“بلاد تصلي”

اشتد القيظ وامتد. فيبس الزرع. وجف الضرع. وباتت البلاد وجهاً لوجه مع شبح مجاعة مروعة قد لا تبقي ولا تذر. فقرّ رأي عقلائها على تخصيص يوم بعينه يكرسه السكان للصلاة.
في ذلك اليوم أقبل الناس على معابدهم يقرعون صدورهم ويعفرون جباههم، ويضيئون الشموع، ويحرقون البخور وأصواتهم تتعالى موجة تلو موجة إلى السماء:
“يا رب غيثك!”
وفي المساء انصرفوا إلى بيوتهم وهم يرددون ما كانوا به في معابدهم يهتفون:
“يا رب غيثك!”
وكانت العجيبة. ففي الليل تلبدت السماء بالغيوم. ثم لم يلبث أن لعلع البرق وقصف الرعد، وانفتحت قِرَب السماء. وما هي إلا ساعة حتى غصت السهول بالخير، وهدرت الشلالات من الجبال، وتحولت الطرق والشوارع في المدن والقرى إلى سواقٍ وأنهار، فقام الناس مطمئنين، آمنين، وبجود ربهم ورحمته لاهجين.


وعندما أفاق الناس في الصباح هالهم أن يروا الأمطار زاد تهاطلها، وأنها أخذت تجرف الزرع والتراب في حقولهم وكرومهم، وتهدد مساكنهم. فالأنهار تطغى على ضفافها، ومياهها المثقلة بالهشيم والأوحال تهدر هديراً يصم الآذان. لقد تحولت الأمطار إلى سيول. بل إلى ما يشبه الطوفان. حتى إن بعض المشككين راحوا فيما بينهم يتهامسون:
” أيكون أن البركة التي من أجلها صلينا، وببشائرها تهللنا، ستقلب لعنة؟ أيكون أننا لم نحسن الصلاة؟”
وأقبل الليل، والناس وجوههم في تجهم، وقلوبهم في وجوم. وفيما هم يتندرون بما كان ويتكهنون بما سيكون إذا بالأرض من تحتهم تميد، وإذا بجدران مساكنهم وسقوفها ترتج وتتشقق وتسمع لها قضقضة منكرة. ثم لا يلبث بعضها أن ينهار طامراً من تحته وما تحته.
وتتكرر الهزات. فيطفر الباقون على قيد الحياة من بيوتهم إلى العراء، لا يبالون بالمطر المدرار، ولا بأبدانهم وما تسترت به – أو لم تتستر – من ثياب، ولا بما خلفوه من بيوتهم من زاد وأثاث ومال. فالمهم أن ينجو بأرواحهم وأرواح أحبائهم.
مضت سنوات وأصبح السيل والزلزال حكايات يقصها الجدود على الأحفاد. ومما يرويه الناس عن ولد سمع القصة لأول مرة أنه التفت إلى جده وقال بمنتهى الرصانة والبساطة:
“يبدو يا جدي أنكم صليتم فوق اللزوم”.
| ميخائيل نعيمة | صلوات | من كتاب هوامش |
Filed under: من كتاب Tagged: ميخائيل نعيمة
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 07, 2014 16:15
No comments have been added yet.