إعلان الخلافة: حدود الجد والهزل
قضى إعلان الخلافة الإسلامية مع أول يوم رمضاني على الحدود بين الجد والهزل، فقد جاءت جميع محاولات التنكيت على المشهد سامجة، فالمسرح الداعشي مشبع بكوميديته وجابها من الآخر! قطع الطريق على السخرية، ومساحات الخيال، فها هو التنظيم يستعمل كل صور ومفردات المسلسلات
قضى إعلان الخلافة الإسلامية مع أول يوم رمضاني على الحدود بين الجد والهزل، فقد جاءت جميع محاولات التنكيت على المشهد سامجة، فالمسرح الداعشي مشبع بكوميديته وجابها من الآخر! قطع الطريق على السخرية، ومساحات الخيال، فها هو التنظيم يستعمل كل صور ومفردات المسلسلات التاريخية، وخطف جزءا كبيرا من مهارات «التميلح» التويتري المعتادة بالتعليقات الظريفة، والجمل الساخرة عند كل خبر عن الجهاديين والإسلاميين.
توضح صورة داعشية نشرت عن تركتر «شيول» يزيح التراب مع تعليق يشير إلى أن الشويل يقوده الشيخ أبو محمد العدناني وهو يهدم حدود سايكس- بيكو، وكأن الحدود مجرد كثبان رملية أو سياج حديدي تزال بإعلان من طرف واحد! إذا كانت الحالة الداعشية أثرت على السخرية الإعلامية، فإنها أربكت الطرح الجاد في التحليل السياسي، ورؤية التنظيمات المسلحة والاتجاهات الإسلامية، فهل تستحق هذه الأعمال العبثية تناولا محترما، وهي تبدو خارج المعقول، وهل هناك معنى للقلق السياسي مع مثل هذا التنظيم بهذا التفكير الحقيقي أو المصطنع لمهمة خاصة.
بعد مرور أكثر من عام لفهم تفاصيل الحالة الداعشية وتطوراتها يبدو المتابع للخطابات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة والتنظيمات المسلحة منذ أكثر من ثلث قرن، أمام صورة غامضة لطبيعة هذا التنظيم، فهو مع حضوره المركز في الانترنت وخاصة مواقع التواصل، فإنه لا يزال بمئات وآلاف المعرفات شبحيا، وهو ما يفقد قيمته ويقلل من جاذبيته ومصداقيته مقارنة بمراحل جهادية سابقة أيام حركة طالبان والقاعدة قبل وبعد 2001. ولذلك كنا في ذلك الوقت نكتب عن أفكار سياسية وتراثية قابلة للنقاش والجدل، وعرض لمفاهيم السياسة والحروب والأخلاق، وتحقيق لبعض الآراء الفقهية والشبهات التي أربكت جمهورا واسعا بما فيه نخب دينية ومثقفة، تبدو بين سطورهم مع حالات الإعجاب بهذا النوع الجهادي أمام قوى الاستكبار والغرب من خلال لغة إنشائية نضالية في حينها.
تبدو الآن الانتهاكات الداعشية لا علاقة لها بأي إشكال أخلاقي أو فقهي مقبول. لهذا فمجرد الدخول مع مواقفها وطرحها بالرد عليها بتأصيلات فقهية جزء من خدمتها لإضفاء معقولية على ما تقوم به في المناطق التي تسيطر عليها. فهذا التنظيم يفتقد التأييد الشعبي بصورة عامة بما فيهم إسلاميو العالم العربي والإسلامي بكل حركاته ودعاته ومشاهيره من كل الاتجاهات المعتدلة والمتشددة إلى تنظيم القاعدة بمفاهيمه الخاصة، ولهذا تجدهم يشتمون بمعرفاتهم الخاصة الكثير من مشاهير الإسلاميين من علماء ودعاة وحركيين وجهاديين، ويهاجمون مختلف التيارات الإسلامية.
هذا التنظيم بممارساته ومواقفه جعل حتى أحد منظري السلفية الجهادية منذ ربع قرن أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي) ينتقدهم بقوة، وينتقد إعلانهم للخلافة فبدأ في مواجهتهم وكأنه أحد علماء السلاطين ويقول موجها حديثه لهم «لا تظنوا أنكم بأصواتكم العالية ستسكتون صوت الحق، أو أنكم بتهديدكم وزعيقكم وقلة أدبكم وعدوانكم ستخرسون شهاداتنا بالحق لا وألف لا، فسنبقى حرسا مخلصين لهذا الدين، وحماة ساهرين على حراسة هذه الملة نذب عنها تحريف المحرفين وانتحال المبطلين وتشويه الغلاة والمتعنتين وغيرهم من المشوهين».
لا يمتلك تنظيم داعش أي جاذبية ومصداقية مقارنة بالقاعدة في عصرها الذهبي. تأتي محاولة إعلان الخلافة كاستباق لأي انهيار متوقع مع أي قصف دولي بالطائرات والصواريخ ينهي استعراضات التنظيم بالشوارع سريعا، ومع أن التنظيم لا يمتلك أي جاذبية تشبه جاذبية القاعدة، لكنه يراهن على جاذبية موقتة أخرى عبر الصور ومقاطع الفيديو، لمداعبة خيال جمهور آخر من البسطاء ومحبي المغامرة والتغيير في العالم، قبل أي قصف عسكري قادم بعد أن ينتهي دورها السياسي المفترض في هذه المرحلة.
في الماضي عرضت القاعدة فيديوهات لرموزها وهم بالجبال والكهوف يعرضون بياناتهم وصور تدريباتهم، وقد كانت تغري هذه المشاهد من لديهم شعور سينمائي بالمغامرة والنضال. تنظيم داعش اليوم يحاول الجذب بإغراء مختلف وفاخر جدا مقارنة بتلك الصور البدائية للقاعدة، وكأنه دولة حقيقية، بما يملكه الآن من طوابير سيارات جديدة وفاخرة، ومدرعات عسكرية حديثة تجوب الشوارع وشعارات بالطرق والعمائر، لكن مع كل هذه الاستعراضات الدعائية منذ أكثر من عام حتى إلقائه الورقة الأخيرة بإعلانه الخلافة، فإنه لا يبدو له أي جاذبية حقيقية واسعة حتى على مستوى المشاعر والتعاطف الشعبي عربيا وإسلاميا، وقد اهتم العالم العربي الأسبوع الماضي بمباراة منتخبي الجزائر وألمانيا في مونديال كأس العالم أكثر من حكاية إعلان الخلافة!
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
