المواطنة بين الحقوق والواجبات

كتبتُ في الأسبوع الماضي مقالاً عن ضرورة دعم جهود جمعية (كِلانا) الخيرية لرعاية مرضى الكلى، وبقراءة أصداء المقال لفت انتباهي بعض التعليقات التي كانت ترى أنها لا تريد أن تتبرع لسبب بسيط وهو أن هذه مسؤولية وزارة الصحة، وبالتالي تساءلت: لم لا يكون المقال عن مطالبة الوزارة بالقيام بواجبها بدلاً من استجداء تبرعات الناس؟! هذه الأسئلة جعلتني أفكر ملياً وحفزتني بالفعل لأكتب مقالاً جديداً، ليس لتوبيخ أو محاسبة وزارة الصحة، وإنما لتسليط الضوء عن المفهوم الشعبي للمواطنة والكيفية التي يرى فيها سواد الشعب دوره في مجتمعه وتقييمه لحقوقه وواجباته.

فكرة قيام جمعيات أهلية مستقلة بمساعدة المحتاجين سواء من البشر أو حتى من الحيوانات والنباتات ليست بدعة عربية، بل هي أمر معمول به في معظم دول العالم. فحتى في الدول الأوروبية التي توفر معظمها تعليماً مجانياً وطبابة مجانية، وتتبنى فيها الحكومات برامج تنموية رائدة لمساعدة فئات المجتمع الأكثر احتياجاً، فإن الجمعيات الخاصة تنشط فيها بفعالية كبيرة لتؤدي ما تراه واجبها (واجب الشعب والأفراد المستقلين) تجاه مجتمعاتها. وهذه الواجبات لا تتناقض مع المجهودات الحكومية وإنما تتكامل معها وتساعدها. ويقدم القائمون على هذه الجمعيات عدة أسباب ليشرحوا الغاية من إنشاء مثل هذه الجمعيات في ظل توافر الرعاية الحكومية، وفي مقدمة هذه الأسباب: أن "الشق أكبر من الرقعة" فالمحتاجون كثر والدعم الحكومي قد يتأخر أو يتعثر؛ إما تحت ضغط الطلب أو لضياعه في متاهة البيروقراطية التي تميز العمل الحكومي. وبالتالي فهذه الجمعيات المتحررة نسبياً من ثقل العمل الرسمي قادرة على أن تسعف الحاجات بفعالية أكبر. وبعض هذه الجمعيات تتلقى أيضاً معونات من الدولة كاعتراف منها بالدور الفعّال الذي تلعبه في محيطها.

ومن الطبيعي أن تشاهد الحملات والدعايات التي تحث الناس على التبرع لهذه الجمعية أو تلك في بلد مثل المملكة المتحدة، ولا يتحدث الناس فيه عن كون هذه القضايا "واجبات حكومية"، بالرغم من أن الشعب البريطاني من أكثر الشعوب نقداً لأداء حكوماته المتعاقبة، ولديه صحافة لا ترحم أحداً. فلماذا إذًا نجد ردة الفعل الممانعة للتبرع للجمعيات الأهلية خليجياً بالرغم من أن الكرم أصل في ثقافتنا، وبالرغم من أننا كأفراد مطالبون شرعاً بأداء فريضة الزكاة وبذل الصدقات؟

قد يكون السبب هو أن الأمر في الخليج جديد علينا، فمنظمات المجتمع المدني لدينا لاتزال طفلة، والعمل التطوعي المنظم والممنهج بشكله الحديث أيضاً حديث العهد نسبياً مقارنة بجمعيات عمرها مئات أو عشرات السنين في بلدان أخرى. وقد يكون للأمر علاقة بالطريقة التي تمت بها تربية أو برمجة أو تأصيل علاقة هذا المواطن الخليجي بوطنه. فمنذ البداية كانت هناك فئة من هذا الشعب، متمثلة في الحكومات المختلفة، هي التي تتولى تصريف شؤون هذه البلدان بشكل مطلق، ومسؤولة عن الصادر والوارد، وتقوم بإدارة شؤون الناس ومنها أوجه صرف عوائد الثروات والمدخولات الأخرى. وطالما أن الفئة الثانية المتمثلة في شعوب المنطقة تجد المدرسة والجامعة والمشفى والدواء والغذاء والعمل والمسكن وتتفيأ ظلال الأمن والاستقرار، فإنها تكون راضية وغير مكترثة بالكيفية التي تدار بها مجتمعاتها، وكأنما هناك اتفاق غير مكتوب بين المواطن وحكومته بهذا الخصوص. فأصبح المواطن ينظر لبلاده على أنها منجم الثروة الذي لا ينضب، وأن مجرد كونه مواطناً صالحاً فإن ذلك يخوله للحصول على كل شيء دون حتى أن يبذل أي مجهود، فمساهمته بنظره هي موالاته المطلقة لوطنه. وبالتالي يصبح كل دعم حكومي له حقاً مكتسباً لا جدال فيه، ففكرة ألا ينال هذا الحق، ناهيك عن أن يُطالب بالمساهمة في دعم هذه المجتمع من ماله الخاص، تبدو له غير منطقية ولا مقبولة. هذا التصور الذي أستطيع أن أعتبره "مشوهاً" لمفهوم الوطنية، ربما كان صالحاً أو على الأقل غير ضار في تلك الفترة الذهبية من عمر الزمن، حين كانت العوائد النفطية عالية، وعدد السكان قليل، والمجتمعات الخليجية بسيطة في متطلباتها، لأن كلا الطرفين: الحكومات والشعوب، كانا قادرين على الوفاء بشروط ذلك العقد المكتوب بالحبر السحري. لكن وفي ظل متطلبات عالم اليوم، فإن عقداً جديداً ربما يجب أن يكتب وبالحبر المقروء هذه المرة.

يستطيع الخطباء والوجهاء والإعلاميون والكتاب والشعراء والأدباء وأهل السياسة أن يدبجوا عشرات الخطب والمقالات والأشعار التي تخاطب في المواطن وطنيته النائمة، وتستحثها على النهوض، مستخدمة عبارة من عينة (قبل أن تسأل ماذا قدم لي وطني.. عليك أن تسأل ماذا قدمت أنت له؟) وهي عبارة صحيحة، ولكنها لا يمكن أن تبث هكذا على مسامع مواطن يبحث عن تلبية أبسط احتياجاته من مقاعد دراسة لبنيه، ومسكن يؤويه، وعلاج لأبيه، وعمل يكفيه. فالاحتياجات الأساسية لابد أن تُلبى، وإذا كانت هناك عوائق في طريقها فمن حقه أن يعرف ما هي، بل ويصبح من حقه أيضاً أن يسهم في إزالتها، ومن حق الدولة والمجتمع آنذاك أن يطالباه بالمساهمة في دعم مجتمعه. فالمواطن في دول العالم الأول يدفع الضريبة، ويسهم مادياً ومعنوياً في بناء المجتمع، لكنه في المقابل يملك صوتاً مسموعاً في صنع القرار – أو هكذا يُفترض- ومحاسبة المقصرين، فالعلاقة بينه وبين وطنه واضحة وغير ملتبسه.

المجتمعات الحديثة الناجحة مبنية على أسس واضحة، لكل فرد فيها مسؤوليات وحقوق، سواء السلطات أو أفراد المجتمع، وبدون التعاون والتكامل بين هؤلاء الأفراد وتلك الجهات، فلن تلبى المطالب والحاجات، وسيدور المجتمع في حلقة مفرغة قد تؤدي أحياناً إلى نتائج سيئة جداً. وربما قد حان الوقت لنا في الخليج أن نعيد تعريف مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات خاصة لهذا الجيل اليافع الذي يشكل النسبة الأكبر من السكان، وبذلك نكون قد وضعنا خطواتنا الأولى الواثقة نحو مجتمع مدني ناضج وناجح.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 06, 2010 02:47
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.