More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
Read between
December 2, 2021 - February 12, 2022
إنَّ الله أَغْيَرُ على نفسه من أن يُسْعِدَ أقوامًا يزدرونه ويحتقرونه ويتخذونه وراءهم ظِهْرِيًّا، فإذا نزلت بهم جائحةٌ وأَلَمَّتْ بهم مُلِمَّةٌ ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.
لن يؤمن المؤمن حتى يبذل في سبيل الله أو في سبيل الجماعة من ذات نفسه أو ذات يده ما يشق على مثله الجودُ بمثله، أما الجود بالشفاه للهمهمة والأنامل للمسبحة فعملٌ لا يتكلَّف صاحبه له أكثر مما يتكلف لتقليب ناظريه وتحريك هُدْبَيْهِ، وهل خلقت الشفاه إلا للتحريك، والأنامل إلا للتقليب؟
لا مجد إلا مجد العلم، ولا شرف إلا شرف التقوى، ولا عظمة إلا عظمة الآخذين بيد الإنسانية البائسة رحمةً بها وحنانًا عليها.
رُبَّ نفسٍ بين جدران السجون أطهر قلبًا، وأنقى رُدْنًا وأبيض عِرْضًا من مثلها بين جدران القصور، وربَّ طريدةٍ من طرائد المجتمع الإنساني ساقها المُقَدَّرُ الذي لا مفر من حكمه إلى وقفةٍ فوق أعواد المشنقة كان أجدر بها ذلك المرابي الذي ينصب حبالة ماله لخراب البيوت العامرة، وإطفاء النجوم الزاهرة، أو ذلك القائد الذي يسفك في مواقفه دم مائة ألفٍ أو يزيدون في غير سبيل سوى سبيل المجد المصنوع، والفخر الموضوع، أو ذلك السياسيُّ الذي يُدَبِّرُ المكيدة للحملة على أمة مستضعفة آمنةٍ في مرقدها سعيدةٍ في نفسها، فيستعبد أحرارها، ويَسْتَذِلُّ أعزاءها،
الحقيقة بين الكاذب والكاذب، كالحبل بين الجاذب والجاذب، كلاهما ينتهي به الأمر إلى الانقطاع.
أحمد الله أني قدرت على مكافأة ذلك الرجل الذي أحسن إليَّ بستر عاره، وإزالة همه وحزنه، وافتدائه بنفسي! ثم ألقت بنفسها في النهر، وما هي إلا دورةٌ أو دورتان حتى افترق ذانك الصديقان الوفيان، جسمها وروحها، فطفا منهما ما طفا، ورسب ما رسب.
ويا أيها الناس جميعًا، لا تحلفوا بعد اليوم بالأنساب والأَحْسَابِ، ولا تفرقوا بين تربية الأكواخ وتربية القصور، ولا تعتقدوا أنَّ الفضيلة وقفٌ على الأغنياء، وحبائس على العظماء، فقد علمتم ما أضمر الدهر في صدره من رذائل الشرفاء، وفضائل اللقطاء.
إن أردت أن تعرف أيَّ الرجلين أفضل، فانظر إلى أكثرهما نقمةً على صاحبه وكلفًا بالغض منه والنيل من عِرْضِهِ، فاعلم أنه أصغرهما شأنًا وأقلهما فضلًا.
ولقد قرأت جملةً صالحة من نوادر العرب في آدابهم ومكارمهم وأخلاقهم، ولطف وجدانهم، فلم أرَ بينها نادرةً أعلق بالقلوب، ولا أجمل أثرًا في النفوس من قول أبي عُيَيْنَةَ الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية، وكان كفيف البصر: «اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي داؤد أربعين سنة، فما سمعته يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام، بل يقول: اخرج معه يا غلام.»
لو علمت أنَّ مآرب هذه الدنيا وأغراضها لا تُنال إلا بترك شعيرةٍ من شعائر الدين أو العبث بفريضةٍ من فرائضه لَعِفْتُهَا واجْتَوَيتُهَا، ونفضت يدي منها، وقلت لها كما قال لها علي بن أبي طالب من قبل: «إليك عني، غُرِّي غيري، ما لي بك حاجة.»
ولم أرَ في حياتي منظرًا أبرد ولا أسمج من منظر المسلم الذي يجالس المسيحي في مجتمع عام، فيقول له: «إني أحبك محبتي لنفسي؛ لأني أعتقد أنَّ كلينا يعبد إلهًا واحدًا، ويدين بدينٍ صحيح يأمر بفضائل الأعمال وينهى عن رذائلها.» وربما كان يضمر له في قلبه في تلك الساعة من العداوة والبغضاء ما لو طارت شرارةٌ منه لأحرقتهما جميعًا وتركتهما رمادًا تذروه الرياح. وعندي أنَّ الأفضل من هذا الرياء الكاذب والدهان المصنوع أنْ يقول له: «إني أعتقد صحة ديني، فلا بدَّ لي من أنْ أعتقد فساد غيره من الأديان؛ لأني لو كنت معتقدًا صحتها لتقلَّدتها وهجرتُ ديني لأجلها، وإني على ذلك لا أحمل لك في صدري ضغينةً ولا موجدةً؛ لأني أعلم
...more
إنَّ الإبهام والإغماض في التدين يقتل الدين في نفوس المتدينين قتلًا لا حياة له من بعده، فلا بد للمسلم من أن يكون مسلمًا في جميع حالاته وشئونه، وإسراره وإعلانه، فلا يستحيي أن يلبس عمامته في باريس كما يلبسها في مصر. وأنْ يقيم الصلاة لوقتها في قصر الفاتيكان كما يقيمها في مسجد قريته. وأنْ يترفع عن مجاراة الغربيين في عاداتهم التي يرى أنها لا تلائم دينه، فلا يشرب نخب أحدٍ من الناس وإن كان في مجلس الإمبراطور، ولا يأكل لحم الخنزير وإنْ قدمه له بيده القيصرُ، ولا يحمل بساط الرحمة في جنازة ميتٍ من الأموات وإن كان بابا رومة، ولا يحمل سلاحه راكضا إلى مقاتلة أخيه المراكشي إن كان جزائريًّا، أو المصري إن كان
...more
أما ما يراه الرائي أحيانًا من استهتار الرجل في بعض الشهوات استهتارًا يستهلك نفسه ويستهوي عقله، وزهده في بعضها زهد الأعفَّاء المستمسكين؛ فذلك لأنه رغب في الأولى فاسترسل وراء رغبته، ولم يدعُه إلى الأخرى داعٍ من خواطر قلبه ونزوات نفسه، ولو دعاه لخفَّ إليه ولبَّاه، ولن يسمى الرجل زاهدًا أو عفيفًا إلا إذا أمسك نفسه عن شهوةٍ تدعوه إليها فيدافعها، وتتلهب بين جنبيه فيطفئها.
أيها الرومانيون، إنَّ الخنجر الذي ذبحتُ به قيصر في سبيل رومة لا يزال باقيًا عندي لذبح بروتس في سبيل قيصر إذا أرادت رومة ذلك.»
وهكذا الأمم الضعيفة، لا مفرَّ لها من العبودية لحملة التيجان، أو حملة البيان!
فإن كنت تريد الصلاة للصلاة فاعلم أنَّ الله لا يقبلها منك، ولا يجزل لك ثوابها حتى تقف بين يديه موقف من ألمَّت بقلبه الخشية، وملكت عليه السكينة سمعه وبصره، فلم يعد يبصر شيئًا مما حوله، ولا يعلم إن كان واقفًا في حضرة الملوك أو في زمرة الصعاليك.
ليست العظمة التي تعرفونها لأنفسكم إلا منحةً من منح الفقراء عليكم، وحسنةً من حسناتهم إليكم، فلولا تواضعهم بين أيديكم ما علوتم، ولولا تصاغرهم في حضراتكم ما استكبرتم، فلا تجزوهم بالإحسان سوءًا، ولا تجعلوا الكفر مكان الشكر تستدفعوا النقم وتستديموا النعم.
الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخَوَر، وما يصل إليه العقل من الاضطراب والهوس. وأحسب ألا يقدم الإنسان على الانتحار وفي نفسه ذرةٌ من العزم، أو في عقله لمحةٌ من الحزم.
ما سُمِّي القاتل مجرمًا إلا لأنه قاسي القلب متحجر الفؤاد، وأقسى منه قاتل نفسه؛ لأنه ليس بينه وبينها من الضغينة والموجدة ما بين القاتل والمقتول، فهو أجرم المجرمين، وأفظع القاتلين.
إنكم لن تجدوا بعد اليوم موقفًا هو أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته وإحسانه، وأجلب لمغفرته ورضوانه من موقفكم بين هؤلاء الضعفاء المساكين تطعمون جائعهم، وتكسون عاريَهم، وتسلحون أعزلهم، وتعالجون جريحَهم، وتخلفون قتيلهم في أهله وولده.
إنكم إن تحسنوا إليهم تحسنوا إلى أنفسكم، وإن تنقذوهم من كُربتهم تنقذوا جامعتكم وملَّتكم، فإن بينكم وبينهم لُحْمةً أقوى من لُحمة النسب، ووشيجةً أوثق من وشيجة القربى، وإنكم جميعًا تصلُّون إلى قبلةٍ واحدة، وتهتفون في الغداة والعشي بذكرٍ واحدٍ، وتتوجهون بقلوبكم في نعمائكم وبأسائكم إلى إلهٍ واحدٍ، وتقفون في بيت الله وحرمه بين الركن والمقام موقفًا واحدًا.
الجامعة الإنسانية أقرب الجوامع إلى قلب الإنسان، وأعلقها بفؤاده وألصقها بنفسه؛ لأنه يبكي لمصاب من لا يعرف، وإن كان ذلك المصاب تاريخًا من التواريخ أو خيالًا من الخيالات؛ ولأنه لا يرى غريقًا يتخبط في الماء، أو محروقًا يتقلب في النار حتى تحدثه نفسه بالمخاطرة في سبيله، فيقف موقف الحزين المتلهف إن كان ضعيفًا، ويندفع اندفاع الشجاع المستقتل إن كان قويًّا. ويسمع وهو بالمشرق حديث النكبات بالمغرب، فيخفق قلبه وتطير نفسه؛ لأنه يعلم أنَّ أولئك المنكوبين إخوانه في الإنسانية، وإن لم يكن بينه وبينهم صلةٌ في أمرٍ سواها، ولولا أن ستارًا من الجهل والعصبية يُسْبِله كل يوم غلاة الوطنية والدين أو تجارهما على قلوب
...more
فإن كان لا بدَّ للإنسان من أن يحارب أخاه أو يقاتله، فليحاربه مدافعًا لا طاعنًا، وليقاتله مؤدِّبًا لا منتقمًا، وليقف أمامه في كل ذلك موقف المحق المنصف والشفيق الرحيم، فيدفنه قتيلًا ويعالجه جريحًا، ويكرمه أسيرًا، ويخلفه على أهله وولده بأفضل ما يخلف الرجل الكريم أخاه الشقيق، أو صديقه الحميم على ذُرِّيَّتِه من بعده، وليكن شأنه معه شأن تلك الفئة المتحاربة التي وصفها الشاعر في قوله:
كفى حزنًا بموتك ثم إني نفضت تراب قبرك من يديا وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
لا مؤثر في نفس الإنسان غير الشعر، وما خضع الإنسان لشيء في جميع أدوار حياته إلا للشعر، وللشعر الفضل الأول في نبوغ الإنسان وارتقائه وبلوغه هذا المبلغ من الكمال. ولقد أحب الإنسان الشعر ناطقًا وصامتًا؛ أما الناطق فقد عرفته، وأما الصامت فالتماثيل التي يراد بنصبها تمثيل حياة عظماء الرجال شعرٌ، وهذه النغمات الموسيقية التي تصور خواطر القلوب ووجداناتها، فتهيج عاطفة الحب في نفس العاشق وعاطفة الحماسة في نفس الجندي شعرٌ، وهدير الأمواج شعرٌ؛ لأنه يمثل عظمة الجبارين، وظلام الليل شعرٌ؛ لأنه يطلق دموع الباكين، وحفيف أوراق الأشجار شعر؛ لأنه يمثل المناجاة في مواقف العشاق، وبكاء الحمائم شعر؛ لأنه يمثل فجعة البين
...more
أنا لا أغبط الغني على غناه إلا في موطن واحدٍ من مواطنه، فأغبطه إن رأيته يشبع الجائع، ويواسي الفقير، ويعود بالفضل من ماله على اليتيم الذي سلبه الدهر أباه، والأرملة التي فجعها القدر في عائلها، ويمسح بيده دمعة البائس والمحزون، ثم أرثي له بعد ذلك في جميع مواطنه الأخرى.
كنت أسمع باسم السعادة ولا أفهم معناها، غير أني كنت أسمعهم إذا ذكروها ذكروا بجانبها القصر والحديقة، والفضة والذهب، والسلطة والجاه، والشهرة والصيت، فلما أحببت اعتقدت ألا سعادة غير الحب، وأيقنت أنَّ الناس جميعًا يطلبون سعادة الأجسام لا سعادة الأرواح، فمثلهم كمثل الدفين المكفن بالحرير والديباج، وباطنه مسرح الدود، ومرتع الهوام والحشرات.
أنت شريفٌ في نفسك، فكن شريفًا في حبك،
إن استطعت أن تقف الشمس في كبد السماء، وأن تحول بين الأرض ودورانها، وأن تمنع الساكن أن يتحرك والمتحرك أن يسكن، فاضمن لنفسك استمرار السعادة وبقاءها.
يقولون: إنَّ الأمل حياة الإنسان، وما يقتل الإنسان إلا الأمل، فليتني ما سعدت؛ لأنني ما شقيت إلا بسعادتي، وليتني ما أمَّلْت؛ لأن اليأس القاتل ما جاء إلا من طريق الأمل الباطل،
وكثيرًا ما يتداوى شارب الخمر بالخمر، ويدفع الخوف الخائف إلى مبعث خوفه، ويلذ للجبان — وهو يرتعد فرقًا — الإصغاء إلى حديث الأفاعي وقصص الجان،
والإنسان مهما طال حوله، وكثر طوله، واتسعت مذاهب قوته، فليس ببالغ من هذا الدهر المعاند ما يريد، لولا زهرة الأمل التي يتعهدها الدين بالسقيا في قلب المؤمن، فيستروح منها ما يروح عن قلبه، ويسري عن نفسه، ويقينه أن هناك حولًا أكبر من حوله، وطولًا أعظم من طوله، وإلهًا قادرًا يقرب إليه ما يريد مما ضاق به ذرعه، وقصرت عنه قوته.
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى دعوني فهذا كله قبر مالك وجملة القول: إنَّ للحاضر سيئاتٍ فوق الماضي، فلا خير في العصرين، ولكن ويلًا أخف من ويلين، والأمم لا تسعد بمعرفة الخير والشر، فالخير والشر معروفان حتى لأمة النمل، وإنما سعادتها في معرفة خير الخيرين وشر الشرين، ولئن دام هذا الحال واطرد المقياس، فالغد شرٌّ من اليوم، كما كان اليوم شرًّا من الأمس.
قال لي بعض الناس: «إنَّ قومًا يغرقون في مدحك فهلَّا زجرتهم؟» فقلت له: «إنَّ آخرين قد أغرقوا في ذمي فلم أصنع شيئًا فدع الأكاذيب يقرع بعضها بعضًا، فربما استطارت من تلك المعركة شرارة تضيء للناس مكان جوهرة الحقيقة المذالة تحت الأقدام فيلتقطونها.»
من لا خير له في دينه لا خير له في وطنه؛ لأنه إن كان بنقضه عهد الوطنية غادرًا فاجرًا، فهو بنقضه عهد الله وميثاقه أغدر وأفجر، وإن الفضيلة للإنسان أفضل الأوطان، فمن لم يحرص عليها فأَحْر به ألا يحرص على وطن السقوف والجدران.
مثل المتعلم غير المتأدب كمثل شجرةٍ عاريةٍ لا تورق ولا تثمر، قد انتصبت للناس في ملتقى الطرق تعترض الرائح وتصدُّ سبيل الغادي، فلا الناس بظلها يستظلون، ولا هم من شرها ناجون.
لا يشترط في قيادة الجموع أن يكون القائد مفرطًا في الذكاء أو العقل أو الدهاء، بل يكفيه من ذلك كله شيءٌ من العلم بأذواق أتباعه وميولهم، وسبل الوصول إلى قلوبهم، لا يزيد على علم التاجر بأذواق زبائنه ورغباتهم.
كن القائد الذي تعترك الجيوش حوله من بين ذائدٍ عنه وعادٍ عليه، ولا تكن الجندي الذي يسفك دمه ليسقي به دوحة العظمة التي ينعم في ظلالها القائد العظيم. كن الناطق الذي تحمل الريح صوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا تكن الريح التي تختلف إلى آذان الناس بأصوات الناطقين من حيث لا يأبهون لها، ولا يعرفون لها يدها. كن النبتة النضرة التي تعتلج ذرات الأرض في سبيل نضرتها ونمائها، ولا تكن الذرة التي تطؤها الأقدام، وتدوسها الحوافر والأخفاف. كن زعيم الناس إن استطعت، فإن عجزت فكن زعيم نفسك، ولا تطلب العظمة من طريق التشيع للعظماء والتلصق بهم، أو مناصبتهم العداء والوقوف في وجههم، فإن فعلت كنت التابع الذليل وكانوا
...more
لا تأتي ليلة العيد حتى يطلع في سمائها نجمان مختلفان: نجم سعود، ونجم نحوس. أما الأول فللسعداء الذين أعدوا لأنفسهم صنوف الأردية والحلل، ولأولادهم اللعب والتماثيل، ولأضيافهم ألوان المطاعم والمشارب، ثم ناموا ليلتهم نومًا هادئًا مطمئنًّا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول أسرتهم تطاير الحمائم البيضاء حول المروج الخضراء. وأما الثاني فللأشقياء الذين يبيتون ليلتهم على مثل جمر الغضى يئنون في فراشهم
أنينًا يتصدع له القلب، ويذوب له الصخر؛ حزنًا على أولادهم الواقفين بين أيديهم يسألونهم بألسنتهم وبأعينهم ماذا أعدوا لهم في هذا اليوم من ثياب يفاخرون بها أندادهم، ولعب جميلة يزينون بها مناضدهم، فيعللونهم بوعود يعلمون أنهم لا يستطيعون الوفاء بها.
وجملة القول أنَّ الحياة مسرات وأحزان. أما مسراتها فنحن مدينون بها للمرأة؛ لأنها مصدرها وينبوعها الذي تتدفق منه. وأما أحزانها فالمرأة هي التي تتولى تحويلها إلى مسراتٍ، أو ترويحها عن نفوس أصحابها على الأقل، فكأننا مدينون للمرأة بحياتنا كلها.
أتدري ما هو الخلق عندي؟ هو شعور المرء أنه مسئول أمام ضميره عما يجب أن يفعل. لذلك لا أسمي الكريم كريمًا حتى تستوي عنده صدقة السر وصدقة العلانية، ولا العفيف عفيفًا حتى يعف في حالة الأمن كما يعف في حالة الخوف، ولا الصادق صادقًا حتى يصدق في أفعاله صدقه في أقواله، ولا الرحيم رحيمًا حتى يبكي قلبه قبل أن تبكي عيناه، ولا المتواضع متواضعًا حتى يكون رأيه في نفسه أقل من رأي الناس فيه.
الشر لا يقاوم إلا بالشر، والظلم لا يدفع إلا بالظلم، وحامل السيف لا يغمده في غمده إلا أمام حامل سيفٍ مثله، والسيل الجارف لا يقف عن جريانه إلا إذا وجد في وجهه سدًّا يعترض طريقه، والظالم لا يظلم إلا إذا وجد بين يديه ضعيفًا، والمحتال لا يحتال إلا إذا وجد أمامه غبيًّا، والناس لا يتحامون ولا يتحاجزون ولا يأمن بعضهم بأس بعضٍ إلا إذا برزوا جميعًا في ميدانٍ واحدٍ يتقلدون سلاحًا واحدًا من نوعٍ واحد.
وداعًا يا عهد الشباب، فقد ودعت بوداعك الحياة، وما الحياة إلا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر، فإذا هدأت فقد هدأ كل شيء وانقضى كل شيء! أيا عهدَ الشباب وكنت تَنْدَى على أَفْيَاءِ سَرْحَتِكَ السلامُ

