لغز الزمان

نشرت مجلة المعرفة - شهرية ثقافية تصدر من المملكة السعودية - هذا المقال بالعدد 93، تحت عنوان ما الزمان؟ 

يثير موضوع الزمان إشكالات لا تنتهي، دون حلها خرط القتاد والصعود إلى السماء. فهذا لغز قديم، بل هو من أقدم ألغاز الفكر والفلسفة، ومن أصعبها تناولاً وأعقدها حلاً. ومع ذلك لا شيء أقرب إلى الإنسان من الزمان، فوجوده نفسه ـ وما فيه من أحاسيس وأعمال ـ يقع داخل إطار الزمان. حاول أن تسأل نفسك هذا السؤال وأن تجيب عنه: ما هو الزمان؟
انظر أسفله، أو الرابط: http://www.almarefh.org/news.php?acti...

مجلة المعرفة/ العدد 93 /  ما هو الزمان؟
إلياس بلكا :

يثير موضوع الزمان إشكالات لا تنتهي، دون حلها خرط القتاد والصعود إلى السماء. فهذا لغز قديم، بل هو من أقدم ألغاز الفكر والفلسفة، ومن أصعبها تناولاً وأعقدها حلاً. ومع ذلك لا شيء أقرب إلى الإنسان من الزمان، فوجوده نفسه ـ وما فيه من أحاسيس وأعمال ـ يقع داخل إطار الزمان. حاول أن تسأل نفسك هذا السؤال وأن تجيب عنه: ما هو الزمان؟

وقد فرض موضوع الزمان نفسه على العلم المعاصر، خصوصًا بعد ظهور الفيزياء النسبية، فهو اليوم من ألغازه الكبرى التي لم يستطع فك طلاسمها وأسرارها(1).إن الزمان بحر لا ترى له ساحلاً ولا تميز فيه وسطًا من طرف. لقد جعل بعضهم من المستقبل محور الزمن ونقطة ارتكازه، لكن كيف نعتمد على شيء لم يوجد بعد ولا يعرفه أحد. وكذلك الماضي فهو لا يوجد الآن، حيث انقضى وصار في العدم، وقال آخرون فليكن المرجع هو الحاضر، ولكن ما هو الحاضر؟ أليس مجرد معبر عابر بين الماضي والمستقبل، فهو ينفلت منا باستمرار، فليس له امتداد وثبات؟ إن هذا الحاضر قبل أن نفكر فيه يكون ـ في الواقع ـ مستقبلاً، ثم بمجرد أن ننتبه إليه يكون قد صار من الماضي موضوعًا للتأمل والفكر. يقول «وايتهيد»: إن ما نسميه الحاضر هو الجزء الحي من الذاكرة والذي له طابع التوقع(2).ومنذ القدم اختلف الفلاسفة في موضوع الزمان على رأيين:الأول يرى أنه لا وجود للزمان خارج الروح، فهو إحساس ذاتي لا علاقة له بالكون، ولذلك لا نستطيع أن نتمثل الزمان خارج أنفسنا(3). ومن أشهر القائلين بهذا الرأي القديس «أغسطين»(4).والثاني يرى أن الزمان حقيقة واقعية، لها وجودها المستقل، ومن ثم فإن الزمن واحد لا يختلف مهما اختلفت العوالم والحركات والأشخاص. ومن أبرز العلماء الذين ثبتوا هذه الفكرة: نيوتن، وكان يرى أن في الزمان بعدًا أو شيئًا إلهيًا(5).ومهما اعتبرنا الزمان إحساسًا ذاتيًا أو شيئًا واقعيًا، فإن مشكلة أخرى تظهر، وهي: كيف نفسر الزمان؟اعتبر أرسطو أن الزمن هو مقدار الحركة والتحول(6). وهذا التصور هيمن طويلاً على كثير من الاتجاهات الفلسفية، لكنه يثير إشكالات كثيرة بيّن ابن رشد بعضها: فنحن مثلاً نشعر بالزمان حتى حين نكون في الظلمة لا نتحرك. ولو كان الزمان هو حركة الأفلاك السماوية ما أحس به الإنسان الأعمى، أو كان نتيجة حركة معينة أخرى لم يكن للذي لا يراها أي إحساس بالزمان. ثم لو كان الزمن ثمرة أي حركة، غير حركة الأفلاك، لتعددت أنواع الزمان بتعدد أنواع الحركات(7).لكن روح هذا التصور الأرسطي انتقلت إلى بعض العلماء، خصوصًا حين ظهرت النسبية، فالحركة تحدث في مكان، أي في فضاء، وهذه الفيزياء أرست علاقة وطيدة بين الزمان والفضاء.الزمان في الفيزياء النسبية:الزمان هنا لا يوجد مستقلاً ومطلقًا، بل يرتبط بفضاء ما. فإذا تصورنا فضاءين مختلفين كان عندنا زمانان مختلفان. ولما كان الفضاء الأقليدي له أبعاد ثلاثة: الطول والعرض والعمق (إحداثياته x,y,z)؛ فإن الزمان المرتبط به هو بعد رابع (t). والعامل الذي يعادل بين الفضاء والزمن هو العنصر: C.وتوجد مجموعة من المعادلات تربط بين هذه العوامل كلها، منها: x4=ct ومنها: DS2= Dx2+ Dy2+Dz2-c2Dt2والعامل C هو السرعة القصوى، أي سرعة الضوء.ومن نتائج هذا النظر أن الزمن «تحول» إلى الفضاء، بل الفضاء نفسه يمكن أن «يتحول» ـ نسبيًا ـ إلى الزمان. كما أن الزمن يتمطط ويتمدد بالحركة(8).ولهذا اعتبر بعض المفكرين أن هذه الفيزياء تنفي الزمان، مثلها مثل فيزياء نيوتن. فهذا جعل الزمان من المطلق، فهو الحاضر الدائم، والنسبية ربطته بالفضاء ربطًا فيزيائيًا «ماديًا»(9).وأضرب للقارئ هذه الأمثلة لتقريب صورة الزمان في النسبية: لنفرض وجود ساعتين، واحدة ثابتة، والأخرى تجري بسرعة معينة، بعد مدة سنجد أنهما تختلفان في تسجيل مقدار ما مضى من الوقت(10). ولذلك يمكن لملاحظين اثنين ـ في فضاءين بإحداثيات مختلفة ـ أن تختلف نظرتهما لحدثين، فيراهما الأول متزامنين، بينما يراهما الثاني متعاقبين. والحدث يمكن أن يكون قديمًا جدًا للملاحظ «أ»، ويكون وقع منذ قليل بالنسبة للملاحظ «ب»، بينما «ج» لا يعرفه بعد، فهو يقع في مستقبله. ولهذا كانت الأزمنة الثلاثة نسبية، وأنت حين تبصر نجمة في السماء فإنك لا تراها حقيقة، بل ترى صورتها فقط، وهي التي أرسلتها أشعة النجم منذ ملايين السنين، ووصلتك الآن. أما النجمة ـ حين إبصارك إياها ـ تكون قد انتقلت إلى مكان آخر(11).مثال المسافر:لنتصور مثلاً أخوين توأمين صغيرين يعيشان في مكان واحد، ثم إن أحدهما سافر في مركبة فضائية بسرعة تقرب من سرعة الضوء، بينما اختار الثاني البقاء في الأرض، بعد مدة إذا عاد الأول سيجد أن أخاه قد صار شيخًا، بينما هو لا يزال شابًا كأن سنة واحدة فقط من عمره هي التي مرت. ولو فرضنا كان للأول أبناء يمكن حين العودة أن يكونوا أكبر منه سنًا.هذا مثال يشرح مفهوم الزمن النسبي، وهو من الناحية الفيزيائية لا شك في إمكانه، وأكدته أيضًا تجارب اصطحاب الساعات النووية في الطائرات السريعة(12).ما هو ـ إذًا ـ هذا البعد الرابع؟رغم ما قدمته النسبية لفهم موضوع الزمان، يظل السؤال مستمرًا: ما هو الزمان؟ وحين نقول إنه البعد الرابع مع الأبعاد الثلاثة للفضاء، فإننا نكون كمن يفسر الزمان بالفضاء بالزمان. ثم إنه ـ كما قال «أوسبونسكي» ـ يستحيل علينا أن نتخيل في فضائنا نحن جسمًا له أكثر من ثلاثة أبعاد، كما يستحيل أن نتصور قوانينه الخاصة به(13).برجسون ينقد النسبية:المشكلة في النسبية أنها قررت التعادل الفيزيائي بين الفضاء والزمان، ولكنها لم تفسر الفروق بينهما، وهي فروق واضحة في التجربة وعلى مستوى إحساسنا. كما أنها لا تفسر لماذا لا يرجع الزمان إلى الوراء بخلاف المكان(14).ولهذا كان لبرجسون مثلاً رأي آخر في الزمان: إن الزمان الفيزيائي الذي نحسبه بالوحدات يشوه الزمان الحقيقي الحي، هذا الذي نشعر به في قرارة أنفسنا ونميز فيه بين الأزمنة الثلاثة، على حين كان الزمان الأول مجرد نوع من الحاضر الدائم. والزمان الطبيعي ـ وأساسه المدة dureصe لا اللحظة instant ـ غني بالاحتمالات وواعد بالإبداع والحياة... ولكن العقل العلمي والتقني يعجز عن إدراك حقيقة هذا الزمان الحي، لهذا لا يراهن برجسون على العلم لتحقيق هذا الإدراك(15).مشكلة رجعية الزمان:لماذا لا ينعطف الزمان إلى الوراء، ويظل يتقدم أبدًا؟ نحن نعرف هذه الظاهرة حين ندرك أن الماضي لا يعود، فقد تركناه وراءنا، أما المستقبل فهو دائمًا أمامنا.وهنا مرة أخرى يبرز الفرق بين الزمان الفيزيائي والزمان الحي، أو «الواقعي». ذلك أن الزمان في الفيزياء ـ الكلاسيكية والنسبية ـ ينعطف إلى الوراء، وفي معادلاتها يكون الزمن (وهو العامل t) إيجابًا (+t)، وسلبًا (t) (16-).ولهذا رفض أينشتين مبدأ «عدم رجعية الزمان» وأنه يسري في الكون، وتمسك بما تعطيه الميكانيكا النسبية من إمكان رجعية الزمان: وفي حالة ما إذا تصورنا أن سلسلة الزمان دائرية، يمكن للمستقبل أن يلحق بالماضي. ولذا فإن تقسيمنا الزمان إلى ثلاثة مراحل مجرد وهم(17).ورأى آخرون في بعض مبادئ الديناميكا الحرارية الدليل على وجود «سهم الزمان»، أي أنه لا يتحرك إلا في اتجاه واحد. وذلك أن للكون طاقة معينة، وهي لا تتبدد بل تتحول من نوع إلى آخر. لكن هذا التحول يسير وفق اتجاه محدد، فالطاقة الحركية قد تتحول إلى حرارية، والعكس غير ممكن. وكل نسق مغلق ـ بما في ذلك الكون ـ يفقد حرارته ويسير نحو البرودة. فهذه التطورات التي تحدث كلها في اتجاه واحد غير رجعي، تشير ـ عند البعض ـ إلى «سهم الزمان»(18).الزمان في القرآن والسنة:مما يلفت انتباه دارس الوحي الكريم حضور موضوع الزمان فيه عبر نصوص كثيرة. وتتبع هذا وبحثه يشكل دراسة مستقلة وواسعة لا تحتملها هذه المقالة. فمن ذلك أن القرآن يتحدث عن أزمنة مختلفة لا عن زمان واحد: {وإنَّ يّوًمْا عٌندّ رّبٌَكّ كّأّلًفٌ سّنّةُ مٌَمَّا تّعٍدٍَونّ} سورة الحج 47. ويقرر قدرة النوم على تجاوز الزمن، كما في قصة أهل الكهف الذين قالوا بعد 309 سنوات من الرقاد: {لّبٌثًنّا يّوًمْا أّوً بّعًضّ يّوًمُ} [الكهف:19]. ويمكن لجسم الإنسان أن يتحمل عمرًا طويلاً جدًا، كما حدث لنوح عليه السلام الذي عاش قرونًا.ومن الغريب أيضًا أن وحدة القياس في أخبار الوحي عن الآخرة وأحوالها هي الزمن، ففي الجنة تسير مئات الأعوام ولا تحدها. والخلق يوم يحشرون ينتظرون الحساب أربعين سنة. ومن أودية جهنم ما يهوي فيه الشيء سبعين خريفًا ولا يبلغ قعره.. إلخ(19).والخلود أمر غامض، هل يعني توقف الزمان أو «موته»، أم يعني استمراره وسيلانه في حركة لا تتوقف أبدًا. وفي الحديث النبوي أنه يؤتى يوم القيامة بالموت في صورة خروف فيذبح، ويعلن عن بداية خلود أهل الآخرة. بينما تفيد أحاديث أخرى أن أهل الجنة يعرفون يوم الجمعة ويحفلون به(20).وقد روى البخاري ومسلم أن نبيًا غزا، فدعا الله تعالى أن يحبس عليه الشمس حتى يفتح القرية المحاصرة، وكان الوقت عصرًا(21).فهذا الحديث ـ الذي وردت فكرته أيضًا في العهد القديم ـ يحتمل قراءتين: الأولى أن الزمان في المعركة استمر ولم يتوقف، رغم أن الشمس توقفت عن دورانها (أو نقول توقفت الأرض). وهذا معناه أن الزمان شيء ذاتي يوجد بداخلنا. وهذه قراءة القديس أغسطين(22). والقراءة الثانية، هي أن الزمن توقف بتوقف حركة الأفلاك، ولذلك فالمعركة دارت في غير زمان.خاتمة:إن موضوع الزمان يستعصي على الفهم البشري الذي لا يستطيع أن يضع له خاتمة. فهذا الموضوع يتجاوز العقل، أو لنقل فيه أشياء كثيرة تتجاوز العقل. ولكن هذا لا يمنع من البحث فيه باستمرار على أمل فك بعض ألغازه المعلقة، حيث لا يمكن فكها جميعًا. {سٍبًحّانّكّ لا عٌلًمّ لّنّا إلاَّ مّا عّلَّمًتّنّا إنَّكّ أّّنتّ پًعّلٌيمٍ پًحّكٌٌيمٍ}.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 27, 2013 00:54
No comments have been added yet.


إلياس بلكا's Blog

إلياس بلكا
إلياس بلكا isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow إلياس بلكا's blog with rss.