سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11). الإسلام وأدب الرعب.

        سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية (11).
 الإسلام وأدب الرعب:
إلياس بلكا
 رأينا في المقترح الأخير (ضمن السلسلة) عن البشرية الخائفة كيف أن مستويات الخوف في العالم اليوم جد مرتفعة، وكيف أنها على نوعين: مخاوف حقيقية وأخرى مصطنعة من طرف تجار الخوف.
واليوم نتحدث عن ظاهرة الإخافة، وليس الخوف، وهي التي تتعمد  "إثارة الرعب"، خاصة  من خلال الأدب والسينما... فصور الرعب تتجسد عبر مظاهر أربعة: خارقة، كالأشباح. أو طبيعية، كالكوارث والحيوانات الخطيرة. وبشرية، كالسحر والتحكم الجيني. ومادية، كالأشياء الجامدة حين تصبح متحركة... وهذه الصور تتمحور حول خمس قضايا رئيسة: الحيوانية، والشر، والآخر، والخروج عن الطبيعة، والقرين أو الصنو Double.. أي إن هذه الصور تمس بهوية الإنسان وشخصيته المستقلة.. ولعل هذا ما يعطي لهذا الأدب فعالية حقيقية أحيانا في إثارة الرعب.
ويعتمد الحكي من أجل إثارة الهلع على ترك المتلقي في حالة من الغموض وقلق الترقب، وذلك بالاعتماد على أساليب سردية تجمع بين الواقعي والمتخيل والممكن. ولذا نجد الروائي الأمريكي المعاصر ستيفن كينغ، وهو بارع في القصص المثير، يعتبر أن الأساس في هذا النوع من الحكي هو الإيحاء، لأنه يدفع بالقارئ إلى تخيل الفظاعة التي يخفيها عنه الكاتب.
لكن ما هو هدف قصص الرعب: هل هو التخويف أم التحكم في الخوف والسيطرة عليه؟ في هذا الإشكال رأيان: الأول يعتبر أن الغاية الأهم لهذا الأدب هي إثارة الرعب، إذن فهي مضرة. والثاني يرى أن لهذا الأدب وظيفة تنفيس المتلقي وتخليصه من مخاوفه عبر دفعه لتمثل الإرهاب المشاهد أو المقروء، كما لهذا الأدب دور أخلاقي في التنبيه على المخاطر التي تهدد الإنسان.
في الحقيقة يظل قائما سؤال وظيفة أدب الرعب، ولماذا يستهوينا ويعجبنا؟ وفي اعتقادي لا يمكن الحكم على هذا الأدب حكما واحدا، بل في الأمر تفصيل. فأدب الخيال العلمي مثلا غالبا ما يستبطن تحذيرا من مخاطر التطور العلمي والتكنولوجي ومن غرور الإنسان، فيؤدي وظيفة أخلاقية جيدة. من ذلك: رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي، وبعض أعمال ويلز وستابلدون وكينغ. لكن بعض الأدب الآخر لا هدف له في الظاهر غير إرهاب القارئ أو المتفرج إلى أقصى حد ممكن، بل من الواضح أن بعض الكُتاب يتعمد ذلك ويجد متعة شخصية كبيرة في تصوير مجّاني للبشاعة والفظاعة... تصوير يغدو بمثابة الهدف الرئيس للرواية.
والإسلام يعترف بهذه الطبيعة الإنسانية القابلة للخوف، حتى القرآن الكريم يحكي لنا عن النار وأهوالها لنخاف عذاب ربنا. وفي الأحاديث أن بعض الظواهر الفلكية، كالبروق والرعود والرياح العاصفة.. بالإضافة إلى أدوراها الطبيعية المقرر في علوم الطقس والسماء، هي آيات يُخوّف الله بها عباده، لذا كان النبي عليه السلام إذا رأى شيئا من ذلك امتقع وجهه وتغيّر لونه..
والمطلوب من المؤمن أن يحقق في باطنه شعورين: شعور الرجاء في الله، وشعور الخوف من الله.. حتى اختلف العلماء أيهما أفضل للإنسان، بمعنى أيهما الأجدر أن يغلب عليه: الخوف أم الرجاء، بعد الاتفاق على وجوب تحلي المؤمن بهما معا..
إذن لا يمكن أن تخلو التربية في ضوء هذا من وسيلة الإخافة، لذلك يتحدث التربويون عن المكافأة والعقاب، وإن اختلفوا في نوعية العقاب.. لكنهم يتفقون على أن الطفل لابد أن يحذر من المنع ويطمع في الجزاء..
وواضح أن الدين يستثمر عاطفة الخوف لتحقيق أغراض تربوية نبيلة، وفي حدود معينة.. بحيث لا يجوز أن يصير الرعب هدفا في حد ذاته وغاية تُطلب لوحدها. وهذا معنى نهي النبي الكريم عن إخافة المسلم حتى بالمزاح.. كما جاء في الحديث الصحيح.. ونهيه أيضا عن الإشارة بسلاح إلى مسلم، فهذا لا يجوز، ونرى حوالينا مثلا أن بعض الناس يلعبون بالسكاكين يخوفون بها بعضهم بعضا.. بل توجد صناعة قائمة اليوم تتعلق بأدوات الرعب من أقنعة ورؤوس مقطوعة وأيد مفصولة ودماء تسيل.. هذا كله "لعب"  مكروه بحسب ظاهر الأحاديث، ولعل البحث العلمي النفسي والتربوي يتعمق في الموضوع ويكتشف بعض أسرار هذا النهي النبوي.
إذن يظل هذا السؤال قائما: ما هي وظيفة أدب الرعب بالضبط، ولماذا يتعلق به الجمهور المعاصر، لدرجة أنه يوجد قطاع واسع من الناس المدمنين على مشاهدة أفلام الرعب، خاصة بأمريكا؟ بل إن الغربيين جعلوا للرعب عيدا خاصا، وهو الهالوين..
ولا يحسبن أحد أن الجواب عن هذا الإشكال أمر هيّن، ففي إحدى دراساتي الأكاديمية وصلت إلى سؤال شبيه بهذا، واحترت في الإجابة عنه كما احتار كثير من المختصين في علوم الإنسان: لماذا يُقبل الإنسان المعاصر على الفنون الخفية التي كان الظن عاما بأنها اندثرت مع عصر العلم والحداثة، كالتنجيم والروحية والسحر والتنبؤ بالمستقبل والغنوصية... ونحو ذلك؟
هذا كله يؤكد حقيقة اجتماعية ونفسية مهمة، هي أن الإنسان المعاصر كائن بالغ التعقيد على المستوى الفكري والنفسي والسلوكي.. كما قال ألكسيس كاريل: الإنسان... ذلك المجهول 1. يستوي في ذلك الإنسان القديم الذي كان يعيش في الكهوف، والإنسان المعاصر الذي يدخل السينما ليأخذ جرعة قوية من الرعب.. وهو يأكل ويشرب.. وقد يدخّن أيضا.
هذا كله يصلح أن يكون موضوعا لأبحاث علمية.. في شعب الدراسات الإسلامية والنفسية والتربوية والاجتماعية.. أو أبحاث حرة.
 

 -عنوان الكتاب الشهير للمفكر الفرنسي: L’Homme, cet inconnu
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2013 11:19
No comments have been added yet.


إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.