق على تعليم من يُتَوسَّمُ فيهم الذكاء والفطنة ويرجى أن تنتفع بهم الأمة في مستقبلها من أبناء الفقراء، إلى أمثال هذه الأعمال الخيرية الشريفة التي لا يتحقق الإحسان بدونها، ولا ينصرف معناه إلا إليها.
كل غرض تزعمون أنكم تسعون إليه لإبلاغ هذه الأمة أمنيتها من السعادة والهناء، لا قيمة له بعدما أضعتم عليها غرضها من الاتحاد والائتلاف، بل لا سبيل لها إلى بلوغ غرضٍ من أغراضها إلا إذا كان الاتحاد قائدها إليه، ودليلها عليه.
من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة.
وقوة الذاكرة قَدْرٌ مشترك بين الذكيِّ والغبيِّ، والنابه والأبله؛ لأن الحافظة مَلَكَةٌ مستقلة بنفسها عن بقية الملكات.
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس، وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويرًا صحيحًا، لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فإن عَلِقَتْ به آفة من تَيْنِكِ الآفتين فهو العِيُّ والحصر.
وكثيرًا ما تجد بين الجهلاء من تُعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه،
أصحاب الصحف، وكتاب الرسائل، والمؤلفون، وخطباء المجامع، وخطباء المنابر، كلهم يدعون إلى الحق، وكلهم يعظون وينصحون، ويأمرون بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرًّا، أو يلاقي في طريقها شرًّا.
أيُّ قيمةٍ لحياة امرئ لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه، وتذليلها على الرضا بما يرضى به الناس،
أيُّ قلب يستطيع أن يستقر بين جَنْبَيْ صاحبه ساعةً واحدة فلا يخفق وجدًا أو يطير جزعًا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر المشركين إشراكًا بالله، وأوسعهم دائرةً في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟!
أنا لا أعجب لشيءٍ عجبي لهذا الحاسد، يَنْقِمُ على محسوده نعم الله عليه، ويتمنى لو لم تبقَ له واحدةٌ منها، وهو لا يعلم أنه في هذه النقمة وفي تلك الأمنية قد أضاف إلى نِعَمِ محسوده نعمة هي أفضل من كل ما في يديه.
ليس بين النعم التي يُنْعِمُ بها الله على عباده نعمةٌ أصغر شأنًا وأقلُّ خطرًا من نعمة ليس لها حاسدٌ، فإن كنت تريد أن تصفو لك النعم فقف بها في سبيل الحاسدين، وألقها في طريق الناقمين، فإن حاولوا تحقيرها وازدراءها فاعلم أنهم قد منحوك لقب «المحسَّد»، فليهنأ عَيْشُكَ، وَلْيَعْذُبْ مَوْرِدُكَ!
وحسب الإنسان من لذة العيش وهنائه في هذه الحياة قلبٌ يخفق بحبه، ولسانٌ يهتف بذكره.
قول أبي عُيَيْنَةَ الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية، وكان كفيف البصر: «اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي داؤد أربعين سنة، فما سمعته يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام، بل يقول: اخرج معه يا غلام.»
معتقدًا أنَّ الحياة الدنيا معبرٌ يعبره إلى الحياة الأخرى، وأنه محاسبٌ في أخراه حسابًا غير يسيرٍ على ما فرط في أولاه، وأنَّ الله لا يقبل منه في موقف الحساب من المعاذير إلا ما رَخَّصَ له فيه، أو رفع عنه مَئُونَتَهُ. فلا سبيل له إلا أنْ يلبَس ثوب الإسلام مَعْلَمًا، لا خائفًا ولا مترقبًا، ولا متنكرًا ولا متكتمًا، ولا محتفلًا بقول العيسوي أو الموسوي له: «أنت متعصبٌ!» ولا بقول الملحد أو الجاحد: «أنت مخرفٌ!» فهو ليس متعصبًا بل متمسكًا، ولا مخرفًا بل مستيقنًا. وأنْ يعترف به جهرةً في جميع مواطنه ومواقفه، لا مُسْتَحْييًا ولا خَجِلًا، قد انقضى عهد الإسرار والإخفاء من تاريخ ذلك اليوم الذي أسلم فيه عمر بن
...more
التمسك غير التعصب، والتهاون غير التسامح، فليس كل متمسكٍ متعصبًا؛
إنَّ الإبهام والإغماض في التدين يقتل الدين في نفوس المتدينين قتلًا لا حياة له من بعده، فلا بد للمسلم من أن يكون مسلمًا في جميع حالاته وشئونه، وإسراره وإعلانه، فلا يستحيي أن يلبس عمامته في باريس كما يلبسها في مصر. وأنْ يقيم الصلاة لوقتها في قصر الفاتيكان كما يقيمها في مسجد قريته.
العقل قوةٌ يقتدر بها المرء على الاستمساك في مزالق الشهوات وبين مهابِّ الأهواء، فموقفه أمامها موقفٌ واحد، فإما أن يغلبها جميعَها أو يغلبُه جميعُها.
أما ما يراه الرائي أحيانًا من استهتار الرجل في بعض الشهوات استهتارًا يستهلك نفسه ويستهوي عقله، وزهده في بعضها زهد الأعفَّاء المستمسكين؛ فذلك لأنه رغب في الأولى فاسترسل وراء رغبته، ولم يدعُه إلى الأخرى داعٍ من خواطر قلبه ونزوات نفسه، ولو دعاه لخفَّ إليه ولبَّاه، ولن يسمى الرجل زاهدًا أو عفيفًا إلا إذا أمسك نفسه عن شهوةٍ تدعوه إليها فيدافعها، وتتلهب بين جنبيه فيطفئها.
وهكذا الأمم الضعيفة، لا مفرَّ لها من العبودية لحملة التيجان، أو حملة البيان!
الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخَوَر، وما يصل إليه العقل من الاضطراب والهوس. وأحسب ألا يقدم الإنسان على الانتحار وفي نفسه ذرةٌ من العزم، أو في عقله لمحةٌ من الحزم.
ما سُمِّي القاتل مجرمًا إلا لأنه قاسي القلب متحجر الفؤاد، وأقسى منه قاتل نفسه؛ لأنه ليس بينه وبينها من الضغينة والموجدة ما بين القاتل والمقتول، فهو أجرم المجرمين، وأفظع القاتلين.
ولن تستقر مَلَكَة البيان في النفس حتى يقف المتأدب بطائفةٍ من شريف القول — منظومه ومنثوره — وقوف المتثبت المستبصر، الذي يرى المعنى بعيدًا فيمشي إليه، أو نازحًا فيستدنيه، محلِّقًا فيصعد إليه أو متغلغلًا فيمشي في أحشائه حتى يصيب لُبَّه، ولا يزال يعالج ذلك علاجًا شديدًا ينضح له جبينه، وتنبهر له أنفاسه حتى تتكيف ملكته بالكيفية التي يريدها.
ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر وافتنُّوا في ذلك افتنانًا بَعُد به عن مكانه، وعندي أنَّ أفضل تعريف له أنه «تصويرٌ ناطقٌ»؛
أيكون لسفينة البر — وهي لا تحمل إلا الرجل أو الرجل ورديفه — مائتا اسم، ومئينٌ من الأسماء لأعضائها وأوصالها ورحلها وكورها، ولا يكون لسفينة البحر، وهي المدينة المتنقلة في الدأماء قليل من ذلك الحظ الكثير؟!
كان لعرب الجاهلية الأولى مؤتمرٌ لغويٌ يعقدونه في كل عامٍ بالحجاز بين نخلة والطائف يجتمع فيه شعراؤهم وخطباؤهم، يتناشدون ويتساجلون ويتحاورون، ويعرضون أنفسهم على قضاةٍ من نوابغهم يوازنون بينهم، ويحكمون لمبرزهم على مقصرهم حكمًا لا يرد ولا يعارض. ولقد شعروا بضرورة عقد هذا المؤتمر عندما أحسوا بتفرق لغتهم بين اليمن والشام، ونجدٍ وتهامة؛ لصعوبة التواصل في تلك البقاع، وبُعد ما بين قاصيها ودانيها؛ فكان مطمح أنظارهم في ذلك المجتمع توحيد لغاتهم، وجمع شتاتها والرجوع بها جميعها إلى لغة قريش التي هي أفصح اللغات وأقربها مأخذًا، وأسهلها مساغًا وأحسنها بيانًا.
أعجب ما أعرف من أمر نفسي أني أحب الجمال خيالًا أكثر مما أحبه حقيقة،
ويكون مثلي مثل ذلك الرجل الذي أحب امرأةً فاستزارها فمانعته حينًا، ثم زارته، فلما رآها تركها وذهب لينام، فعجبت لشأنه وسألته ما باله! فقال لها: «أريد أن أنام علني أرى طيفك في المنام!»
إني أتمنى على الله الغنى، لا لأني في حاجةٍ إلى المال، فقد رزقني الله منه ما يغنيني أن أطلب لنفسي من بعده مزيدًا، بل لأجمع خمسةً من كتاب هذه الأمة، وخمسة من شعرائها، وعشرة من علمائها في منزلٍ واحد، وأسبغ عليهم وعلى عيالهم من نعمة العيش، ونعمة المال ما تثلج به صدورهم، وتطمئن به نفوسهم، ثم أقول لهم: «دونكم هذه الأمة فاكتبوا لها من الرسائل، وانظموا لها من القريض، وألفوا لها من الكتب ما تعلمون أنه يأخذ بضبعيها، ويطير بها من قرارة الجهل إلى سماء العلم، وكونوا فيما تأخذون به أنفسكم أحرارًا غير مقيدين، وطلقاء غير مأسورين، لا يزعجكم عن مكانكم مزعجٌ، ولا يكدر صفاءكم مكدرٌ، ولا يعجلكم من أمركم معجل، ولا
...more
الكاتب العاقل يخدم عواطف الأمة بتنميتها وتهذيبها، وتحويل تيارها إلى الخطة المثلى، أما الكاتب المنافق فإنه يستخدمها لنفسه وإن أفسدها على أصحابها.
فمن لنا اليوم بتلك السعادة التي أثكلتنا إياها المدنية الغربية يوم أظلتنا بعلومها ومعارفها، ومخترعاتها الخالبة، وزخارفها اللامعة الباطلة، فانقلبت المعيشة البيتية الاجتماعية أفراديةً محضة، فالأخوان متناكران، والزوجان متنافران، والولد شقيٌ بأبيه، والأب شقيٌ بولده، وكأن ساحة المنزل ساحة الحرب، لا ترى فيها غير وجوهٍ مقطبة، ونفوسٍ منقبضة، وأشلاء فوق أشلاء، ودماء إثر دماء، وشقاء ليس يعدله شقاء!
ومن كان في شك من هذه الحقائق، فإني أكِله إلى جداول القضايا في المحاكم، فإن لم يرَ أن أكثر المخاصمات فيها — خصوصًا المدنية منها — واقعةٌ بين الأقارب وذوي الرحم، فله حكمه ما شاء.
والدين خلق، شأنه كبقية الأخلاق لا يرسخ في النفس إلا بتكرر الصور الدينية، وتداولها عهدًا طويلًا، فإن بعد عهدها به أغفلته وأنكرته. وكذلك كان شأن هؤلاء الأولاد المساكين، فقست قلوبهم، وجمدت نفوسهم، وفقدوا بفقد دينهم أطيب عزاء يستروحه الإنسان في هذه الحياة المملوءة بالمصائب، الحافلة بالكوارث والهموم.
أيها الناشئ، إنَّ من الناس قومًا قد ضعفت نفوسهم عن احتمال ثقل الدين، وسلطان أمره ونهيه، فخرجوا عليه ونبذوا طاعته. ثم علموا أنَّ الناس سيأخذون عليهم ضعفهم وعجزهم، فلم يجدوا معذرةً يعتذرون بها إليهم غير دعوى إنكار الدين استثقالًا وتبرمًا، لا تقلدًا وتمذهبًا، وما هم بمنكريه ولا جاحديه. فاعلم أنَّ الله سيبتليك بهم، وأنهم سيزينون لك إنكار ما يزعمون أنهم ينكرونه، وسيخيلون إليك أنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد من هذه المدنية الحاضرة، وأن تنال الحظوة الباسقة في نفوس أصحابها إلا إذا تنكرت لدينك وتسلبت منه، وخفرت ذمته. فاحرص الحرص كله على أن لا يعلق بنفسك عالقٌ من هذه الخيالات الباطلة.
قال لي بعض الناس: «إنَّ قومًا يغرقون في مدحك فهلَّا زجرتهم؟» فقلت له: «إنَّ آخرين قد أغرقوا في ذمي فلم أصنع شيئًا فدع الأكاذيب يقرع بعضها بعضًا، فربما استطارت من تلك المعركة شرارة تضيء للناس مكان جوهرة الحقيقة المذالة تحت الأقدام فيلتقطونها.»
ربما كان لك من أبويك، أو من ذوي رحمك ممن تولَّوا شأنك في مفتتح عمرك من لم تساعده شئون دهره، أو عصور نشأته على أن ينال حظًّا من العلم والمعرفة مثل ما نلت، فإيَّاك أن يدعوك ذلك إلى تسفيهه أو تجبيهه، أو السخرية به، أو الإدلال عليه! فإنك إنْ فعلت خَسِرْت من الأدب أضعاف ما كسبت من العلم.

