“أم تصلي”

طفلها كالشلو على ذراعيها. والحمى التي تشويه تشويها. عيناه مغمضتان، وشفتاه منفتحتان نصف انفتاحة، ورأسه الملقي على زندها يتحرك طوعاً لحركاتها إذ هي تذرع الغرفة ذهاباً وإياباً وتهز ذراعيها كما لو كانتا سريراً.
الطفل يتنفس تنفساً سريعاً، متقطعاً، وبمنتهى الصعوبة. فتتنفس هي كذلك، عن غير وعي منها، مثلما يتنفس. إنه السادس يأتيها بعد أربعة بنين وابنة. ويأتيها منذ ثلاثة شهور لا أكثر. لقد نسيت الخمسة وانحصر كل همها في هذا الذي على ذراعيها. وعلى الأخص من بعد أن قال لها الطبيب إن الأمل بحياته ضئيل جداَ “إلا إذا شاء الله أن يفعل عجيبة”
. وتمسكت الأم الملهوفة بكلمة الطبيب وراحت تطلب من ربها عجيبة وتخاطبه بحرارة أين منها الحرارة التي كانت تشوي طفلها وتشويها:


“ربي وإلهي. ربي وإلهي! خذ روحي فداء عن روحه. أطفئ النور في عيني وليبق النور في عينيه. أخمد النفس في صدري ولا تخمده في صدره. انزع الدم من عروقي ولا تنزعه من عروقه.
عيناي، يا إلهي، قد أبصرتا الكثير من عجائب خلقك. أما عيناه – والهف قلبي على عينيه! – فلا تميزان بعد الأبيض من الأسود، والأخضر من الأحمر. ولا هما ضحكتا للربيع والصيف، وتغلغلتا في أسارير الخريف الشتاء، وانخطفتا ببريق سمائك في الليل والنهار. أفلا أشفقت عليهما وتركت لهما النور الذي أضأته فيهما؟
وصدري، يا إلهي، ما أنفك عامراً بالنفس منذ أن باركته بالنفس. ولكم دخل إليه وخرج منه من أنفاس مخلوقاتك المنثورة في أرضك وسمائك. أما صدره – واحرقة عيني على صدره! – فقفص صغير، أودعته عصفوراً عجيباً يرتل أروع التراتيل. ولكن بصوت يسمعه القلب ولا تسمعه الأذن. ذلك العصفور العجيب هو روحك – روح الحياة. وها أنت توشك أن تسترد العصفور ولما يرتل بعد من ترتيلته البديعة حتى الحمدلة، وأن تترك قفص القفص الصغير، الجميل، فارغاً، مهجوراً ولا نفع منه إلا لدود البلى. حرام. حرام. حرام!
وهذه القطرات الحمر التي ملأت بها عروقي، يا إلهي، ما أكثر ما حملته إلي من ثمرات بستانك في الأرض، وبستانك في السماء. ثمرات سكرتُ ببعضها، وببعضها غصصت. أما القطرات الحمر التي ملأت بها عروقه فها هي تجف الآن في عروقه لتجف من بعدها عروقه.
ربي. ربي. ربي! أكاد لا أصدق أنك تعطي بيمنك لتسترد بيسارك. أكاد لا أصدق أنك كونت هذا الطفل في أحشائي لتقدمه محرقة. ولمن؟ أو لتحرق به أحشائي. ولماذا؟
إن أكن أنا قد فعلت ما يقضي علي بالنار، فماذا فعل هو؟ ماذا فعل ليحترق احتراق الحطبة في التنور؟
أطفئ يا إلهي هذه النار التي تحرقه الآن على ذراعي. وأحرق ذراعي. أحرقني أنا.
بل ارحم يدي فهما يدا أم.
وارحم عيني فهما عينا أم.
وارحم قلبي فهو قلب أم.
ارحمني يا ربي، ارحمني.
اصنع عجيبة فأنت أقدر القادرين وأرحم الراحمين!”
والتفتت الآم إلى طفلها فإذا عيناه تتفتحان، وإذا السواد فيهما يختفي تحت الجفن الأعلى، وينحسر الأسفل عن بعض البياض. ثم إذا بفكه الأسفل ينفصل عن الأعلى، والجسد الصغير كله يختلج خلجة واحدة. ثم يستريح إلى الأبد.
| ميخائيل نعيمة | صلوات | من كتاب هوامش |
Filed under: من كتاب Tagged: ميخائيل نعيمة
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 24, 2014 20:41
No comments have been added yet.