العنف كغياب للآخر
العنف كغياب للآخرعبدالله المطيري في المقالة السابقة كان التفكير في العنف من خلال أحد أشهر الحوارات في التاريخ الفلسفي، حوار سقراط مع مينو. لا بد في البداية أن نذكّر أن الحوار بحد ذاته هو قطيعة مع أشكال العنف الحادة كالعنف الجسدي. بمعنى أن الحوار هو إعلان بأن هناك طريقة أخرى للتواصل وإنجاز الأهداف غير وسيلة القضاء على الآخر فيزيائيا أو إعاقة حضوره بشكل مساوي للذات. الحوار رهان على حضور الذات والآخر معا. الحوار بهذا المعنى قطيعة مع جزء هائل من العنف لكنه ليس بالضرورة قطيعة مع كل العنف. بمعنى آخر الحوار، كما في مثال مينو، قد يحمل في طياته جذورا للعنف. هذه الجذور يمكن النظر لها من خلال موقف الذات من الآخر. على سبيل المثال الحوار التقني بمعنى الحوار محدد الأهداف سلفا لا يتناقض مع تشيئ الآخر. أي لا يتناقض مع تحويل الإنسان الآخر لأداة يتم من خلالها تحقيق هدف الذات. الحوار بين التاجر والزبون هو حوار من هذا النوع. داخل هذا التواصل يحضر الطرفات بصفات وأدوار محددة تخدم الغاية التجارية. الحوار الدعوي الذي تنطلق فيه الذات إلى تحويل الآخر إلى نسخة منها يدخل في ذات السياق. الآخر هنا مجرد ذات محتملة لذا حين تفشل الدعوة يتم إعلان الحرب أو العداوة أو في أحسن الأحوال يتم إعلان القطيعة. في حوار سقراط مع مينو يمكن ملاحظة ما يمكن تسميته بالعنف الميتافيزيقي. بمعنى العنف الذي تفرضه المقولات الميتافيزيقية على التفكير والتواصل. إحدى القوى الميتافيزيقية التي مارست ضغطا على مينو في الحوار هي ما يمكن تسميته بمذهب التعريف عند سقراط. هذا المذهب ينطلق من أن أول خطوة لفهم الأشياء تتم من خلال تعريفها. أضف إلى ذلك مذهب الجوهر ليكون التعريف هو ما يقبض على جوهر الشيء. الجوهر بطبيعته هنا واحد ومتمايز عن غيره. أمام هذا الجدار الميتافيزيقي كانت تعريفات مينو للفضيلة تتساقط الواحد تلو الآخر ليصل مينو لحالة عميقة من الارتباك والغضب. التصور السقراطي هنا أن مينو قد اكتشف بنفسه قصور ومحدودية أفكاره وأن هذا الشعور طبيعي للوصول إلى مرحلة إدراك الجهل والبدء في البحث الجاد. كل هذا ممكن ولكنه بالتأكيد ليس الطريق الوحيدة للمعرفة. الحجة السقراطية تقول أن هذا العنف "شرط ضروري" للمعرفة وهذا ما يجعل هذا العنف طبيعيا بل وخيرا باعتبار أنه يقود إلى خير أكبر وهو خير المعرفة. لكن هل هذا فعلا هو الطريق الوحيد للمعرفة؟ نعرف اليوم أن مذهب التعريف ومذهب الجوهر ليست الطرق الوحيدة للمعرفة. مثلا المعرفة الاستقرائية بعمومها تقوم على عكس هذا التفكير بحيث تنطلق من الملاحظات الواقعية لبناء أحكام متعلقة بذلك الواقع. فكرة الجوهر أيضا لم تعد متداولة أو حتى مقبولة بشكل كبير في التفكير المعاصر. الأشياء والأفكار هي نقاط التقاء لعوامل متعددة شاركت في تشكيلها وبنائها. إذا الاتفاق والتشابه هو منطق فكرة الجوهر فإن الاختلاف والتنوع هو شكل آخر من أشكال التفكير لم يكن مطروحا أمام مينو. المقولات الميتافيزيقية المتعالية بهذا المعنى تغطّي الآخر وتخفيه باعتبار أنها تحدد مسبقا الفضاء الذي يمكن له الظهور فيه. نلاحظ هنا أن الأنا هي سيدة الموقف فهي من تضع الشرط الأساسي لحضور الآخر. الآخر هنا يظهر بقدر تشابهه لا بقدر اختلافه. حين تتوافق مع تصوراتي الذهنية المسبقة فإن تواصلنا سيستمر ولكن حين تختلف معها فإن الحوار سيتم توجيهه باتجاه مهمة محددة ينتهي التواصل بانتهائها: مهمة إقناعك لتشابهني. صحيح أن التفكير في كثير من الأحيان قد يستلزم الانطلاق من مقدمات أكبر تربط الأفكار وتنظّم الاستنتاج ولكن الفكرة هنا أن تكون الأولوية للآخر على هذه المقدمات. بمعنى أن تكون العلاقة مع الآخر سابقة بالمعنى المنطقي والتاريخي على هذه المقدمات. الآخر هو شرط هذه الأفكار وليس نتيجة لها وبالتالي فإن حضوره يفترض أن يفتح فضاء الجديد والمختلف والمفاجئ والذي هو بطبيعته تحدي لما هو مستقر وثابت. علاقة سقراط ومينو ستكون أكثر تواصلا لو كان سقراط أكثر انفتاحا على مينو. رغم أن سقراط هو من كان يجول في الطرقات بحثا عن الحوارات إلا أن حواراته كانت محدودة الأفق باعتبار أنه كان يسعى إلى "إظهار جهل مدعي المعرفة". هذه المهمة نبيلة ولكنها في ذات الوقت تحجب الذات عن الآخر. الآخر هنا هو "مدعي المعرفة". خارج هذه الصفة يختفي الآخر. التواصل هنا محدود بهدف معين ولذا فهو نشاط موجه لأغراض اجتماعية وسياسية. الأغراض الاجتماعية والسياسية جوهرية للحوار ولكن الإشكال يتحقق حين تكون تلك الأغراض الاجتماعية أو السياسية مقدمة لطبيعة العلاقة مع الآخر بدلا من أن تكون نتيجة لها. هنا تتحقق المعضلة الأخلاقية في أولوية معايير الذات كشروط سابقة للعلاقة مع الآخر. المعادلة هذه تعني عملية رد الذات للآخر وهي العملية الجوهرية في العنف. العنف في الأخير علامة فشل على وجود الذات والآخر ولذا فهو عملية إخفاء وتغطية وتغييب للآخر. في المقالات اللاحقة سأتحدث عن نتائج هذا العنف من خلال مواقف سقراط من التعليم ومن الشعر.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on June 02, 2015 17:37
No comments have been added yet.
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

