عيد ميلاد أم ذكرى؟

25/1/2012

منذ عام واحد كنت أسير في الشارع عائداً من السوبر ماركت لأجد مظاهرة صغيرة في الشارع. زاد على صغرها أن نصفها كان إما متفرجاً يسير معهم ليرى ما سيحدث، أو أشخاصاً يسيرون في نفس الطريق فانضموا للهتاف حتى يأتي مكان توقفهم أو مفترق طريقهم عن طريق المظاهرة. حتى أنني رأيت شاباً وخطيبته سائرين على طرف المظاهرة يبتسمان وكأنهما في المولد يشاهدان الأعاجيب. ذهبت يومها لزوجتي عند أهلها لأصطحبها دون أن أعنى بذكر تلك المسيرة التي كنت أعلم أنها آتية من أمام قسم سيدي جابر وذاهبة لنقطة الابراهيمية في المظاهرة المعلن عنها للتنديد بطغيان الشرطة في يوم عيدها. وعند نزولنا وجدنا حركة غير طبيعية في الشارع. حذرتنا امرأة من الذهاب لشارع لاجيتيه لأن الشرطة تحاصره وتطلق قنابل الدخان. طمأنتها زوجتي بأن هذا ليس طريقنا فقالت السيدة:
- على العموم حاول ركوب تاكسي. المتظاهرون يهربون ويختبئون في مداخل البيوت ولا أحد يضمن ما سيحدث في أي مكان.
كانت السيدة على حق فإن صادفنا متظاهراً يجري وعسكري خلفه سنؤخذ معه أو سيصيبنا ما يصيبه من رصاص أو قنبلة دخان. لكننا رغم ذلك قررنا السير دافعين عربة ابنتي التي كانت ستتم عامها الأول بعد أيام قليلة. لا أذكر لماذا قررنا المسير. ولحسن حظنا لم يصادفنا شخص يهرب ولا شخص يبحث عن ضحية. كان هناك شيء يتردد على عقلي ساعتها. أحد من كانوا في المسيرة، كان رجلاً أربعينياً ذا صوت مبحوح. كان لا يهتف وإنما انشغل بالصراخ على السائرين في الشارع - وأنا منهم- بأن ينضموا للمظاهرة وكان يقول:
- احنا هنا علشانكم.
كنت أتساءل عن مصير هذا الرجل في ظل ما قالته السيدة من مطاردات واعتقالات. وماذا يفعل من كانوا معي في الشارع ويدعوهم الرجل للمظاهرة التي يسير فيها من أجلهم. أغلب الظن أن كلهم مثلي، إما في بيوتهم أمام التلفاز وتحت الأغطية أو في الطريق إلى ذلك. كلنا جلسنا أمام التلفاز لنعرف أخبار المظاهرات وفي أيدينا أكواب الشاي والنسكافيه والكاكاو في سهرة سعيدة دافئة. والرجل الذي كان يدعونا والذي كان هناك "من أجلنا"، لو نجا من المبيت على بلاط زنزانة في أمن الدولة، أو على الأرض في طرقة مستشفى ينتظر من يعالجه من إصابة. لو كان محظوظاً مثل من قام بالمظاهرة لأجلهم وعاد لبيته، فلابد وأنه مرعوب من أن يداهموا بيته في أي لحظة، أو يتصل بأصدقاء الكفاح يطمئن عليهم ويسأل عمن سقطوا، أو يستعد لمعركة يوم جديد في عمله أو مظاهرة جديدة. ثم صرت أتخيل المتظاهرين مختبئين في ظلام المداخل يرتعدون من الخوف وصقيع يناير. وأردد إحدى القصائد وكلي تجاهل لسؤال: لماذا لست معهم.
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب. ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً.. يجيئون من كل صوب. والمغنون - في الكعكة الحجرية – ينقبضون وينفرجون. كنبضة قلب! يشعلون الحناجر، يستدفئون من البرد والظلمة القارسة. يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب. يشبكون أياديهم الغضة البائسة. لتصير سياجاً يصد الرصاص!( ).
وهكذا بينما أتخيلهم يعانون الخوف والتعب والجوع والبرد. أردد قصيدة تنتمي للماضي وكأن هذا هو آخر ما أستطيع. بل كان هناك رغم كل ذلك سؤال يتردد في عقلي وأنا أتخيلهم في نكبتهم: فيم كل هذا؟
الآن بعد عام واحد فقط. أنزل أنا وزوجتي وابنتي في عيد الشرطة الذي صار عيد الثورة لنسير في مظاهرة! كيف ومتى حدث هذا الانقلاب. وهل من خرجوا منذ عام واحد ليتظاهروا "من أجلي" موجودون في هذا اليوم ليحتفلوا معنا؟ أم كانوا من الشهداء في جمعة الغضب أو يوم الجمل. ما أشد بجاحتي أنا وكل من يسير متظاهراً ضد العسكر في احتفال بيوم شهده في السرير. بينما ملوك الاحتفال الحقيقيون قتلوا أو سجنوا أو يلعنون الآن كمخربين للثورة. ألا تصدقني؟ لو كنت رأيت ما رأيته اليوم. أمام مسجد القائد ابراهيم كان من ركبوا الثورة من الجماعات قد أقاموا احتفالاتهم الخاصة وقد أمنوها بكردونات بشرية تفحص هوية الداخلين وكأنها حفلة في ناد خاص. كانوا يحتفلون بالثورة من مبدأ أنها حققت أهدافها والقادم أفضل. فقد سادوا البرلمان وقريباً يتفقون مع العسكر على الرئيس القادم. يتهمون من يتظاهر ضد العسكر الآن بأنه عدو الثورة والاستقرار. هان إحساسي بالخزي عندما رأيت هذا الاحتفال وقررت ألا أدخله وأن أبحث عن الثوار. على الأقل اليوم أنا معهم ولا أحد خرج من أجلي.
لكن لا يحلو لي وصف هذا اليوم دون وصف لمصر نفسها فيه. مصر التي ليست "حلوة ولابسة جديد" كما تقول الأغنية التي ظهرت منذ عام عن شهداء الثورة. مصر أبعد ما تكون عما يتشدقون به من شمس الحرية والأعراس الديموقراطية والمناخ الصحي وحرية التعبير. مصر صارت كشخص لم يستحم منذ عام. تخيل شخصاً لم تمتد إليه يد العناية ولا النظافة منذ عام. تخيل شكله ورائحته وسلوكه وأمراضه. هكذا صارت مصر. فرغم القذارة العامة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة. فإنها على الأقل كانت تجد بين كل حين وآخر يد العناية تمتد للشوارع الرئيسية. كان بعض الناس خوفاً من الشرطة لا تخالف ولا تركن في الشوارع صف ثان ولا أول في بعض الأحيان. أما الآن فنحن في دولة بلا قانون ولا شرطة ولا ضمير. دولة لم تمتد إليها يد العناية وزاد عليها أن أفسدها شعبها. بلد كانت مليئة بالأورام والدمامل فإذا بها وقد انفجرت وسال القيح والصديد. أسير في شوارعها فلا أرى إلا القمامة وقد صارت تلالاً حتى في أرقى الأحياء التي طالما تباهى ساكنوها بالنظافة والحياة الصحية. أرى المخالفات التي كانت ترتكب في السر وبسرعة ومشيعة باللعنات، وقد صارت تمارس بمنتهى الشجاعة والإقدام بل وبالصوت العالي أيضاً. ترى الأرصفة وقد اختفت تحت المخالفات وبضاعة الباعة الجائلين، والعمارات التي بنيت في أشهر قليلة بارتفاعات خرافية كشاهد على القبح الذي صرنا فيه. لن تستطيع أن تأمن السير وحدك في شارع مظلم. وحتى في عز النهار والزحام لن تأمن سرقة أو اختطافاً. ستتأكد أن مصر لم يكن بها ضمير. لم يكن بها إلا الخوف من العقاب. وعندما انتهى الجلاد ظهر المرض الحقيقي. ملايين من المتعلمين والجهلة. من اللصوص وأشباههم وحتى الشرفاء. من المتدينين والمتشددين والوسطيين ومن لم يركعوا ركعة والتقدميين والمتغربين. أطفال ومراهقون وشباب ورجال وسيدات وعجائز. ملايين من البشر بمختلف انتماءاتهم ومدنهم وقراهم. الذين ما التزموا إلا خوفاً. وعندما أسقطت الثورة ذلك الخوف ظهرت أمراضهم. اجلس على الفيس بوك الذي كان وسيلة الثورة للتواصل. على الإنترنت الذي كان يوماً مقياساً لتقدم الأمم. ستجد كل شخص وقد اعتلى منبراً عبارة عن لوحة مفاتيح، وقد شحذ أصابعه ليقول رأياً أو يسب رأياً. ينصر إلهاً جديداً ويخوض في لحم مصري آخر وعرض مصرية أخرى. صار مستخدمو الإنترنت في مصر أشبه بشوارعها. صناديق قمامة يحوم حولها الذباب. ضوضاء تهيج الأعصاب. روائح نتنة. ويا ويله من قيل عنه أو عن أسرته إشاعة. تصبح الإشاعة خبراً ويصبح الخبر اتهاماً ويصبح الاتهام حكماً قابل النفاذ. أمام كل جملة أو خبر في أي جريدة تجد مئات التعليقات في كل الاتجاهات. يسبون كاتب الخبر أو من عنه الخبر أو خصوم من عنه الخبر أو يسبون بعضهم.
ووسط كل هذا. مازال هناك من يحلم. مازال هناك من يخرج كل جمعة في أي طقس وتحت أي ظرف ليسير في مظاهرة أملاً في الخلاص برئيس يأتي بحل لتلك الخرابة التي كانت دولة. أسير معهم وأنا أهتف بكل ما أوتيت. ضد العسكر والجماعات والشعب ذاته. أهتف ضد من سرقوا الماضي ويسرقون الحاضر والمستقبل. ضد الكتلة الصامتة والكتلة المخالفة والكتلة الخائضة في الأعراض والكتلة التي تريد عودة الماضي. أهتف ضد الجبناء. ضد الخونة والعملاء ومن يحبون شيئاً أو شخصاً أو مذهباً أو جماعةً أكثر من وطنهم. ضد المثقفين الغرباء عنا. ضد الشيوخ المتسلطين علينا. ضد العسكر والشرطة والساسة والفقهاء الدستوريين والقانونيين والمحللين والمذيعين والأطباء النفسيين والفنانين والكتّاب. ضد من لا يقرأ تاريخه ومن قرأه. ضد من يرفض ومن يقبل ومن لا يدري إلى من ينحاز. ضد الجميع حتى أنا. لم ينج من غضبي إلا الشهداء وابنتي ومن هم مثلها وفي سنها. ليتنا لا نفعل شيئاً إلا تعليمهم فقط أن يقتدوا بالشهداء، ويحبوا الوطن بلا شرط، ويروا الحق بلا ريب والباطل بلا رتوش. لو فعلنا هذا فقط لعاشت الثورة إلى الأبد. سفر الغرباء by محمد ذهني
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 10, 2014 21:42
No comments have been added yet.