الغيرة والثقافة

الغيرة والثقافةعبدالله المطيري
لفت انتباهي في الفترة الأخيرة أثناء نقاشات متعددة مع عدد من الأصدقاء عبر وسائل التواصل الاجتماعية استخدام مفهوم "الغيرة" في نقاش القضايا الثقافية. هذا الاستخدام أخذ أكثر من صيغة، منها "الغيرة على الثقافة"، و"الغيرة الثقافية". هذه الاستخدامات تجمع مفاهيم ليست دارجة على الأقل في التعبيرات المعلنة، فالغيرة غالبا ما تحيل إلى نوع محدد من المشاعر الإنسانية المرتبطة بعلاقته مع من يحب وإشكالات تلك العلاقة. نقل هذا الاستعمال من العلاقة الفردية كغيرة الأزواج إلى علاقة ثقافية أوسع؛ ملفت للانتباه، ويحتاج للفحص والبحث لمعرفة العلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الإنسان وثقافته والآخر نتيجة للانطلاق من مشاعر أو مفاهيم كالغيرة الثقافية أو الغيرة على الثقافة.
جميعنا نعلم أن الغيرة على المستوى الفردي شعور مخاتل قد يكون تعبيرا عن الحب وقد يتطور ليصبح نارا تحرق الحب والمحبوب. الغيرة شعور مخاتل لأنه قد يتملك الفرد ويسيطر عليه ويطمس تفكيره ويحوله إلى مجرد أداة تقودها الخيالات والأوهام. المحب الذي سيطرت عليه الغيرة يعجز عن رؤية الواقع ورؤية محبوبته، لذا فالغيرة قد تكون تدميرا لمن نحب رغم أنها انطلقت من مشاعر محبة طاغية. هذا البحث إذن هو محاولة لتتبع أثر مشاعر الغيرة علينا عندما ننقلها للمجال العمومي والذي نعبر عنه أحيانا بالمجال الثقافي.
في البداية نحتاج إلى تحليل مشاعر الغيرة للتعرف أكثر على دور الذات والآخر فيها. في البداية الغيرة علاقة ثلاثية على الأقل وليست ثنائية. بمعنى أنه لا بد من توافر الذات ومن نغار عليه ومن نغار منه. هذه أطراف أساسية لكل علاقة غيرة. نحن ومن نحب وطرف ثالث يربك علاقتنا بمن نحب. في الغالب يذهب المحبوب ضحية لشعور الذات بالغيرة من الطرف الثالث. كذلك من المهم الإشارة إلى أن الطرف الثالث في علاقة الغيرة يمكن استبداله بآخر. بمعنى أن الغيرة ليست مرتبطة بطرف ثالث محدد بين المحبوب وحبيبته ولكنها مفتوحة على احتمالات لا نهائية لأطراف جديدة تثير الغيرة بين الحبيب ومحبوبه. في الغيرة هناك آخران. الآخر المحبوب والآخر الذي يسبب الغيرة. يبدو أن الغيرة تتحرك في اتجاه طمس آخرية المحبوب وتحويله إلى جزء من الذات، باعتبار أن الغيرة حالة متطرفة من حب التملّك والسيطرة. كذلك آخرية الطرف الثالث ترتبك مع الغيرة. الآخر هنا لا ينظر له إلا على أنه راغب في السيطرة والاستحواذ، حتى لو أكد المحبوب مرارا وتكرارا على أن هذا غير صحيح. الغيرة هنا هي محاولة لقطع العلاقة بين المحبوب والآخر، رغما عن رأي المحبوب والآخر في طبيعة العلاقة بينهما.
لكن أليس كل الكلام السابق ليس إلا عرضا للحالات المتطرفة من الغيرة؟ ماذا عن الغيرة الطبيعية المرافقة للحب؟ في الأخير من لا يغار لا يحب. يبدو أن الغيرة المقصود بها هنا شيء يمكن التعبير عنه برغبة الذات أن يعطيها المحبوب صفة استثنائية عن الآخر. أي تعبير أن ما بين العاشق والمعشوق علاقة خاصة لا يتمتع بها أحد غير الذات. هذا الشعور يبدو طبيعيا ما دام مربوطا بقرار المحبوب. بمعنى أن غيرة المحبة الطبيعية مربوطة بشكل أساسي بالثقة بالمحبوب. هذه الثقة يمكن التعبير عنها بعدم قطع علاقة المحبوب بالآخر بقدر ما هي الثقة بقدرة على المحبوب بالتواصل مع الآخر بحرية والثقة بأن المحبوب لا يزال يعطي الذات مكانة خاصة بإرادته المستقلة. الغيرة هنا شعور متجذر عند الإنسان بحب التملك والاستحواذ يبقى طبيعيا إذا تمت السيطرة عليه بمعاني أخلاقية كالثقة واحترام الخيارات الفردية. في حال أفلتت رغبات التملك والاستحواذ من المعاني الأخلاقية العادلة فإن الغيرة تتحول إلى تدمير للعلاقة بين الحبيب والمحبوب والطرف الثالث. الغيرة هنا معنى يتمتع به المحبوب ما دام لا يلغي ذاته، لكن في كثير من الأحيان تفلت الأمور من يد العاشق تحت فرط محبته الأنانية ليقضي على حرية وخيارات من يحب.
هل كل هذه الاحتمالات تنتقل معنا حين نفكر في الغيرة في المجال العام. أي حين ننتقل للتفكير في علاقة الفرد بالجماعة أو الثقافة التي ينتمي لها؟
من الضروري الحديث عن طبيعة تفكير الإنسان حين يشعر بالغيرة. مشاعر الغيرة تعطي طاقة مهمة للتفكير في القضية التي أثارتها "الغيرة"، باعتبار أنها تجعل هذه القضية موضوع التفكير والاهتمام ولكنها في ذات الوقت تمدها بطاقة غير متوازنة ومدفوعة برغبات ذاتية تطغى على حضور الأطراف الباقية في العلاقة. الغيرة مقرونة غالبا بالاشتباه بالآخر والتوجس منه وبعدم قدرة المحبوب على مقاومة ذلك الآخر. لذا فتفكير الغيران تغلب عليه روح الإنقاذ والحماية ورد العدوان والدفاع عن الممتلكات. الغيرة غالبا ما تعطي هذه النتيجة التي تدعو للتأمل: القضاء على المحبوب باسم الحب. في الحالات الحادة من الغيرة يتم إيذاء المحبوب باسم محبته وباسم الحفاظ عليه. هل سيكون هذا شبيها لمشهد قمع الشعب وحريته باسم حمايته من استحواذ الآخر عليه وغيرة عليه؟ سنجيب عن هذا التساؤل لاحقا.
 http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 01, 2015 16:23
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.