العودة لدور المثقف
بدأت تعود لمعارض الكتب ودور النشر حيويتها في التنوع الثقافي بعد أن ابتلع الهم السياسي اليومي كل الأنشطة الذهنية، وسيطرت تفاصيله على كل الحوارات منذ بدايات الربيع العربي، ومع أنها ما زالت حاضرة لكن بقدر أكبر من العقلانية والواقعية، بعد أن كشفت الأحداث عيوبا عميقة في الأداء الثقافي والفكري العربي
بدأت تعود لمعارض الكتب ودور النشر حيويتها في التنوع الثقافي بعد أن ابتلع الهم السياسي اليومي كل الأنشطة الذهنية، وسيطرت تفاصيله على كل الحوارات منذ بدايات الربيع العربي، ومع أنها ما زالت حاضرة لكن بقدر أكبر من العقلانية والواقعية، بعد أن كشفت الأحداث عيوبا عميقة في الأداء الثقافي والفكري العربي.
ما زالت الأجواء العربية في طور التشكل ولم تهدأ بعد، لكن مرور الزمن يخفف عادة من أي صدمة مهما كان حجمها، ولهذا بدأت حالة من التكيف مع الفوضى والغموض الطويل، وأخذ الوعي العام يتخلص من قوة الصدمة ويستعيد وعيه شيئا فشيئا.
مع تزايد تأثير الإعلام الجديد الذي أحدث انقلابا في معادلات التأثير، وكثفت كل وسائل الإعلام من صحافة وفضائيات ومواقع انترنتية في تايم لاين واحد يصممه الفرد بالطريقة التي يريدها، تواصل الحديث عن نهاية المثقف.
ومنذ أكثر من عقد ونصف أخذت هذه الفكرة تكرر بتعبيرات مختلفة تتحدث عن سقوط النخب، وعشق لبريق هذه التعبيرات الرنانة.
وهي تعميمات غير دقيقة، وتفهم بصورة خاطئة، فتأثير الإعلام الجديد الأكبر هو على النخب الرسمية أو النخب التي ظهرت بواسطة تشكلات المؤسسات القديمة في إدارة المجتمع العربي.
وخلط الكثيرون بين ظاهرة الاتساع الأفقي للنخب وتأثيره على طغيان النجم والرمز، وبين الحكم على تأثير المثقف.
وبالقدر الذي تأثر فيه فعلا المثقف المؤسسي، وفقده لمساحات هائلة من التأثير القديم، والانفراد في برمجة المجتمع عندما كان لا يسمع إلا صوته ولا تقرأ إلا سطوره مهما كانت قدراته متواضعة جدا.
اليوم أصبح يواجه عاصفة من التغيير يبحث فيها عن خطابه المفقود.
أما المثقف الذي كان يتعرض للتهميش، وعدم القدرة على وصول رؤيته إلى الجمهور فقد أتاحت له هذه المتغيرات الكثير من الخيارات، وجاذبية شكلية، لأنه غير محسوب على خطابات مؤسسية.
فهذا النوع من المثقفين هو في حالة صعود مع كل تمدد لآليات التواصل الإعلامي، وأخذ مساحات كان المثقف المؤسسي ينفرد بها تاريخيا.
لقد توهم الكثيرون ومع جاذبية تويتر وغيره بأن المثقف صاحب الصنعة الفكرية الثقيلة انتهى تأثيره لصالح المثقف الخفيف والسريع.
والواقع أن المثقف المنتج للأفكار لم ولن ينتهي دوره، فهو تاريخيا لم يكن موجودا في هذه المساحات اللحظية التي خطفها الإعلام الجديد من الإعلام التقليدي، وإنما كان تأثيره في مدى زمني أطول، ولهذا أشرت في برنامج «واجهة الصحافة» على قناة العربية مع بدايات الربيع العربي 2011م إلى أن تأثير المثقف والمحلل سيظل موجودا لكن في المرحلة التالية.
ولم أتفق مع ذلك الحماس في تهميش دوره بسبب هذا الخلط بين المراحل، فالمثقف النشط في مواقع التواصل دوره المؤثر هو لحظي كمشارك في الصراعات والجدل اليومي، مقابل الإعلامي والصحفي المؤسسي.
كل ما قيل عن دور المثقف تاريخيا مرورا بالأزمنة الحديثة بحاجة إلى إعادة تقييم والتفكير بالمساحات الجديدة التي أتيحت له، وكيف نقيس مدى تأثيره، وإلى اين ينتهي.
في الماضي كان يمكن تتبع تطور الأفكار وانتقالها من جيل إلى آخر، لأنها كانت تنتقل ببطء مع الزمن.
إن مجرد التفكير في الفارق بين كلفة وزمن الحصول على المعلومة والأفكار ليس قبل قرون، وإنما قبل سنوات معدودة، مثير للتأمل، ولهذا عليك أن تتصور درجة تأثير المثقف في هذه المرحلة..هذا التأثير يأخذ مستويات عديدة..فهناك المثقف الصانع للأفكار العميقة والخطرة، وهم أقلية عادة، وهناك المثقف الداعية المسوق للأفكار وقد وفرت له منصات الإعلام الجديد ميادين تواصل غير محدودة.
تأثير المثقف يبدأ من اللحظة التي ينتج فيها نصا، ويخلق فيها فكرة، ويرتب فيها رؤية للواقع والتاريخ، لذا تبدو مهمة اختيار المثقف المزيف خاسرة وغير مفيدة للأنظمة التي تعتمد على الولاءات أكثر من القدرات، لأن المثقف المؤسسي يواجه منافسة شرسة جدا، فقدراتهم المتواضعة أدت إلى خسائر هائلة في ساحات الصراع على تكوين الرأي العام منذ أكثر من عقد.
ليس المؤثر الشهرة الحقيقية أو المصطنعة وإنما عوامل أخرى، فالفكرة المؤثرة تعرف طريقها إلى الجمهور وقد تكون بدايتها من شخصيات لا يعرفها إلا فئات محدودة.
المثقف يشتغل في مجال خطر هو الوعي الذي لا تكشفه مخابرات الدول ولا تشعر به الأنظمة إلا بعد أن يتحول إلى فعل مدمر أو معمر في الدول والمجتمعات.
عبد العزيز الخضر's Blog
- عبد العزيز الخضر's profile
- 44 followers
