More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
الحصيف.
«إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك، ولكن هذا النمط من النقد نادر، وهو مع ندرته لا يسهل على المؤلف أن يستفيد منه، إذا كانت كبرى حاجته هي الثناء.»
فليس المؤلف المطبوع بحاجة إلى الثناء ولا إلى النقد، ولكنه بحاجة إلى الألفة والفهم أو هو على الأصح بحاجة إلى المجاوبة والمجاذبة من النفوس التي تفهم طبيعته فهم وفاق أو فهم خلاف، فقد تكون أنت على خلاف طبيعته في أكثر الأشياء، ولكنك إذا فهمته وجاذبته الرأي أيقظت قواه، وأحييت ملكاته وأعنته على عرفان نفسه والإخلاص لسريرته، وربما كان هذا الخلاف أذكى وأجدى عليه وأظهر أثرًا في التسجيع والتوليد من محض الثناء والإعجاب، فإنما حاجة الفنان أن يحس الحياة بكل جوانبها، وهو لن يحسها حق الإحساس ما بقيت نفسه مغلقة في غلافها لا تتصل بغيرها على وفاق أو خلاف، ولا يرى
فالنقد الصحيح هو الذي يفطن إلى شخصية المنقود، ويألف عيوبها كما يألف حسناتها ويطالبها بالأمانة لتلك العيوب، كما يطالبها بالأمانة لتلك الحسنات؛
لهذا يعيش بعض الشعراء مذكورًا مألوفًا بمائة بيت تروى له وتدل عليه، ولا يعيش غيره بعشرة دواوين تحفظها المكاتب والقراطيس؛ لأن الأول قد استطاع ان يدل على شخصه بأبياته المائة، فاقترب إلى النفوس وأصبح مفهومًا عندها على الصداقة والإلفة التي تغفر الزلة وترضي كل خلة، ولم يستطع الآخر أن يكون صديقًا مألوفًا لقرائه، بل ظل صاحب أشعار وقصائد ليس إلا فخفي شأنه، وعاش أو مات بمعزل عن أولئك القراء.
فإن رؤية الأشياء الدارجة كما هي ليست من الدارج المألوف بين أصحاب الشخصيات والملكات.
جِدِ الشخصية أولًا وكن أنت جديرًا بإيجادها، ثم كن على ثقة أنك واجد لا محالة ذلك المنقود الجدير بأن تحصي له الحسنات والعيوب،
أما في جماعة اللفظيين والحرفيين الذين ينقلون النقد من الشاعر إلى شعره، فهؤلاء يدعون الشيء ليلهوا بظله، وينتقلون من الحياة إلى ما ليس له في ذاته حياة.
أن النقد الخالق هو ذلك النقد الذي يهتدي إلى «النماذج» في عالم الآداب والفنون، وأن وظيفته هي إحياء كل نموذج يهتدي إليه بمجاوبته وإذكاء فضائله وشحذ ملكاته، ولن يكون الناقد على هذه الصفة إلا إذا كان هو نموذجًا من الطراز الممتاز لا من الطراز الدارج المألوف.
فإنني أؤمن بالأطوار النفسية وما إليها من الأثر في إعجابنا بمنشآت الفنون والآداب، واعلم أنك تنظر إلى الصورة، وفي ضميرك خاطر يمت إليها بنسب من الإحساس والتفكير فتثير أشجانك وتستفتح مواطن التفاتك وإعجابك، وينظر إليها غيرك وليس في ضميره ذلك الخاطر فيعدوه جمالها، أو يأخذ من نظره وخياله طرف اللمحة العابرة والخيال المشغول، وقد ينظر المرء في وقتين مختلفين إلى الصورة الواحدة، فإذا هي اليوم غير ما كانت بالأمس،
فإنما المعول في هذا أكثر الأحيان على أطوار النفوس، وبدوات الأذواق، وسوانح الفكر، وإنما يعجبنا الفن بشيء من أنفسنا كما يعجبنا بشيء من نفسه، ويندر أن يلتقي الشيئان معًا في جميع الأحيان.
وشعرنا كأن للصور هواتف وأرواحًا تجتذب إليها العاطفين والمعجبين على نأي المسافة
ورُبَّ كئيب ليس تندى جفونه ورب نديِّ الجفن غير كئيب وللواجد المكروب من زفراته سكون عزاء أو سكون لغوب
يعرض لك الجمال والشباب، والحزن والموت، يحدثك كل منها حديثه، ويفضي إليك كل منها بنجواه، ويقف من الرقعة موقفه الذي لا عي فيه ولا إسراف، تلك هي الغاية من التصوير، بل هي الغاية من كل فن جميل،
أيتها الفتاة إلى أين! إلى القبر في هذه المسوح وفي هذه الكآبة وفي هذا المحيا الوضيء؟ عليك يا بنية سمة الملاحة وفيك مرتغب يا بنية للراغبين، ووراءك الدنيا يا بنية تفيض بالأفراح والأطماع، ويتسابق فيها المتسابقون على إرضاء الجميل، وتضحك لها الرياض عن نضرة الريحان، وتطلع عليها الكواكب باللمح والابتسام، وتنشدها الصوادح أناشيد الحب والرجاء، وأنت زينة من زينتها تهجرينها كلها، وتدبرين عنها كلها، وتقبلين على هذه الحجارة المركومة فوق ذلك الجسد المحطوم؟
كما قال أرسطو في الزمن القديم، وستكون قوة التمرد ومرارة السخط ونخوة الحنق الأدبي أبدًا في جانب المرأة، فهي بهذه القوة تقهر الرجال وتزحزح الجنس الغالب رويدًا رويدًا من مكان السيد إلى مكان الماهن الأجير،
وسوف تزداد الأبدان ضعفًا وتزداد الأمومة مشقة، وتزداد المسرات الجسدية نكرًا وقبحًا فيزداد التبتل شيوعًا، ويجيء اليوم الذي يصبح فيه الرجل ولا شأن له في الحياة إلا الجندية وإنتاج البنين،
إن المرأة حين تسخط ذلك السخط إنما تسخط بقوة اهتمامها بالرجل وقوة حقدها عليه،
إن الحضارة أعرف بالقصد من الهمجية، وأدرى بوسائل الادخار والاستنباط، فالهمجية تستفيد بصفة واحدة في الإنسان، أما الحضارة فتستفيد بكل ما في الناس من الصفات والملكات، فمطالبها موزعة وصفات أبنائها موزعة كذلك على حسب تلك المطالب،
وهي لا تقوم على عنصر واحد ولا يتاح أن يجتمع عناصرها كلها في فرد واحد، فمن هنا تختلف المقاييس ويتفاضل الناس بصفات كثيرة غير صفات الأبدان والأعضاء،
كان الخبيث ماهر الأذن والذاكرة،
ولكنها فترة عارضة ثم يسري إلى غنائه شيء من الاختلاف ويجم القديسون والملائكة ويدب إليهم الضجر والملالة ويحسون أن عنصر التلحين — بل عنصر الترتيل بعد التلحين — يخفى رويدًا رويدًا حتى يجدوا آخر الأمر أنهم يصغون إلى كلام يقال كما يقال كل كلام عار عن اللحن والتوقيع،
ولكنهم ما لبثوا أن فقدوا حتى السجع في الشعر الذي كان يلقيه الشيطان عليهم، ثم فقدوا الوزن، ثم فقدوا كل معالم ذلك الكلام المقفى الموزون،
ويرى أن الشعر مدبر في هذا العصر، وقد يظل مدبرًا في العصور المقبلة لسببين:
أحدهما أن الشعر كان يغني في الزمن القديم، ثم بطل الغناء فرتلوه أو ترنموا به، ثم بطل الترتيل والترنيم فألقوه، ثم بطل الإلقاء فقرءوه في المحافل أو الكتب، وذهبت عنه طلاوة الموسيقى وفقد سحره القديم في الأسماع والقلوب، وانتهى بأن صار كلامًا يعبر بالنظر وقل أن يطرق الأسماع،
والسبب الآخر أن الطبائع في العصور الحديثة تنكر ...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ولكننا نود أن نعرف هل الناس في هذا الزمان أنبى عن الشعر طباعًا، وأزهد فيه نفوسًا مما كانوا في الزمان القديم؟
ولكننا إنما نسأل عن طبائع الناس جملة هل تغيرت بواعثها التي تحركها إلى الإعجاب بالشعر ودواعي التخيل والإحساس، أو لا تزال تلك الطبائع كما كانت في كل زمان نعرفه ونعلم اليقين عن أنباء أهله وحظوظ شعرائه وأدبائه؟
وهنا يبدو لنا وجه الغلو في قول القائلين أن الشعر يبطل اليوم وبعد اليوم لبطلان بواعثه ودواعيه، إذ كيف يسعنا أن نقول جادين في القول إن الناس لا يحسون اليوم كما كانوا يحسون بالأمس، ولا يحبون ويبغضون، ولا يرجون وييأسون، ولا يرضون وينقمون ما كان ذلك دأبهم في كل حين وبين كل قبيل؟
ليس هذا مما يمكن أن يقال في جد وروية وإدراك لحقائق الأشياء، فالإحساس لا ينقطع، والنفوس الإنسانية بجملتها لا تختلف، والهموم التي أنشد فيها الشعراء القدم ذلك القصيد الخالد هي هموم هذه الساعة يحسها ألوف الألوف في كل زاوية من زوايا الأرض، وفي كل لحظة من لحظات الحياة، فهل لنا أن نعرف إذن ما الذي تغير في ا...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
يخيل إلي أن بواعث الإحساس التي كانت مصروفة إلى الشعر فيما مضى قد صرفت في هذا الزمان إلى شيء آخر يشبهه، ويغني غناءه لأول نظرة في تزويد الخواطر، واستجاشة الإحساس، وإرضاء الأشواق والأفراح والأحزان التي يبلوها الناس في غمار الحياة، وأن هذا الشيء الذي انصرفت إليه بواعث الشعر في زماننا قريب لا يطول بنا أمد النظر إليه، فإنما هو بالإيجاز مناظر الصور المتحركة، والتمثيل الماجن، وأخبار الرو...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ويجوز أن نزعم فوق ما زعمنا إننا مبالغون على ما يظهر في تصور العناية التي كانت تحيط بشعراء القدم، والحظوة التي كانت لهم بين سامعيهم والمنعمين عليهم.
وأحسب أن عدد الذين يعنون بالمتنبي اليوم في العالم العربي أكبر من عدد الذين كانوا يعنون به في حياته،
وسنعرف من هذا مرة أخرى أن الطبائع لم تتغير، وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، ولكنها كذلك معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا عن اليأس؛
وإذا أنا أنظر حولي فلا أرى إلا ماضيًا أثر ماض تنقطع فيه الصلة بيني وبين حاضري في المعيشة والشعور، ولست أدري كيف رحلت أنا إلى تلك الشقة البعيدة، أو كيف رحلت تلك الشقة البعيدة إلي؟
إن الزمن هو التغير، وما الإحساس بالزمان إذا لم يكن إحساس بالتغير من حال إلى حال؟
ماذا يبقى من هذه الأعظم النخرات بعد ألف عام بل بعد مائة عام؟ لعله لا يبقى بعد ذلك شيء ولعل هذه المشاهد الأبدية التي تشرف على القصر خاسرة يومئذ حين تفقده مقياسًا فاخرًا يذكر الناظرين بدوامها القانع القرير وعكوفها الشامس الوحيد.
ولكن التمييز بين إحساسين كالتمييز بين شعرين أمر يرجع إلى شخص المميز وملكاته وأطواره ومطالعاته، وليس إلى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لا تختلف بين عارف وعارف، وللتعليم في هذا الأمر حظه الذي لا ينكر، وأثره الذي لا يذهب سدى، فأنت تستطيع أن تضرب الأمثال وتبين للمتعلم المثل الجيد والمثل الرديء فيفهم عنك ما يفهم،
وأولادنا مثل الجوارح أيُّها فقدناه كان الفاجع البيِّن الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه أو السمع بعد الع...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وأي شعوذة لأننا أغمضنا أعيننا وأوصدنا آذاننا وأنكرنا الحس والعقل، لا لأنه بهر الأعين وضلل الآذان،
أبوكم آدمٌ سَنَّ المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان!
لأنه يعلم أن يوم مماته هو أسعد ذكريات حياته، وإن الحياة مهزلة مملولة تشيع بالتصفيق والابتسام!
نفس بائس عظيم.
أما بيتهوفن فقد كانت أحفل أوقاته بالإجادة والارتفاع والتحليق هي تلك التي يبرز فيها للعاصفة تضرب رأسه المكشوف، وللرعد يدوي على سمعه، والبرق يخطف بصره بوميضه، فإذا أعوزته هذه الغضبة التي لا تغضبها الطبيعة كل يوم خرج إلى الغابات والجبال يطوي فيها الساعات هائمًا صاعدًا منقطعًا عن الناس، كأنه عابد في محراب ليس له من الحياة إلا أذن تنصت، وقريحة تتوخى مهابط الإلهام،
أن بيتهوفن كان من المتسامحين في الأخلاق الذين يهزءون بالتنطس ويستبيحون غوايات الغرام،
ولو كان الناس يقبلون النية الحسنة يغشاها الظاهر العسير، كما يقبلون الظاهر الأملس يغشى نية الكيد والجفاء، أو لو كانوا يغلون الذهب عليه الغبار كما يغلون القشرة المذهبة في باطنها التراب وما هو أقذر من التراب، لوجد بينهم بيتهوفن غير ما كان يجد وعرفوا منه غير ما كانوا يعرفون، ولكن الناس يشترون الرجال بسعر السوق الجارية، ولا يحسبون في الميزان حسابًا للعبقرية منذ كانوا يأخذونها بغير ثمن فتسقط في الحساب!
إن الموسيقى «تعبير» يترجم عن حالات نفسية لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة، ولكنها هي لغة عامة بغير قصد من الهاتفين بها والسامعين،
فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص، وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات،