الضيافة في المجال العام والواقع
الضيافة في المجال العام والواقععبدالله المطيريفي حديث محفّز للتفكير مع الصديق الكاتب في الوطن عبدالله العقيل حول المقال السابق، تم التطرق إلى القضيتين التاليتين:
أولا: هل مطالبة الناس بأخلاق الضيافة في المجال العام "مثلا بالتعامل مع المراجعين وكأنهم ضيوف" مطالبة واقعية؟
بعنى أنه لو أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي يمر بها الموظف وضغط العمل وسلوك المراجعين وضعف التقدير من جهة العمل، فإن مطالبته بأخلاق الضيافة تبدو مطالبة غير واقعية.
القضية الثانية، متعلقة بمدى انحراف ممارساتنا للضيافة عن هدفها الأساسي، وتحولها إلى مجرد سلوكيات مصلحية، وتعكس حتى انحيازاتنا العنصرية والطبقية. بدلا من أن تكون الضيافة للمحتاج وعابر السبيل والغريب، أصبحت اليوم توجّه إلى أصحاب المناصب والثروات.
شخصيا، أعتقد أن هذه النقاط تحمل تحديات حقيقية لفهمنا وممارستنا لأخلاق الضيافة، وللتوقعات والآمال التي يمكن أن نعلقها بها لمواجهة الأسئلة الأخلاقية التي تواجهنا.
الضيافة في الأخير، تمثل لنا أملا كبيرا باعتبار أنها، خلافا للعنصرية والتعصب والطائفية، تعطي الآخر والغريب والضعيف أولوية أخلاقية، وتربط الذات بالالتزامات عميقا، تتعارض تماما مع غرائز الانتقام والعنف والتوحش.
سأحاول الآن مناقشة النقطتين السابقتين لنرى كيف تبدو الضيافة بعدها.
الموظف الذي نتوقع منه أن يتعامل مع من حوله بأخلاق الضيافة، قد يمر بظروف حقيقية، تُحد جدا من احتمال ضيافته.
في الأخير، الضيافة تعكس انتماء يشعر به الفرد للمكان الذي يعمل فيه.
في الأصل، يمارس الفرد الضيافة في بيته الذي يملكه، وفي أرضه التي ينتمي إليها.
هناك علاقة ضرورية بالمكان يجب أن تتحقق ليمارس الإنسان الضيافة. قلنا سابقا إن الملكية الخاصة ليست شرطا لممارسة الضيافة، وأن الانتماء إلى المكان، بما فيه المكان العام، يكفي كأساس ينطلق منه الإنسان لمارسة الضيافة.
لذا، فإن سؤالنا هنا متوجه إلى مدى انتماء العاملين في المجال العام "موظفون عموميون" لأعمالهم وللأماكن التي يعملون فيها.
سيكون من الصعب جدا أن نتوقع من الموظف الذي يشعر بالاغتراب والتهميش في مجال عمله أن يمارس الضيافة، ويعطي الآخرين الشراكة في المكان الذي لا ينتمي إليه أساسا.
لذا، فإن التفكير في الضيافة يتضمن كذلك مراجعة لتصميم المجال العام، ولطبيعة العلاقات التي يعكسها ذلك المجال.
بالتأكيد أن الظروف الصعبة التي تواجه الموظف العمومي ستحد من قدرته على القيام بواجباته الأخلاقية، لذا فإنه من الضروري مراجعة مضيافية المجال العام للعاملين فيه بشكل أساسي.
لكن لا بد من التذكير أن الضيافة بطبيعتها مصممة كسلوك اجتماعي للظروف الصعبة، وأن الكرماء وأهل الضيافة لا يجدونها سهلة ومرتبطة بالأحوال الجيدة.
الضيافة في الأخير قيمة أخلاقية مثل الرحمة والأمانة والمساعدة، تعبّر عن تعامل الإنسان مع العالم حوله، من منظور أعمق من منظور تبادل المصالح أو المنافع.
الموظف العمومي يجب أن يأخذ كل حقوقه، وأن يشارك في إنشاء أجواء العمل المحيطة به، لكن حتى في ظروفه غير المثالية يمكننا المراهنة على حس الضيافة في داخله للترحيب بمن قدم إلى مقر عمله باحثا عن مساعدة وقضاء حاجة.
يحق لنا المراهنة على ضيافته، كما يحق لنا المراهنة على أمانته وعدالته ونزاهته في عمله. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن علاقة الضيافة بين الموظف العمومي والمراجعين لها القدرة على إعطاء هذا الموظف معنى عميقا بقيمة عمله، وإحساسه بفعل الخير يخفف من شراسة الظروف التي يعمل داخلها.
هذا ليس حديثا مثاليا، بل يعكس تجربة مر بها كثير من الناس مع الشعور العميق بالرضا والسعادة مع كل يد نمدها لمساعدة الآخرين.
القضية الثانية متعلقة بمرض الضيافة وانحرافها عن معانيها وإصابتها بالعيوب التي جاءت أصلا لمحاربتها.
بمعنى، أن الضيافة اليوم أصبحت تعبيرا عن التفاخر والهياط والتعبير عن الانحيازات العنصرية والطبقية في حياتنا. بالتأكيد أن السلوك الاجتماعي لا يمكن عزله عن المؤثرات المحيطة به، والتي يمكن أن توجهه إلى اتجاهات مختلفة ومتناقضة.
الضيافة جزء من هذا الشرط، ولكن لدي رهان عميق على قدرة الناس الدقيقة على تحديد الضيافة الحقيقية من الضيافة المزيفة. بمعنى، أننا لو تصورنا أن فلانا من الناس استضاف في بيته أحد أصحاب المناصب أو الثروة، وقدم له أفخم الأطعمة والمشروبات والعطور، فإن الناس بحسهم المباشر لن يعتبروا هذا السلوك ضيافة أو كرما، سيعتبرونه لقاء عمل أو مصالح أو استعراض علاقات. الناس لن يمنحوا قيمة الضيافة إلا لمن استضاف غريبا أو محتاجا أو إنسانا لا يُرجى من ورائه منفعة.
حس الناس العالي في التمييز بين الضيافة وغيرها يجعلنا نتفاءل بأن المعنى الحقيقي للضيافة أن القيم الأخلاقية خلفها ما تزال حاضرة في ضمائر الناس.
في الإرث الثقافي المحلي كَمٌّ هائل من القصص والأشعار التي تقيم التمييز الواضح بين الضيافة الحقيقية والضيافة المزيفة.
فقر المضيف يعطيه قيمة استثنائية وآخرية الضيف تعطيه منزلة لا تضاهى.
بمعنى، أنه كل ما كانت ظروف المضيف المالية والصحية أضعف، زاد التقدير لضيافته، وكلما كان الضيف غريبا زادت قيمة ضيافته. هذه المعاني واضحة في تفكير الناس اليوم، وسط كل هذه المشاهد من المباهاة والزيف الاجتماعي.
النقاط السابقة التي أثارها الصديق العقيل حقيقية، وتعبّر عن الواقع الذي نفكر في الضيافة داخله.
الضيافة هنا تبدو قادرة على تقديم علاقة بديلة بين الذات والآخر رغم كل هذه الصعوبات. الضيافة علاقة قريبة من الإنسان وتمسّ عمق وجوده مع الآخرين وللآخرين، وبالتالي فهي قادرة على الحضور الحقيقي وسط مشاهد التزييف ووسط الظروف الصعبة. الضيافة في الأخير استجابة لتراجيديا الضعف والحاجة الإنسانية، لذا، فالأمل فيها يرتفع مع ارتفاع حدة هذه التراجيديا.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
أولا: هل مطالبة الناس بأخلاق الضيافة في المجال العام "مثلا بالتعامل مع المراجعين وكأنهم ضيوف" مطالبة واقعية؟
بعنى أنه لو أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي يمر بها الموظف وضغط العمل وسلوك المراجعين وضعف التقدير من جهة العمل، فإن مطالبته بأخلاق الضيافة تبدو مطالبة غير واقعية.
القضية الثانية، متعلقة بمدى انحراف ممارساتنا للضيافة عن هدفها الأساسي، وتحولها إلى مجرد سلوكيات مصلحية، وتعكس حتى انحيازاتنا العنصرية والطبقية. بدلا من أن تكون الضيافة للمحتاج وعابر السبيل والغريب، أصبحت اليوم توجّه إلى أصحاب المناصب والثروات.
شخصيا، أعتقد أن هذه النقاط تحمل تحديات حقيقية لفهمنا وممارستنا لأخلاق الضيافة، وللتوقعات والآمال التي يمكن أن نعلقها بها لمواجهة الأسئلة الأخلاقية التي تواجهنا.
الضيافة في الأخير، تمثل لنا أملا كبيرا باعتبار أنها، خلافا للعنصرية والتعصب والطائفية، تعطي الآخر والغريب والضعيف أولوية أخلاقية، وتربط الذات بالالتزامات عميقا، تتعارض تماما مع غرائز الانتقام والعنف والتوحش.
سأحاول الآن مناقشة النقطتين السابقتين لنرى كيف تبدو الضيافة بعدها.
الموظف الذي نتوقع منه أن يتعامل مع من حوله بأخلاق الضيافة، قد يمر بظروف حقيقية، تُحد جدا من احتمال ضيافته.
في الأخير، الضيافة تعكس انتماء يشعر به الفرد للمكان الذي يعمل فيه.
في الأصل، يمارس الفرد الضيافة في بيته الذي يملكه، وفي أرضه التي ينتمي إليها.
هناك علاقة ضرورية بالمكان يجب أن تتحقق ليمارس الإنسان الضيافة. قلنا سابقا إن الملكية الخاصة ليست شرطا لممارسة الضيافة، وأن الانتماء إلى المكان، بما فيه المكان العام، يكفي كأساس ينطلق منه الإنسان لمارسة الضيافة.
لذا، فإن سؤالنا هنا متوجه إلى مدى انتماء العاملين في المجال العام "موظفون عموميون" لأعمالهم وللأماكن التي يعملون فيها.
سيكون من الصعب جدا أن نتوقع من الموظف الذي يشعر بالاغتراب والتهميش في مجال عمله أن يمارس الضيافة، ويعطي الآخرين الشراكة في المكان الذي لا ينتمي إليه أساسا.
لذا، فإن التفكير في الضيافة يتضمن كذلك مراجعة لتصميم المجال العام، ولطبيعة العلاقات التي يعكسها ذلك المجال.
بالتأكيد أن الظروف الصعبة التي تواجه الموظف العمومي ستحد من قدرته على القيام بواجباته الأخلاقية، لذا فإنه من الضروري مراجعة مضيافية المجال العام للعاملين فيه بشكل أساسي.
لكن لا بد من التذكير أن الضيافة بطبيعتها مصممة كسلوك اجتماعي للظروف الصعبة، وأن الكرماء وأهل الضيافة لا يجدونها سهلة ومرتبطة بالأحوال الجيدة.
الضيافة في الأخير قيمة أخلاقية مثل الرحمة والأمانة والمساعدة، تعبّر عن تعامل الإنسان مع العالم حوله، من منظور أعمق من منظور تبادل المصالح أو المنافع.
الموظف العمومي يجب أن يأخذ كل حقوقه، وأن يشارك في إنشاء أجواء العمل المحيطة به، لكن حتى في ظروفه غير المثالية يمكننا المراهنة على حس الضيافة في داخله للترحيب بمن قدم إلى مقر عمله باحثا عن مساعدة وقضاء حاجة.
يحق لنا المراهنة على ضيافته، كما يحق لنا المراهنة على أمانته وعدالته ونزاهته في عمله. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن علاقة الضيافة بين الموظف العمومي والمراجعين لها القدرة على إعطاء هذا الموظف معنى عميقا بقيمة عمله، وإحساسه بفعل الخير يخفف من شراسة الظروف التي يعمل داخلها.
هذا ليس حديثا مثاليا، بل يعكس تجربة مر بها كثير من الناس مع الشعور العميق بالرضا والسعادة مع كل يد نمدها لمساعدة الآخرين.
القضية الثانية متعلقة بمرض الضيافة وانحرافها عن معانيها وإصابتها بالعيوب التي جاءت أصلا لمحاربتها.
بمعنى، أن الضيافة اليوم أصبحت تعبيرا عن التفاخر والهياط والتعبير عن الانحيازات العنصرية والطبقية في حياتنا. بالتأكيد أن السلوك الاجتماعي لا يمكن عزله عن المؤثرات المحيطة به، والتي يمكن أن توجهه إلى اتجاهات مختلفة ومتناقضة.
الضيافة جزء من هذا الشرط، ولكن لدي رهان عميق على قدرة الناس الدقيقة على تحديد الضيافة الحقيقية من الضيافة المزيفة. بمعنى، أننا لو تصورنا أن فلانا من الناس استضاف في بيته أحد أصحاب المناصب أو الثروة، وقدم له أفخم الأطعمة والمشروبات والعطور، فإن الناس بحسهم المباشر لن يعتبروا هذا السلوك ضيافة أو كرما، سيعتبرونه لقاء عمل أو مصالح أو استعراض علاقات. الناس لن يمنحوا قيمة الضيافة إلا لمن استضاف غريبا أو محتاجا أو إنسانا لا يُرجى من ورائه منفعة.
حس الناس العالي في التمييز بين الضيافة وغيرها يجعلنا نتفاءل بأن المعنى الحقيقي للضيافة أن القيم الأخلاقية خلفها ما تزال حاضرة في ضمائر الناس.
في الإرث الثقافي المحلي كَمٌّ هائل من القصص والأشعار التي تقيم التمييز الواضح بين الضيافة الحقيقية والضيافة المزيفة.
فقر المضيف يعطيه قيمة استثنائية وآخرية الضيف تعطيه منزلة لا تضاهى.
بمعنى، أنه كل ما كانت ظروف المضيف المالية والصحية أضعف، زاد التقدير لضيافته، وكلما كان الضيف غريبا زادت قيمة ضيافته. هذه المعاني واضحة في تفكير الناس اليوم، وسط كل هذه المشاهد من المباهاة والزيف الاجتماعي.
النقاط السابقة التي أثارها الصديق العقيل حقيقية، وتعبّر عن الواقع الذي نفكر في الضيافة داخله.
الضيافة هنا تبدو قادرة على تقديم علاقة بديلة بين الذات والآخر رغم كل هذه الصعوبات. الضيافة علاقة قريبة من الإنسان وتمسّ عمق وجوده مع الآخرين وللآخرين، وبالتالي فهي قادرة على الحضور الحقيقي وسط مشاهد التزييف ووسط الظروف الصعبة. الضيافة في الأخير استجابة لتراجيديا الضعف والحاجة الإنسانية، لذا، فالأمل فيها يرتفع مع ارتفاع حدة هذه التراجيديا.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on February 09, 2016 15:46
No comments have been added yet.
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

