مترقصنيش.. ما خلاص!
لا يحمل عنوان المقال من أغنية أم كلثوم الخالدة “للصبر حدود” سوى شيء من إيحاء كلماتها التي تقول: “ما تصبرنيش ما خلاص..أنا فاض بيّا ومليت”. أما واقع العنوان فلا يمت للطرب بصلة.
يحمل الرقص إيحاء الفرح والبهجة عادة. في بعض الحالات وخصوصا في مجتمعاتنا المتدينة يكون للرقص دلالة عهر. وفيما أن الرقص إحدى أقدم لغات التعبير عن المشاعر التي عرفها الإنسان، ومع أن الرقص يحمل دلالات أهم من إغراء الجسد في فلسفته وأهدافه، وحتى بعد أن صار الرقص مادة تدرّس في أرقى الجامعات، إلا أن الغريزة وما يحركها لم تدع للرقص مجالاً إلا أن يشعل الرغبة عند نفرٍ من المهووسين بالجسد، حينما يبرز التحرك الإيقاعي والتمايل الجسدي الأخاذ للأنثى كل آيات الإبداع المحاط بالجمال التي خلق بها الله كل شيء.
لست أدعو الشعوب العربية للرقص بديلاً لمعظم الأشياء الفاضحة التي يمارسونها وتحرك غرائزهم أكثر، مع أنني أرى أن الرقص أجمل -وأحيانا أرقى- من أن يوضع في مقارنة معها. ما أريد قوله أن الرقص أخذ بعداً جديداً في بعض الدول العربية، يشبه ما ألمح إليه الشاعر قديما لما قال: “الطير يرقص مذبوحاً من الألم”، لكنه يختلف في أن الشعوب باتت اليوم ترقص مذبوحة من الذل، مرغمة على إبراز أنها في بهجة تعانق السماء في حين أنها في حقيقة الأمر تتجرع الاستبداد بكل خوف، أو في أحيان أخرى فإنها ترقص للإغاظة وكرد فعل انتقامي على كل ما هو محافظ ومتدين في قيمنا. من المذهل أن تزمت المتدينين أو مدعي التدين أو المتأسلمين -سمهم ما شئت- يمكن أن يدفع البعض للمبالغة إلى حد “الهسترة” في الرقص -وأحيانا في الكفر بالدين ككل- رداً عليهم. وجدير بالذكر أن الرقص الذي يراه كثيرون “فاحشة وإثما” لم يرد في حرمته صراحةً نص واحد لا في القرآن ولا السنة، في حين أن الله ورسوله أغلظا في كل مسببات الرقص الجديد.
يتقبل عقلي وقلبي حقيقة أن الحياة ليست وردية، وأن المصائب والقهر فيهما اختبار ووعد بالفرج أو بإبراز أجمل ما في ذوات البشر وأقبحه. ما لا أتقبله أن نسمي الأشياء بغير أسمائها، وأن نستحسن ما هو شديد البشاعة كالذل أو النفاق مثلا. أن نقبل الذل شيء وأن نعبده شيء آخر أسوأ بكثير. الرقص من الذل أبشع من أن يسكت عنه، ولذا أدعو من دفع الناس إلى الرقص في الشوارع قبل أيام، وأي أحد يرى في ذلك ما يحمد عقباه ألا يرقّصني. قد أرقص أو لا أرقص فرحاً، لكن أن أُذبح رقصاً وأنا لا أملك قرار نفسي فهذه الطامة التي تشبه نكتة “هنقا هنقا حتى الموت”. النكتة تحكي قصة رجلين اختُطفا في وسط أدغال إفريقيا وجُلبا لزعيم القبيلة فخيّر الأول بين “هنقا هنقا” والموت فاختار الأولى، فاغتصبه رتل من رجال القبيلة، ثم خيّر الثاني فقال: طبعاً الموت، فقال زعيم القبيلة: إذا فلتكن “هنقا هنقا” حتى الموت! وهكذا حال كثير من العرب هذه الأيام يفرحون بأصعب الاختيارات لأنها تشتري الوقت ولا تتجه للموت مباشرة وإن أدت إليه في نهاية الأمر فإن اختاروا الموت كان ذلك أبطأ موت يمكن الحصول عليه. الخلاصة أن شراء الوقت دون تغيّر شيء ثمنٌ قليل جداً في نظري مقارنة بما يتعرض له الراقصون من امتهان. وحتى نغيّر يجب أن نتغير أولاً.
مقال منشور في “قراءات خليجية”: http://gulfread.com/archives/166
تدوينة جديدة: مترقصنيش.. ما خلاص! ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.


