More on this book
Community
Kindle Notes & Highlights
والرغبة في «الموازنة» هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية، وهي التي جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان،
والعلم بأن الموسيقى تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنها تطرب بالشعور الذي توحيه، والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان،
وإذا علمنا أن الموسيقى تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء طربنا لأصوات ليس يطرب لها أكثر الناس، وهششنا لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح المهابة والإعراض،
يسخر الفتى الناشئ من جهالته وهو طفل صغير، ويسخر الكهل الناضج من لهفته وهو ناشئ في جن الشباب، ويسخر الشيخ الحكيم من كبريائه وهو كهل مصر على الأطماع والأضغان، ويسخر الهم المضعضع من الشيخوخة والكهولة والشباب والطفولة
وماذا ترى أيها القمر في الطريق. أشيء هذه الحياة يذكر أم ليست هي بذاك. آه لقد أرى ويا طالما أرى، أرى أنها معرض كان أولى به أن يقفل أسرع ما يكون أما قصص هاردي، فالمأساة فيها مأساة الصراع بين الناس وبين قدر — كما علمت من هذا الشعر — لا يقسو ولا يستخف ولا يأمرك ولا ينهاك، ليس بالقاسي؛ لأن القسوة أن تعلم بشكوى المصاب، وتزيده مما يشكيه، وليس بالآمر والناهي؛ لأنه يدعك في حيرتك لا تدري ما يغضبه وما يرضيه، وما يقبح عنده وما يحسن لديه، ولو كان قاسيًا لأثارك، فأنت تشعر بقوتك وعزمك، ولو كان آمرًا ناهيًا لأطعته فأيقنت سلامة العقبى أو عصيته وتحديته، فقد يريحك أن تغضبه كما يغضبك، وتعرض عنه كما يعرض عنك،
...more
من ذا يلازمه البلاء الواصب وهو كريم البلاء؟ ومن ذا تطيب نفسه ويهنأ عيشه وإن أحاقت به ظلمة العماء؟ ومن ذا يمتد به الرجاء ويصبر على كل شقاء؟ ومن ومن ذا يتنزه عن الظن السيئ ولا يلقى الشقاء بغير الغناء؟
بهذا الخلق في المصريين دامت المسيحية ودام الإسلام، فلولا صلابة في العقيدة، وصبر على العذاب، لعفى الرومان على المسيحية في مصر ثم في البلدان كافة، ولولا وقفة مصر في وجه الصليبيين لذهب الإسلام أو لانزوى بأهله في ركن من الأركان الآسيوية التي يجهلها العمران، بل لولا مصر في القدم لما كانت الموسوية
إن أظهر مظاهر الخلق هو الإنشاء والتجديد وليس هو المحافظة والجمود، وما الحياة نفسها إلا ثورة على «المحافظة والجمود» ونصر للحرية على التقييد.
فقد يكون المستشهد في سبيل رأيه أكثر مبالاة بالجماهير من المجامل الذي لا يرى في مطاوعة الجماهير، أو معاندتها ما يستحق التعرض للمشقة والمجازفة بالحياة،
فالمعول في الاستشهاد أو المجاملة إنما يكون على طبيعة الفكرة لا على المسلك الذي يسلكه صاحبها في مناقشته المنكرين والمنافسين،
ولكن ليس بصحيح أن التضحية بالنفس في سبيل الفكرة، وعدم التضحية بها في سبيل الثروة والطعام دليل على شهوة التطور، وتغليب الإبداع على الجمود؛
لأن الشهداء من المحافظين على القديم أكثر عددًا وأعظم بطولة في بعض الأحوال من شهداء التطور والتجديد،
يضرب به المثل للجرأة وقلة المبالاة، فقد تقدم برونو إلى النار عنادًا للجماهير، ولم ير جاليل للجماهير هذا الخطر الذي تستحق به كل هذا العناد: فكأنه يقول: من هؤلاء الذين أجبن عن مسالمتهم وأستقبل النار مخافة رأي من آرائهم؟ ليكن لهم ما يريدون، ولتظهرن الحقيقة التي أطيعهم اليوم في مداراتها، وهم صاغرون.
وقد يظن أن القوانين والعقوبات هي التي تحجر على الفكر، وتجبر المفكرين على السكوت. كلا! فلا يحجر على الفكر غير الفكر، ولا قوة تصد العقيدة غير العقيدة.
ففي الزمن الذي كان البابوات فيه والملوك يحرقون من يقول بدوران الأرض، من ذا الذي كان يساعدهم على ذلك الطغيان ويمد لهم في تلك الجهالة؟ ليست هي الجيوش ولا السجون؛ لأن الجيوش اليوم والسجون أكبر وأضخم مما كانت في كل زمان، ولكنها عقيدة الناس أن القول بدوران الأرض بلاء يجر عليهم غضب الله، ويحرمهم رحمة السماء، فهذه العقيدة هي التي حجرت على العقائد التي كانت تخ...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ومن الناس من ينصرون كل حديث على كل قديم؛ مخافة الاتهام بالرجعة والجمود،
فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود،
لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات.
الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»،
وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء،
إنما يُعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل الألفاظ وحكاية النبرات،
فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء،
إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق،
فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!
فالتاريخ إشاعات كما يقول كارليل، أو هو أساطير مصدقة كما يقول فولتير، أو هو رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها والتردد في قبولها؛
والمؤرخ يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات، والأسانيد، والبينات،
فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص، والأخبار، والمصالح، والآراء، ولكل عنصر من هذه العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام،
فأنت لا يعنيك من حوادث الماضي حقيقة الحادثة لذاتها، وإنما يعنيك تطبيق تلك الحقيقة على حياتك، وهنا يقف التاريخ ويقف المؤرخون وتبدأ الفطانة الصحيحة، والبديهة الثاقبة، والمزايا الشخصية التي يضيف إليها العلم بالتاريخ بعض الإضافة،
وعلمت أن إصلاح أدب أمة هو إصلاح لحياتها ومعيشتها، وأن تغيير مقاييسها الفنية هو تغيير لكل ما فيها من مقاييس الفطرة والإدراك والشعور،
هذه الأغاني هي التي أحوجتني إلى تأويل ما رأيت من دلائل الفاقة في السليقة المصرية، فلم أجد التأويل بعيدًا، ولا المخرج صعبًا من هذا التناقض بين الظواهر والبواطن، إذ يلوح لي أن العزلة بين الشعب والحكومة، والفوارق الدائمة بين الحياة القومية والحياة الرسمية، هي علة الجدب الغريب الذي يُلاحظ على آداب مصر «الرسمية»؛ أي الآداب التي تجري على تقاليد الحاكمين والسروات في العصرين القديم والحديث.
ولم لا نرى فيهم هذا المفتون بالبحر، وذلك الموكل بمنطق الطير، وذلك المشعول بالسماء، وأولئك الذين يجيدون وصف السرائر، أو يجيدون وصف المناظر الإنسانية، أو المناظر الطبيعية،
فلو نظمت الكلاب والقطط يومًا باللغة العربية لعلمت منها أنها هي أيضًا تفهم كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر، وأن الياسمين أبيض، وأن الزرع أخضر،
وأن نرد الجهل بالشعر إلى أسباب كثيرة عارضة يرجع بعضها إلى مقاييس القدم التي كانت تجعل البداوة الجاهلية مثلًا لكل كلام بليغ وكل شعر مأثور، ويرجع بعضها إلى الدراسة الفرنسية التي أولعت بالزخارف والطلاوات والكياسة المتظرفة والمعاني المصطنعة، ويرجع شيء منها إلى سوء فهم لطبيعة الشعر يقصره على الصغائر، ويكتفى منه بالظواهر ولا يراه أهلًا للنظرة العالية التي ننظر بها إليه، ويرجع الشيء الكثير منها إلى عزلة الجماهير واحتجاب المرأة، وعصور الظلم والجهالة التي ثقلت وطأتها على هذه البلاد.
فهم لا يعجبون بشوقي لأنهم يعجبون بالمتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي نواس، ولكن لأنهم لا يعرفون ما هو كنه الشعر الذي يستحق الإعجاب، ولا يستقيمون في الفهم والإحساس،
الناس بفضل المتنبي، وابن الرومي وغيرهما كما عرفهم أنصار الحديث بذلك الفضل المجهول فلو كان «الشوقيون» يفهمون تلك المحاسن، ويستقيمون في نقد الأقدمين لما كانوا شوقيين ولا انحسر بين أنصار الجديد وبينهم صلة التعارف والإقناع، ولكنهم يقرءون شعراء الجيل الماضي كما يقرءون شعراء العصور الجاهلية والأموية والعباسية، بغير بصيرة ولا استقامة في الإعجاب أو في الإنكار.
أن «الموقف» في القصيدة هو باعثها الأول وغايتها الأخيرة، ولا نجاح للشاعر إذا هو لم ينجح في نقلنا معه إلى ذلك الموقف الذي كان فيه، وإشراكنا في نظرته التي نظر بها حين توفر للإبانة والإنشاد.
وكان في ذلك الوصف إعجاب بشعرهن الأصفر، وعيونهن الزرقاوات، فقال بعض الحاضرين — وكان عالمًا أزهريًّا شابًّا — ولكن العرب كانت تعجب بالشعر الفاحم والأعين الكحلاء، ولا تمدح غير ذلك من ألوان الغدائر والعيون. قلنا ولكن الشاعر يصف حسانًا أوربيات وهن على هذه الصفة فكيف كنت تريده أن يقول! قال إذن لا يكون الشعر عربيًّا! ونحن عرب ننظم بلغة العرب، ونحيي آداب العرب ولا شأن لنا بالفرنجة،
فبالغوا والتزموا الحقيقة الفنية تكونوا عصريين كأحدث العصريين وكأقدمهم في الزمن السالف على حد سواء، ولكنكم تبالغون وتفهمون أن فضيلة المبالغة هي الكذب لا التجلية والتقرير والتبيين.
وهكذا تزيدون وتزيدون وأنتم تحسبون أن الزيادة هنا زيادة في البلاغة والشاعرية والإعجاب، فتخطئون سر المبالغة وترون أنها هي الكذب، وهي حين تمثل الحقيقة الفنية بريئة من الكذب براءة الأرقام والبديهيات.
فالحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، والشعر الصحيح في أوجز تعريف هو ما يقوله الشاعر، والشاعر في أوجز تعريف هو الإنسان الممتاز بالعاطفة، والنظرة إلى الحياة، وهو القادر على الصياغة الجميلة في إعرابه عن العواطف والنظرات،
متى يكون الشعر مفيدًا ومتى يكون غير مفيد؟ وما هي الفائدة التي يجوز أن نطلبها من الشعر أو من الفن الجميل على التعميم؟ إذا عرفنا هذا عرفنا مقياسًا للجودة والرداءة يعصمنا من الزلل في الحكم، ويجنبنا ذلك الخلط الذي يخلطه الكثيرون عند التفريق بين المعنى الحسن أو المعنى «المفسد» كما يقولون وغير المفيد.
ونريد قبل كل شيء أن ننبه إلى الضرر الذي يصيب العلوم والفنون من اشتراط الفائدة القريبة في كل مبحث وكل تفكير، فهذا الشرط وخيم العاقبة مضيع للجهود العلمية والأدبية؛ لأن الفائدة «أولًا» شيء لا يسهل الاتفاق عليه، والتفاهم على تقديره قبل حصوله، فهي عند أناس الخبز والماء، وعند الآخرين المال والثراء، وعند غيرهم الجاه والقوة، وعند غيرهم السرور واللذة، وهكذا إلى غير نهاية من التفاوت بين الأفراد وبين الفرد الواحد في مختلف الأحوال،
ولكنه هو عامل من عوامل النهضة، وسبب من أسباب الحوادث،
ولم يقل أحد حينئذ إن الصحة في النفس والجسم مفيدة؛ لأنها توجد النهضات وتدعو إلى الارتقاء! ومن قال ذلك كان كمن يقول: إن العافية مفيدة لأنها تساعد على هضم الطعام وتنقية الدم، والانتفاع بالأعضاء مع أن هذه الخلال كلها تبع للعافية، وأثر من آثارها، وليست هي فائدتها والغرض الذي نريدها لأجله، فاطلب من الشعر أن يكون عنوانًا للنفس الصحيحة،
فالشعر شيء يتصل بالإنسان من حيث هو كائن حي، لا من حيث هو ابن وطن أو ابن جامعة أخرى من لغة أو عقيدة،
ولا ننسَ أن الشاعر الذي يمثل جيله أحسن تمثيل قد يدل على صدق في الملكة، وأمانة في التعبير، وبلاغة في الأداء، ولكنه قد لا يدل على تفوق في الشاعرية، ولا تكون له الحجة على زميله، الذي يعبر عن أمور يجهلها معاصروه، ثم يعرفها له الناس بعد زمانه، وليس من الضروري للشاعر المجيد أن يفيد المؤرخ في استقصاء أحوال العصور، واستخراج الوقائع والأسانيد، إذ ربما أجاد الشعراء في عصر واحد، وهم مختلفون في الإجادة، واختلافهم في الملكة والمذهب والمزاج، فتمثيل البيئة ليس من شرائط الشاعرية؛ لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا
...more
ويتم الشعر عند هؤلاء بتمام غرابته في لفظه ومعناه، وبعده عن المألوف في الأثر والإحساس، إن كان لا بد فيه من إحساس، وهو أمر لا يحفل به ولا يلتفت إليه.
ومنهم من ينتظر من الشعر «المعاني»، ويفهم من المعاني اعتساف التشبيهات والخواطر، واختلاق الأفكار والتصورات،
ولا يزال الشاعر عندهم مطالبًا «بالمعنى» الذي لا محل له حتى بعد أن يشعرك ما في قلبه ويجلو لك الحالة النفسية التي حركته إلى النظم والغناء! والقارئ من هؤلاء لو سمع الرعد يدوي، ورأى البرق يلمع، وشهد السماء في جلالها، والبحر في اتساعه لم يكرثه أن يعرف هل هذا رائع أو غير رائع، وهل له صدى في النفس أو ليس له من أصداء، وإنما يكرثه أن يسأل: وأي معنى لهذا؟ وأي معنى لهذا؟ وماذا قال لنا الرعد أو البرق أو السماء أو البحر مما لم يقله قبل الآن؟ وكأنه يعجب: هل وظيفة الرعد أن يكون رعدًا،