More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
December 2, 2021 - February 12, 2022
أيها الغد! إنَّ لنا آمالًا كبارًا وصغارًا، وأمانيَّ حسانًا وغير حسانٍ، فحدثنا عن آمالنا، أين مكانها منك؟ وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها؟ أَأَذْلَلْتَها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين؟ لا، لا! صن سرك في صدرك، وأبقِ لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثًا واحدًا عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا، فإنما نحن أحياءٌ بالآمال وإنْ كانت باطلةً، وسعداء بالأماني وإنْ كانت كاذبةً: وليست حياة المرء إلا أمانيا إذا هي ضاعت فالحياة على الأثَرْ
ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشفت كِلَّتُه البالية عن خيالٍ لم يبق منه إلا إهابٌ لاصقٌ بعظمٍ ناحل، فقلت: «أيها الخيال الشاخص ببصره إلى السماء، قد كان لي في إهابك هذا صديقٌ محبوبٌ فهل لك أنْ تدلني عليه؟» فبعد لأيٍ ما حرك شفتيه وقال: «هل أسمع صوت فلان؟» قلت: «نعم، ممَّ تشكو؟» فزفر زفرةً كادت تتساقط لها أضلاعه، وأجاب: «أشكو الكأس الأولى.» قلت: «أيَّ كأس تريد؟» قال: «أريد الكأس التي أودعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وهأنذا اليوم أودعها حياتي.» قلت: «قد كنت نصحتك ووعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه اليوم، فما أجديت عليك شيئًا.» قال: «ما كنت تعلم حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما كنت
...more
أيها القمر المنير كان لي حبيبٌ يملأ نفسي نورًا، وقلبي لذةً وسرورًا، وطالما كنت أناجيه ويناجيني بين سمعك وبصرك، وقد فرق الدهر بيني وبينه، فهل لك أنْ تحدثني عنه وتكشف لي عن مكان وجوده؟ فربما كان ينظر إليك نظري، ويناجيك مناجاتي، ويرجوك رجائي. وهأنذا كأني أرى صورته في مرآتك، وكأني أراه يبكي من أجلي كما أبكي من أجله، فأزداد شوقًا إليه وحزنًا عليه.
فتشت عنها بين رجال الدين ورجال الصحف، فرأيت أنهما يتَّجران بالعقول في أسواق الجهل، ورأيت كلًّا منهما قد ثَغَر له في كل رأس من رءوس البشر ثُغرةً ينحدر منها إلى العقول فيفسدها، والقلوب فيقتلها ليتوسل بذلك إلى الذخائر فيسرقها، والخزائن فيسلبها، هذا باسم السياسة وذاك باسم الدين.
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطير
قال: «الإحسان عمل الخير، والإساءة عمل الشر، لذلك لا ترى بيننا من يحدِّث نفسه بالإضرار بأخيه، أو من يُقصِّر في دفع الأذى عنه.» فقلت في نفسي: «ليت الفقهاء الذين ينفقون أعمارهم في الحيض والاستحاضة، والمذي والودي، والحَدَثِ الأكبر والحَدَثِ الأصغر، وليت الكلاميين الذين يسهرون الليالي ويقرِّحون المآقي في عَينيَّة الصفات وغيريتها، والجوهر والعرض، والحدوث والقدم، والدور والتسلسل، وليت غُلاة المتصوفة يعرفون من سرِّ الدين وحكمته والغرض الذي قام له ما يعرف هؤلاء البُلْهُ الأغرار الذين لا يفهمون معنى الجنة والنار ولا يميزون بين الدين والتين!»
لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التَّلاقِ، ما كانت تَرحَةُ الفراق.
ستقول: إني غير سعيد؛ لأن بين جنبي قلبًا يلم به من الهم ما يُلمُّ بغيره من القلوب، أجل فليكن ذلك كذلك، ولكن أطعم الجائع واكس العاري وعزِّ المحزونَ وفرِّج كربة المكروب يكن لك من هذا المجتمع البائس خير عزاءٍ يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحَلَكِ، فالبدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرُج إلا من مهد الظلام، لقد بَليتِ اللذاتُ كلها ورثت حبالها وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد، ولم يبق ما يعزي الإنسان عنها إلا لذة واحدة، هي لذة الإحسان.
ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزونٍ أو مفئودٍ فتبتسم سرورًا ببكائك، واغتباطًا بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطورٌ من نورٍ تُسجِّل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان.
إنَّ اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء، والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقر البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي!
«أيها الرجل، لو وَفيت لزوجك لوَفتْ لك، ولو أدَّبت ولدك لعَنَاه أمرك، ولو أحسنت اختيار صديقك ما خانك، ولو رحمت نفسك ما خسرت حياتك.» فأغمض عينيه وهو يقول: «فلتكن مشيئة الله.» وهكذا فارق هذا المسكين حياته مفجوعًا بزوجه وولده، وصديقه ونفسه، وبستانه وقصره. رُبَّ رَكْبٍ قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذاك الدهر حالًا بعد حال
شريكك في الجريمة هذا المجتمع الإنسانيُّ الفاسد الذي أغراك بها، ومهَّد لك السبيل إليها، فقد كان يُسمِّيك شجاعًا إذا قتلت، وذكيًّا فَطِنًا إذا سرقت، وعالمًا إذا احتلت، وعاقلًا إذا خَدعْتَ، وكان يهابك هيبته للفاتحين، ويُجلُّك إجلاله للفاضلين. وكثيرًا ما كنت تحب أن ترى وجهك في مرآته، فتراه وجهًا أبيضَ ناصعًا، فتتمنى لو دام لك هذا الجمال، ولو أنه كان يُؤْثِرُ نُصحَك ويَصدُقك الحديثَ عن نفسك لمثَّل لك جريمتك في نظرك بصورتها الشوهاء، وهنالك ربما وددت بجدْعِ الأنف لو طواك بطن الأرض عنها، وحالت المنية بينك وبينها.
لا يستطيع الرجل الفاضل أن يبلغ غايته من عيشه إلا إذا استطاع أن ينزل من نفوس الناس منازل الحب والإكرام، ولن يستطيع ذلك إلا إذا عاش بين قوم يعرفون الفضيلة ويعظمون شأنها، ولن يكونوا كذلك إلا إذا كانوا فضلاء أو أشباه فضلاء. والسواد الأعظم الذي يمسك بيده أسباب العيش، ويملك ينابيعه سوادٌ أبله ساذجٌ يبغض الصادق؛ لأنه يصادره في ميوله وأهوائه، وينقم منه جهله وغباوته، ويحب الكاذب؛ لأنه لا يزال يُزَيِّنُ له أمره حتى يحبب إليه نفسه، فلا بُدَّ للصادق من صدرٍ يسع هموم العيش وقلبٍ يحتمل بغض القلوب؛ ليبلغ غايته من إصلاح النفوس وتهذيبها، كما يبذل المجاهد حياته ودمه ليبلغ غايته من الفوز والانتصار.
أتريد أيها الرجل أن تُسمَّى صادقًا، وأن تنال أشرف لقبٍ يستطيع أن يناله بشرٌ، وأن يوافيك المجد طائعًا مُذْعِنًا دون أن تبذل في سبيله شيئًا من مالك أو راحتك؟ إنك إن أردت ذلك — أو قَدَّرْتَهُ في نفسك — تظلم الفضيلة ظلمًا بينًا، وترخص قيمتها، وتلقي بها في مدارج الطرق وتحت مواطئ النِّعال.
ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية ولا يذرف دمعةً واحدة عليها.
إذا كان لك صديقٌ تحبه وتواليه، ثم هجمت من أخلاقه على ما لم يَحْلُ في نظرك ولم يتفق مع ما علمت من حاله وما اطَّرد عندك من أعماله، أو كان لك عدوٌّ تذمُّ طباعه، وتنقم منه شئونه، ثم برقت لك من جانب أخلاقه بارقة خير، فتحدَّثت بما قام في نفسك من مؤاخذة صديقك على الهفوة التي ذممتها، وحَمْدِ عدوك على الخلة التي حمدتها، عدَّك الناس مُتَلَوِّنًا، أو مُخَادِعًا، أو ذا وجهين، تمدح اليوم من تذمُّ بالأمس، وتذم في ساعةٍ من تمدح في أخرى، وقالوا: إنك تظهر ما لا تُضْمِرُ، وتخفي غير الذي تبدي. ولو أنصفوك لأعجبوا بك وبصدقك، ولأكبروا سلامة قلبك من هوى النفس وضلالها، ولسمَّوا ما بدا لهم منك اعتدالًا لا نفاقًا،
...more
ساهرت الكوكب ليلة أمس حتى مَلَّني ومللته، وضاق كلٌّ منا بصاحبه ذرعًا، وقد وقف الهمُّ بيني وبين الكرى، أجذبه فيدفعه، وأدنيه فيبعده، حتى أسلس قيادُه، وسكَن جماحُه.
وهو يصرخ ويقول: «أهلكتني يا أبا حنيفة!» فسألت صاحبي: «ما ذنب الرجل؟» فقال: «إنه كان في حياته يتَّخذ في أعماله ما يسمونه «الحِيَلَ الشرعية»، فكان يَهَبُ ماله لأحد أولاده على نية استرداده قبل أن يَحُولَ عليه الحَوْلُ ليتخلَّص من فريضة الزكاة، ويطلِّق زوجته ثلاثًا، ثم يأتي بمحلل يحللها له فيعود إلى معاشرتها. وكان يرابي باسم الرهن؛ فإذا جاءه من يريد أن يقترض منه مالًا أبى أنْ يُقرضه إلا إذا وضع في يده رهنًا، فإذا وضع يده على ضيعته ألزمه أن يستأجرها منه بمالٍ كثير، يراعي فيه النسبة التي يراعيها المرابون بين الربح وأصل المال. وكان إذا حلف لا يدخل بيتًا دخله من نافذته، أو لا يأكل رغيفًا أكله إلا
...more
أيتها الشعرة البيضاء! ما أنت؟ وما وُفودك إليَّ؟ وما مكانك مني ومُقامك عندي؟ إنْ كنتِ ضيفًا فأين استئذان الضيف وتلطُّفه وتجمُّله وتودُّده؟ وإنْ كنت نذيرًا فأنا أعلم من الموت وشأنه ما لا أحتاج معه إلى نذير، فلم يبق إلا أن تكوني أوقح الخلائق وجهًا، وأصلبها خدًّا، وأنك قد نزلت من السماجة والفضول منزلةً لا أرى لك فيها شبيهًا إلا تلك الحية التي تلج كل جحر من أجحار الهوامِّ والحشرات تَعدُّه جحرَها، وتحسَبه بيتها.
لا، لا، ما ذُعِرْتُ ولا ارتعت، وما حزنتُ ولا بكيت، وإنما هي خطرةٌ من خطرات الأمل الكاذب، ولمحةٌ من لمحات البرق الخالب.
أهلًا بوافدةٍ للشيب واحدةٍ وإن تراءت بشكلٍ غيرِ مَوْدُودِ
قال: «لا يا سيدي، إنَّ الإنسان سعيدٌ بفطرته، وإنما هو الذي يجلب بنفسه الشقاء إلى نفسه، يشتد طمعه في المال فيتعذَّر عليه مطمعه، فيطول بكاؤه وعناؤه. ويعتقد أنَّ بلوغ الآمال في هذه الحياة حقٌّ من حقوقه، فإذا أخطأ سهمه والْتَوى عليه غرضه أنَّ وشكا شَكاة المظلوم من الظالم، ويبالغ في حسن ظنه بالأيام، فإذا غدرت به في محبوبٍ لديه — من مالٍ أو ولدٍ — فاجأه من ذلك ما لم يكن يقدِّر وقوعه، فناله من الهم والألم ما لم يكن ليناله لو خَبَر الدهر وقتل الأيام علمًا وتجربةً، وعرف أنَّ جميع ما في يد الإنسان عاريةٌ مستردَّةٌ، ووديعةٌ موقوتةٌ، وأنَّ هذا الامتلاك الذي يزعمه الناس لأنفسهم خدعةٌ من خدع النفوس الضعيفة،
...more
من أراد أن يطلب السعادة فليطلبها بين جوانب النفس الفاضلة، وإلا فهو أشقى العالمين وإنْ ملك ذخائر الأرض وخزائن السماء.»
فويلٌ للرجل الصادق من حياةٍ نَكِدةٍ لا يجد فيها حقيقةً مستقيمة! وويلٌ له من صديقٍ يخون العهد، ورفيقٍ يكذب الود، ومستشارٍ غير أمين، وجاهلٍ يفشي السر، وعالمٍ يُحَرِّفُ الكلم عن مواضعه، وشيخ يدعي الولاية كذبًا، وتاجرٍ يغش في سلعته، ويحنث في أيمانه، وصحفيٍّ يتَّجر بعقول الأحرار كما يتجر النخاس بالعبيد والإماء، ويكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباحٍ ومساء!
فيا أقوياء القلوب من الرجال، رفقًا بضعفاء النفوس من النساء! إنكم لا تعلمون حين تخدعونهن عن شرفهن وعفتهن أيَّ قلبٍ تفجعون، وأيَّ دمٍ تسفكون!
يفسُق الفاسق وفي اعتقاده أنه قد نفَض عن نفسه بعمله هذا غبار الخمول والبَلَه الذي يُظَلِّلُ الأعِفَّاءَ والمستقيمين، وأنه استطاع أن يعمل عملًا لا يقدم عليه إلا كل ذي حذقٍ وبراعةٍ وشجاعةٍ وإقدام.
فمن شاء أن يهذب أخلاق الناس ويُقَوِّمَ اعوجاجها فليهذِّب تصوراتهم، وليقوم أفهامهم، يُوافِه ما يريد من التهذيب والتقويم.
إنَّ الضجر والسآمة من الشيء المتكرر المتردد طبيعةٌ من طبائع النوع الإنساني، فهو لا يصبر على ثوبٍ واحدٍ أو طعامٍ أو عشيرٍ واحد، وقد علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه، وعلم أنَّ نظام الأسرة لا يتم إلا إذا بُنِيَ على رجلٍ وامرأةٍ تدوم عشرتهما، ويطول ائتلافهما، فوضع قاعدة الزواج الثابت ليهدم بها قاعدة الحب المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباط رباطًا مقدسًا حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما، وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب، من حيث الميلُ لكل جديدٍ، والشغف بكل غريبٍ.
اذكرونا مِثْلَ ذكرانا لَكُمْ رُبَّ ذكرى قرَّبت مَن نزحا واذكروا صبًّا إذا غَنَّى بكم شرب الدمع وعاف القَدَحَا
إنما الإحسان عاطفة كريمة من عواطف النفس تتألم لمناظر البؤس ومصارع الشقاء، فلو أنَّ جميع ما يبذله الناس من المال ويسمونه إحسانًا صادرٌ عن تلك العاطفة الشريفة لما تجاوز محله ولا فارق موضعه.
لم أرَ مالًا أضيع ولا عملًا أخيب ولا إحسانًا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين الذين يطوفون الأرض ويقلبونها ظهرًا على عقب، ويجثُمون في مفارق الطرق وزوايا الدروب وعلى أبواب الأضرحة والمزارات يُصِمُّونَ الأسماع بصريخهم، ويقذون النواظر بمناظرهم المستبشعة، ويزاحمون بمناكبهم الفارس والراجل والجالس والقائم، فلو أنَّ نجمًا هوى إلى الأرض لَهَوَوْا على أَثَرِهِ، أو طائرًا طار إلى الجو لكانوا قَوادِمَه وخَوافِيَه.
العِرْضُ أثمن من الحياة، فإن كان من يمنح الحياةَ فَاقِدَهَا شريفًا، فأشرف منه من يَرُدُّ العِرْضَ الضالَّ إلى صاحبه المفجوع فيه.
إنَّ وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنةٌ من سنن الكون التي لا يمكن تحويلها ولا تبديلها، حتى لو لم يبقَ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحدٌ لَجَرَّدَ من نَفْسِه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
من أيِّ صخرةٍ من الصخور أو هضبةٍ من هضبات الجبال نحتم هذه القلوب التي تنطوي عليها جوانحكم، والتي لا تروعها أنَّات الثَّكَالَى، ولا تحركها رنَّات الأَيَامَى؟
وقال رجل لآخر: «يا بخيل!» فقال له: «لا أحرمني الله بركة هذا الاسم؛ فإني لا أكون بخيلًا إلا إذا كنت غنيًّا، فسَمِّ ليَ المالَ ولقِّبني بما تشاء!»
خفِّض عليكَ قليلًا أيها الطالب، فالأمر أهون مما تظن وأصغر مما تقدر. واعلم — وما أحسبك إلا عالمًا — أنك لم تسقط من قمة جبلٍ شامخٍ إلى سفحٍ متحجرٍ فتبكي على شظية من شظايا رأسك، أو دمٍ مسفوح تدفَّق من بين لَحْيَيْكَ.
ما لك تبكي بكاء الواثق بمواتاة الأيام ومطاوعة الأقدار؟! فهل تستطيع أن تبرز لنا صورة العهد الذي أخذته على الدهر أن يكون لك كما تحبُّ وتشتهي، وعلى الفلك ألا يدور إلا بسعدك ولا يجري إلا بِجَدِّكَ، وعلى القلم ألا يكتب في لوحه إلا ما دللته عليه، وأوحيت به إليه؟
أيها الطالب، قل لأبيك وأخيك وأَهْلِكَ وأصدقائك ومعارفك بلا خجلٍ ولا استحياء: إنَّ الذي وَهَبَ لي عقلي لم يَسْلُبْنِيهِ، وإنَّ الذي صَوَّر لي أعضائي لم يَحُلْ بيني وبين الذَّهاب بها إلى ما خُلِقَتْ له، وإنَّ الذي خَلَقَنِي سوف يهديني، فهو الرَّزَّاق ذو القوة المتين.
من العجز أنْ يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزنًا، وأنْ ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظرَ الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق. وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله، فإن عَظُمَتْ نفسه عظم في جانبها كلُّ ما كان صغيرًا في جانب النفس الصغيرة.
كثيرًا ما يخطئ الناس في التفريق بين التواضع وصغر النفس، وبين الكبر وعلو الهمة، فيحسبون المتذلِّل المتملِّق الدنيءَ متواضعًا، ويسمُّون الرجل إذا ترفع بنفسه عن الدنايا وعرف حقيقة منزلته من المجتمع الإنسانيِّ متكبرًا، وما التواضع إلا الأدب، ولا الكبر إلا سوء الأدب؛ فالرجل الذي يلقاك متبسِّمًا متهللًا، ويُقبِل عليك بوجهه ويُصغي إليك إذا حدَّثته، ويزورك مهنئًا ومعزيًا، ليس صغير النفس كما يظنون، بل هو عظيمها؛ لأنه وجد التواضعَ أليق بعظمة نفسه فتواضع، والأدب أرفع لشأنه فتأدب: فتًى عذبُ الروح لا من غضاضةٍ ولكنَّ كبرًا أن يقالَ: به كبر
وإنك لترى الصديق فيعجبك منه حديثه الحلو وثغره المبتسم، ويروقُك من وُدِّه كَلَفُهُ بك، وإعظامه لك، وإعجابه بشمائلك ومحاسنك، وتَشَيُّعُهُ لآرائك ومذاهبك، ولو كُشِفَ لك مِنْ نَفْسِهِ ما كُشِفَ له منها لَوَدِدْتَ أنْ لو استطعت أن تبتاع أقدام السَّلِيكِ بجميع ما تملك يمينك، ففررت من وجهه فِرارك من وجه الأسود السالخ، ووددت بجدع الأنف ألا يصافح وجهك وجهه من بعدها حتى في جنة النعيم!
وهنا أرسل من جَفْنَيْهِ دمعةً ليست بأول دمعةٍ بلَّل بها رداءه، ولكنها أحرُّ من سابقاتها؛ لأنه لم يبكِ في غير خلوته غير هذه المرة، ثم نهضَ ومدَّ يده إليَّ مُودِّعًا، فمسحت بيميني دمعةً واحدةً من دموعه الكثيرات.
إنك لا تدري لعلَّ الله أراد بك خيرًا فمنحك قبل حلول أَجَلِكَ فرصةً من الزمان تخلو فيها بنفسك، وتراجع فيها فهرس أعمالك، فإن رأيت خيرًا اغتبطَّتَ، أو شرًّا استغفرتَ. قضى الله أن يقيم في كل حينٍ لهذا العالم الغافل الراقد عبرةً من العبر تزعجه من رقدته، وتوقظه من غفلته، فكنت أنت عبرة هذا الدهر وموعظته. من باتَ بَعدَك في مُلْكٍ يُسَرُّ به فإنما باتَ بالأحلام مغرورًا
وكثيرًا ما تجد بين الجهلاء من تُعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، وإنْ كان صحيحًا ما يقولون من أنَّ العلم ما ينتفع به صاحبه، فكثيرٌ من الجهلاء أعلم من كثير من العلماء.
فلا تبالغ في تقدير فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ولا تنظر إليهم نظرًا يملأ قلبك رهبة وهيبة، ولا تَغْلُ في احتقار الجهلاء وازدراء العامة والضعفاء، ولا تكن مِمَّنْ يقضون حياتهم أسرى العناوين وعبيد الألقاب.
الدعاة الصادقون يعلمون أنَّ محمدًا ﷺ عاش بين أعدائه ساحرًا كذابًا، فلما ماتَ ماتَ سَيِّدَ المرسلين. وأنَّ الغزالي عاش مُتَّهمًا بالكفر والإلحاد ومات حُجَّةَ الإسلام، وأنَّ ابن رشدٍ عاش ذليلًا مهانًا حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه، ومات فيلسوفَ الشرق، فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياءً وأمواتًا. سيقول كثيرٌ من الناس: وما يُغْنِي الداعي دعاؤه في أمةٍ لا تحسن به ظنًّا، ولا تسمع له قولًا؟ إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته، فيكون أجهل الناس وأحمق الناس.
محالٌ أن يهدمَ بناءَ الباطل فردٌ في عصرٍ واحد، وإنما يهدمه أفرادٌ متعددون في عصورٍ متعددة، فيهزه الأول هِزَّةً تباعد ما بين أحجاره، ثم يَنْقُضُ الثاني منه حجرًا، والثالث آخر، وهكذا حتى لا يبقى منه حَجَرٌ على حَجَر.
يتمثَّل لي أنَّ الإنسان لو عَلِمَ أنْ سيصبح في يومٍ من أيام حياته وحيدًا في هذا العالم لا يجد بجانبه أذنًا تسمع صوته، ولا عينًا تنظر شكله، ولا لسانًا يردِّد ذكرَه، لآثَرَ الموتَ على الحياة، عَلَّهُ يجد في عالمٍ غير هذا العالم من آذان الملائكة، أو عيون الجِنَّةِ مقاعد يقتعدها، فيطيب له العيش فيها.
أمَّا مصطفى كامل فكان حيًّا حياةً حقيقية، فكان موته كذلك.
كان الوطنيون قبل اليوم يتكلمون، فلما جاء مصطفى كامل علَّمهم كيف يصيحون، فلما صاحوا وأسمعوا عرفوا أنَّ آذان السياسة لا يخترقها إلا الصوت الجَهْوَرِيُّ، ولولاه ما كانوا يعرفون.

