أخبرتني المرآة

*مدخل :
“نحن نخترع ما يعكس رغباتنا السرية"
-الكاتب الانجليزي لورنس دوريل-


هذا هو يومي الثاني والسبعون بعد المائة !!
أقضي يومي ساهمة ، أعاني من شعور الغثيان المستمر ، لا قدرة لي على الحركة فحالتي الصحية في تدهور مستمر أبقى معظم وقتي مستلقية بالفراش ولذلك أطلق عيناي تجولان وتتفحصان تفاصيل المكان ...
كل ما حولي يبعث على الملل والرتابة ... الألوان ، الرائحة والأثاث المتقشف ..

أعتبر بقائي على قيد الحياة طوال هذه المدة إنجازاً عظيماً ، فما من أحد -أياً كانت قوته - يمتلك القدرة على أن يقضي كل هذا الوقت في مكان باهت ، شاحب يبعث في النفس الضجر..

كم أكره هذه الغرفة التي لا أبرحها.. غرفة كئيبة تفتقر للحياة ينقصها الكثير لتكون مكاناً أستطيع فيه أن أستعيد حياتي التي باتت كحبات الرمل تتسرب من بين أصابعي ...

بياض مقيت يحيط بي من كل جانب ، الجدران بيضاء ، شراشف السرير ، ثوبي ،الإضاءة ، حبوب الدواء وحتى من يترددون عليّ لا يرتدون إلا الأبيض الذي يدفعني للدوار والغثيان !!
لم أكن يوماً من عشاق اللون الأبيض ، صحيح أنه لون النقاء والطهارة - كما يقولون - ولكنه بالنسبة لي مجرد لون حيادي بلا هوية ... ولذلك لم يكن فستان الزفاف الأبيض حلمي كباقي الفتيات وحين تزوجت اخترت اللون اللؤلؤي المائل للإصفرار !
ياللسخرية !!...
ها هو القدر يعاندني فيحيطني بكل هذا البياض الذي يبعث في نفسي برودة الموت ، أو ربما هو يهيئني لتقبل اللون الأبيض الذي سأرتديه عما قريب !!

أتوق لرؤية اللون الأخضر - قام زوجي بإحضار نبتة صغيرة بعد أن استشار الأطباء - فلم يمانعوا بشرط أن تبقى بعيداً عن سريري ، ولكن الشحوب بدأ يكسوها مثلي تماماً ... وبدأت أشفق من رؤية أوراقها المصفرة ...

أشتاق لرؤية زرقة السماء ، لا أراها إلا في ملابس عاملة التنظيف التي تدخل الغرفة كل صباح وهي عابسة ومتذمرة ..

أتعلمون ما الذي أحتاجه أيضاً ؟
مرآة ..

وكأن من قام باختيار الأثاث تعمد أغفال وجودها ، أظنه أفترض أن من سينتهي بهم المطاف هنا لن تكون لديهم الرغبة في التطلع إلى وجوههم !

(المرآة ) ذلك السطح المصقول العاكس ، واللسان المشحوذ الذي لا يعرف الكذب ولا المجاملة ، دوماً تنطق المرايا بالحقيقة التي لا نستطيع إنكارها مهما رغبنا في ذلك ، وما من إمرأة إلا وتعتبر " المرآة " صديقتها الصدوقة ،بالنسبة لي كنت دوماً مولعة بتأمل تفاصيل إنعكاسي لا على كل مرآة أصادفها وحسب ، ولكن على أي سطح عاكس أمر من أمامه...
ولذلك ألححت على زوجي ووالدتي أن يحضرا لي مرآة ولكنهما ماطلاني كثيراً ولم يحضراها في النهاية ، كنت أعلم بخشيتهما لردة فعلي حين أرى ما آل إليه مظهري جراء المرض ولكنهما لم يدركا أن مجرد تخيل شكلي كان يقتلني أكثر مما لو رأيت وجهي مباشرة ، كنت أشعر بكل ما يحدث لي حتى وإن لم أراه ...
وبقيت أمنية مشاهدة وجهي في المرآة تلح علي إلى أن حدث شيء غريب لم أتوقعه !!

كان الجدار المقابل لسريري يتحول إلى مرآة ضخمة ، لم أكن أرى فيها وجهي وحده بل كنت أرى على سطحه مشهداً متكاملاً يتحرك كما تتحرك المشاهد السينمائية ، والغريب أن كل ذلك كان يحدث مترافقاً مع جلساتي التي أتلقى فيها العلاج الكيميائي !

كل ما أراه يبدو حقيقياً ، كنت أرى مشهداً متكاملاً يبدأ بأحداث مرت بي في الواقع قبل أن يهاجمني المرض وينتهي بحدوث أمر يتعلق بالمرض الذي أعاني منه ، وهو ما أثار استغرابي وشغل تفكيري لكني استسلمت له في النهاية ... وأبقيته سراً لم أتجرأ على إخبار أحداً به فآخر ما كنت أريده أن أُتهم بالهلوسة أو الإستغراق في أحلام اليقظة !

في الجلسة الأولى وبعد أن تحول الجدار بأكمله إلى مرآة رأيتني أزف بفستان عرسي وقد أمسكت بذراع زوجي ، كنت أسير ببطء مزهوة وسعيدة ولكن عيون الناس من حولي كانت تلتهمني وكنت أسمع أصوات همهماتهم من حولي ترثى لحالي وأنا أزف دون طرحة العرس .. فكيف لي أن أرتديها وأنا صلعاء !!

في الجلسة الثانية رأيت نفسي مع زوجي في طريقنا لقضاء أمسية في مطعمنا المفضل ، كانت المناسبة هي ذكرى زواجنا الثانية - في الواقع فاتتني هذه المناسبة لأنها مرت وأنا قابعة في هذا السرير البغيض - ..
كنت أرتدي فستان السهرة المفضل لدي ، كان أحمر اللون عاري الأكتاف ..
وقفت بعد برهة أمام باب المطعم رافضةً الدخول إليه وعبثاً كان يحاول زوجي إقناعي بالدخول ، فكيف لي أن أدخله وجسدي مغطى بكل تلك الكدمات الزرقاء جراء الإبر والأنابيب المعلقة دوماً بذراعيّ ..

وهكذا توالت تلك المشاهدات واحدة تلو الأخرى مع كل جلسة أتلقى فيها جرعة من العلاج الكيميائي ، في إحدى الجلسات شاهدت نفسي وقد جلست على كرسي هزاز محتضنة بين يديي طفل رضيع جميل الوجه ، كان يغمرني إحساس الأمومة نحو ذلك الطفل الذي لطالما حلمت بإنجابه ولكن المرض اللعين سبق ومنعني من ذلك ...
كنت أجلس بهدوء وأنا أهدهده وفي لحظة أرتفع صوت صراخه طالباً الحليب وحين حاولت أن ألقمه ثديي ليشرب لم أجد إلا الفراغ بعد أن قُطع ثديي !!

اليوم كانت جلستي الأخيرة المقررة لتلقي العلاج وفيها رأيت ما هز كياني وبعث في روحي الحيرة والقلق ... كنت نائمة في غرفة نومي وكان زوجي يحاول إيقاظي مردداً بأن الطائرة التي سنستقلها لقضاء الإجازة ستفوتنا حتماً ..
فتحت عينيّ بتثاقل ، تأملت عيناي ما حولي ، لم أكن في سريري ، كنت قابعة في مكان ضيق ، مطمورة تحت حبات التراب ، حاولت أن أمد يديّ علني أنهض ، لم أستطع كانتا مشدودتين إلى جسدي الذي لفه قماش أبيض !!

مخرج :
“لا تحدق في المرآة عندما تحاول حل مشكلة"
- الحكيم ميسون كولي -


نشرت هذه القصة في المجموعة القصصية المشتركة " ظل "
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 13, 2014 04:16 Tags: قصة
No comments have been added yet.