من تاريخ اتصال المسلمين بالغرب (1)



لا ريب أن التاريخ أوسع من مجرد التاريخ السياسي، كما لا ريب أن التاريخ السياسي أوسع من تاريخ الحروب، ولكن الحقيقة التي لا فكاك منها أن تاريخ الحروب هو خلاصة التاريخ السياسي، وأن التاريخ السياسي هو خلاصة التاريخ كله، ولا يسع أحدا يريد دراسة العلاقة بين أمتين إلا أن يبدأ بتاريخ الحروب هذا، فإن شاء اكتفى فيخرج حينئذ بحصيلة نافعة وصادقة وكافية أيضا، وإن شاء استزاد فكان أحسن وأنفع. [راجع: موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب ج1، ج2، ج3، ج4]في الحروب يضع كل فريق خلاصة نفسه، العلوم والفنون والأفكار والاختراعات وتدابير السياسة ونتائج البحوث، والحروب ليست اشتباك السلاح وحده بل قبلها وبعدها وحولها اصطراع العقائد والفلسفات والأساطير والقيم والأخلاق، حتى العلاقات السياسية هي في التحليل الأخير صيغة حربية تعبر عن موازين القوى ومساحات النفوذ وآفاق الرغائب والمطامح والمطامع، وحتى العلوم -بشقيها الإنساني والتطبيقي- ما لم يكن لها إسهام ملموس في رفعة ومجد الأمة لم يكن لها فائدة عملية بل ربما كانت وبالا على الأمة ذاتها إذا اتجهت للترف والتفاهات دون الغايات والمهمات.وإذن، فقد أثمر هذا التاريخ الطويل بين المسلمين والغرب حروبا لا تنقطع، ومع ذلك فقد أثمر مساحات أخرى من التعارف والتأثير والتأثر، وبمثل ما كانت الحروب دافعا لمعرفة المزيد عن هذا الخصم، بمثل ما كان تطور العلوم نافعا في إدارة هذه العلاقات والحروب، إن على مستوى الملوك والساسة أو على مستوى العلماء وطلبة العلم أو حتى على مستوى العامة.ومع هذا فقد كانت مساحة التعارف الإسلامي على الغرب أوسع بكثير من مساحة الحروب وما أثمرته، فالإسلام من حيث هو رسالة عالمية يحفز أهله على العلم وعلى الدعوة، وقد وضع القرآن الكريم والسنة النبوية أصول التعارف على الآخر ومعلومات غزيرة عن بعضه -كاليهود والنصارى- فكان هذا أساسا انطلق منه المسلمون في اتجاهات شتى.ونحن حين نسعى في التأصيل الإسلامي لعلم الاستغراب فيجب علينا أن نقلب في هذه المعرفة القديمة بالغرب، والتي تمثل بذورا وجذورا للاستغراب الذي نريده، وحينئذ سنجد لدينا تراثا ضخما ومتشعبا ومهما، وهو تراث نافع على الجهتين: جهة علمنا بأصولنا ومدى ما بلغه أجدادنا من المعرفة وقيمة ما حصلوه ومقدار ما فاتهم وما أخطأوا فيه، وجهة علمنا بأصول الغرب وجذوره، فمما لا شك فيه أن الغرب الحديث عرف نفسه من خلال تراثنا نحن، ويشهد بهذا كثير منهمنشر في نون بوست
يقول لويس سيديو بأن المعلومات التي قدمها العرب عن العصور الوسطى "لا تُقَدَّر بثمن". لويس سيديو: تاريخ العرب العام، ص425. مسلم (2898). البلاذري: أنساب الأشراف 5/147، والطبري: تاريخ الطبري 3/265. أغلب الظن أنه انتهز فرصة وجود الجيش الإسلامي فأسلم وانحاز إليهم، أو هو على الأقل سالمهم وخرج ليعقد صلحا يتجنب به حرب المسلمين على مدينته "خرشنة". ابن الفقيه: البلدان ص392. محمد إلهامي: رحلة الخلافة العباسية 2/103، 109. وانظر أطراف قصتهم ببعض تفصيل في: قدامة بن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة ص187، الطبري: تاريخ الطبري 5/ 513، المسعودي: مروج الذهب 2/583، المسعودي: التنبيه والإشراف ص130، 155، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 6/ 272، فتحي عثمان: الحدود الإسلامية البيزنطية 2/221، 222، 3/318، د. فاروق عمر فوزي: الخلافة العباسية 2/71، د. سهيل زكار في الموسوعة الشاملة للحروب الصليبية 3/215. ابن أبي شامة: عيون الروضتين 2/364.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 16, 2014 07:48
No comments have been added yet.