More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
إن الكلام قد يكون في الذروة العليا من البلاغة الشعرية، وليس فيه خيال شارد، ولا دمعة، ولا آهة، ولا كلمة ملفوفة، ولا معنى مستكره. بل هو يكون أبلغ في الشاعرية كلما خلا من هذا التصنع، واستوى على طريقه الواضح القويم،
لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها «حالة نفسية» تحيك بنفسه، فمثلها لنا أحسن تمثيل، أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطئها الجاهل، فيحسبها من غثاثة الفضول.
ولأنه ثانيًا: شاعر «الحالات النفسية» وهذه الحالات هي التي نقصت في شعرنا القديم والحديث؛ لأننا نفهم شعر الأسلوب، وشعر المعاني الذهنية، وشعر الألاعيب اللفظية والمعنوية، ولكننا لا نفهم الشعر الذي يترجم لقارئه عن حالات النفس بغير ما حفاوة مقصودة بذلك الذي يسمونه المعاني، ويفهمون منه أن يكون الشاعر مختلقًا للخواطر، مكثرًا من المبتكرات المعتسفة، مولعًا بالاستعارات والمواقف التي لا موقع لها في القصيدة، فنحن لفقرنا في الإحساس المنوع الغزير، أو لتفريقنا بين الشعر والإحساس.
فالتمثيل ببعض كلامه الذي يقل فيه ما يسمونه «بالمعاني» يعين على تقرير هذا الغرض الذي أردناه، ويرينا كيف يكون الكلام في الطبقة الأولى من الشعر بعد تجريده من زينة الصياغة الموسيقية، وخلوه من تلك «المعاني» التي يولع بها عندنا أناس يحسبون أنفسهم خيرًا من طلاب الألفاظ والأساليب، وهم مثلهم في الضلال عن روح الشعر ورسالة الشعراء.
وإن النفس لتشمئز من حقد هؤلاء الذين يحبون لأنهم يكرهون، ويتشيعون لأنهم يحسدون، ويتوارون بالتعريض لأنهم لا يجرءون على الظهور بالنكاية، وليس للإعجاب في نفوسهم قيمة تصان ولكن القيمة الأولى للبغضاء والكراهية، ثم يأتي الإعجاب تبعًا لها أو ظلًّا مشوهًا لتمثالها.
نختم هذه المقالات وبحسبنا منها أن تنفي بعض الظنون فيما نعنيه بالشعر العصري، أو بالمذهب الجديد، فليس التجديد هو إنكار فضل العرب، أو تعمد الخروج على الأساليب العربية، ولكنه هو إنكار أوهام الذين يحصرون الفضل كله في العرب، دون أمم المشرق والمغرب من سابقين ولاحقين، أو الذين يختمون على الأساليب بعد القرن الرابع للهجرة، فلا يجيزون لأحد أن يكتب بغير أقلام الأدباء الذين عاشوا إلى ذلك الزمان، ولا يفهمون أن الأسلوب صورة لنفس صاحبه، وأن الله لم يخلق الطبائع كلها على صورة واحدة، فيكون لها أسلوب واحد في المنظوم أو المنثور، وليس التجديد أن نصف المخترعات العصرية؛ لأن أحدًا من العقلاء لا يطالبنا بأن نثبت
...more
وليس التجديد أن تقفو أثر الصحف بالنظم في الحوادث السياسية والعظات الاجتماعية؛ لأن الشاعر قد يحس ما حوله ولكنه يبرز إحساسه في قالب رواية خرافية، لا علاقة بينها وبين حوادث اليوم في الظاهر، ولا شأن لها بمشاكل السياسة والاجتماع،
وليس التجديد أن نضرب عن تقليد العرب لنقلد الإفرنج، وننظم كما ينظمون وننقد كما ينقدون؛ لأن الإفرنج يخطئون في فهم الأدب كما يخطئ الشرقيون ويأبون على طائفة منهم أن تقلد الآخرين،
وليس التجديد أن نقتحم المعاني ونعتسف الخواطر؛ لأن المعاني والخواطر أدوات الشاعر ووسائله،
فإذا مثل ما في نفسه بغير التجاء إلى ذلك الذي يسمونه المعنى أو الخاطر فهو الشاعر القدير والوصاف المبين، وإذا أكثر من المعاني والخواطر؛ لأنه يريد أن يكثر منها لا لأنه يريد أن يمثل بها حالة نفسه وحقيقة حسه، فليس هو بالشاعر ولو أبدع في هذا غاية الإبداع،...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
«فليس من الضروري أن تكون كتابة الكاتب كلها جديدة غير مسبوقة ليكون من المجددين، ويخرج من زمرة المقلدين، وليس هو مستطيعًا ذلك لو حاوله ومضى عليه، ولو أنه استطاعه لوقع في التعسف واضطر إلى مخالفة الحقيقة،
إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في «النفسيات» أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات، فظهر عليها في حركة عنيفة أو رفيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرًا وهي عضلات الوجه والشفتين، ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله، والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيًّا كان الموحي به والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة
...more
فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلة، واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس؛ لأنها تروح عنها وتفيد الذهن؛ لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع، وشحذ الفهم، وتقويم له على المنطق السديد، ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.
وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر، وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة، مرجعه في الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضي الإنسان عن نقائص الناس، ويضحكه كما يرضي الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير،