قصة : محلّ التحف والمصباح السحري
محلّ التحف والمصباح السحري
قصة : علياء الداية
أخذ الراكب إلى جواري في الحافلة يلفّ سيجارة. كنت أحسب أنّ لفّ التبغ يدوياً قد انتهى منذ زمن. كان رجلاً مسناً، ولا أدري كيف يقاوم اهتزاز الحافلة لدى سيرها واضطرارها إلى الوقوف في المحطات المتكررة، يأخذ بأطراف أصابعه بعض ورق التبغ الناعم من العلبة، وينقله بحرص إلى وسط ورقة بيضاء رقيقة، سرعان ما لفّها لتصبح لفافة رفيعة.
ثلاث مرات في الأسبوع أركب خط الحافلة هذا إلى الشركة التي أعمل فيها بدوام جزئي مساء. أنزل في أقرب مكان، أعبر ساحة المدينة ثم أمرّ في الشارع الضيّق الذي تطل عليه الأبنية ذات المشربيات الخشبية الحلبية التي يمتاز بها هذا الحيّ.
دقائق قليلة وأكون في مقرّ الشركة. الشارع معتاد بالنسبة إليّ، بل أليف جداً، فقد قضيت طفولتي قريباً منه. كنا نسكن هنا قبل أن يقرر والدي الانتقال إلى حيّ جديد. أنا والأصدقاء في الحارة كنا نقوم بطرق باب أحد البيوت ثم نركض هاربين مترقبين خيبة صاحب البيت بعدم وجود أحد على الباب، ثم نركض ونعاود الكرّة من جديد، وفي النهاية نقهقه ضاحكين، حتى إننا في إحدى المرات اخترنا بيتاً على الزاوية، وربطنا خيطاً بسقّاطة الباب وسحبنا الخيط برفق عبر الشارع المائل إلى الزاوية المقابلة واختبأنا. نغالب الضحك حين نشدّ الخيط ونفلته فتهوي السقاّطة على الباب وتدقّ، مرة مرتين ثلاثاً، يفتح الباب ويتطلع جارنا يميناً وشمالاً، لا يجد أحداً. بعد دقيقة نعيد الحركة ويطلع الجار أيضاً مندهشاً، اقترحَ كامل أن نكتفي بهذا القدر، ولكننا مضينا في الشوط بعيداً وهكذا اكتشفَنا الجار وأخذ يطاردنا ونحن نولّي هاربين.
صديق الحارة كامل يمتلك الآن محلّ مفروشات في الشارع نفسه، وأزوره أحياناً نتحدث في شؤوننا، وكثيراً ما نسهر مع الأصحاب القدامى منهم والجدد.
الشيء الجيد هو انتقال بعض بسطات بيع الكتب إلى هذا الشارع مؤخراً. كان من الممتع أن أقلّب صفحات كتاب عن العصر الأموي أو العباسي، والمشربيات من حولي تعطي إيحاء بذلك العصر، أستثني من ذلك أبواق السيارات وزحامها. وتستهويني عناوين الكتب، لذلك صرتُ أخرج أبكر من المعتاد بعد الظهر، كي أتيح لنفسي وقتاً أمامها، أو أحاول إنهاء عملي قبل أن يوغل الليل، فأظفر بالمرور في الشارع. فقد لازمتني هواية المطالعة منذ المرحلة الإعدادية ومكتبة المدرسة التي حثّنا أستاذنا على ارتيادها وتلخيص ما فيها من كتب في واجبات مدرسية بأسلوبه المحبّب والمشجّع.
اشتريتُ نسخة من رواية للكاتب المحلّي (ن)، لم يسبق أن قرأتُ له، رأيت الغلاف زاهياً وحين قلبت صفحات الكتاب جذبتني عباراته فقررت خوض المغامرة. على الطرف الآخر من الشارع تنبّهتُ إلى محلّ مهمَل لم أكن رأيته من قبل. اندهشتُ قليلاً، ربما طغى الاعتياد اليومي ففاتتني بعض المعالم فيه. عبرت الشارع إلى الرصيف الآخر الضيّق، ودخلت إلى المحلّ، كانت له بضع درجات إلى الأسفل، ذكّرني بمحل الإسكافي القديم الذي كنا نصلح عنده الأحذية. ولكن هذا المتجر على ما يبدو يبيع الأشياء القديمة، إنه متناسب مع تراث المكان ويلفّه شيء من الغبار والغموض. يرحّب بي البائع وأنا أجيل بصري في زوايا المحلّ، صغير نسبياً بحجم غرفة، لكنه زاخر بأشياء كثيرة، قطع سجّاد ملفوفة، ثريّات قديمة وصحون صينية، فناجين قهوة مفردة أو مزدوجة، لكن لم أرَ طقماً كاملاً إلا من كؤوس فضية.
"تحتاج هذه إلى تلميع" يقول البائع العجوز وقد رآني أتأمل الكؤوس، "مسحة واحدة وتعود كما كانت قبل نصف قرن".
"شكراً" أبتسم له وأهزّ برأسي وأنا أهمّ بالخروج. يمدّ البائع إليّ يده حاملاً قنديلاً معدنياً مكسواً بالغبار: "انتظر... عليك بهذا القنديل، مصباح سراج الدين". أنظر إليه لا أعرف هل أُدهش أم أتظاهر بعدم الاكتراث، وقبل أن أتكلم يقول: "نعم، اسمه سراج الدين، وليس علاء الدين. لكن لا تقلق، يمكنك اعتباره ابن عمّه، له قدرات فائقة كمصباح علاء الدين، يشبهه كثيراً". هذه المرّة أتكلّف ابتسامة وأشكره، ثم أهرول خارج المحلّ متأبطاً محفظتي ورواية الكاتب (ن)، وبعد خطوتين كنت قد نسيتُ المحل وسراج الدين والغبار.
استمتعت ذلك اليوم بقراءة الرواية، وقررت البحث عن المزيد لهذا الكاتب الموهوب. ما كان عليّ إلا أن أقصد بسطة الكتب نفسها التي اشتريت منها، الميزة هي أسعارهم الزهيدة، كون الكتب التي لديهم مستعملة أو مشتراة ممن يرغبون ببيع كميات من الكتب. بسهولة وجدت رواية ثانية للكاتب (ن)، تأبطتها ومشيت، ومن جديد التفتتُ إلى محل التحف، فكرتُ أن شراء شيء تذكاري قديم قد يكون لطيفاً لوضعه في مدخل الشقة التي أقطنها، وهكذا نزلتُ الدرج، وكما في المرة السابقة هبّ البائع وهو يعرض عليّ الآن علبة فيها خواتم فضية بفصوص من العقيق. لم أكن من هواة هذه الأشياء، تكفيني ساعتي التي أرتديها وذات يوم حين أقرر الزواج سوف أرتدي المحبس مكرهاً لأني لا أحب الخواتم. وكأن العجوز قرأ خواطري، فأشار إلى بضعة خواتم في طرف العلبة: "لا بدّ أن يعجبك شيء من هذه المحابس". في الواقع خشيت من إضاعة مزيد من الوقت، فهربت من المحل وأسرعت إلى الشركة قبل أن يسبقني المدير ويعاقبني على تأخري.
تلك الليلة، مع الرواية الثانية استوقفني هامش أسفل الصفحة رقم 111، مكتوب يدوياً بالقلم الرصاص، يحدد لي رواية ثالثة من روايات الكاتب (ن) ويتمنى لي قراءة طيبة! هه! وما أدراه أن الرواية الثالثة موجودة على البسطة كي أشتريها وأقرأها؟ ولكنها كانت هناك بالفعل، واشتريتها حين مررت بالشارع. وفي البيت لدى قراءتي لها استوقفني هامش في الصفحة 111 يقترح عليّ قراءة رواية للكاتب (م)، يحدد لي اسم الرواية مع تمنيات بقراءة ممتعة! أتلفّت حولي! هل أنا في حلم، هل من شبح ما في الجوار يتسلل إلى الكتاب؟ هذا غريب.
في المرة الثالثة قررت أن أروّح عن نفسي قليلاً قبل رؤية بسطة الكتب، فدخلتُ إلى محل التحف، وأنا أفكر ما الذي سيعرضه عليّ البائع، وقررت أن أكون أكثر لطفاً. سُرّ البائع برؤيتي، كنتُ أتأمل أزهاراً خزفية في آنية، فقال لي: "ربما لا تعجبك، وقد تجد شبيهاً بها في المحلات المجاورة الحديثة، لكن صدقني إنها تحمل روح الماضي، صناعتها متميزة وألوانها ثابتة لن تزول". بالفعل لم تكن تستهويني، لكنني جاملته وقلت: "معك حقّ". "أرأيت!" كان يبدو مبتهجاً: "اسمع". ويفاجئني بالمصباح السحري أو كما سمّاه: سراج الدين، بيده يلوّح به أمامي. "هذا المصباح..." وأقاطعه: "أجل، أعرف إنه مصباح سراج الدين". ويبتسم مسروراً: "تذكّرتَه إذن. اسمع، هذا المصباح سحري فعلاً، سيعجبك. انظر، هه". وينفخ عليه فيتطاير الغبار، ولشدّة توجّسي أتخيل أن مارداً سينتفض من داخله، فأقول له: "اعذرني، سأعود لاحقاً، لديّ عملٌ هام". وأقفز الدرجات صاعداً وصوته يلاحقني: "لا عليك، سأحتفظ لك بالمصباح!"
أسرعتُ إلى الشركة وقد نسيتُ بسطة الكتب ورغبتي في شراء رواية الكاتب (م) التي اقترحها عليّ الهامش السابق في الصفحة 111، ولكني استدركت ذلك في طريق العودة، وقبل أن يَلمّ صاحب البسطة كتبه كنت قد اشتريت رواية الكاتب (م). كان الشارع مظلماً ليس فيه سوى نور شحيح من مصباح الإضاءة المرتفع، لذلك كما تتوقعون، فور وصولي إلى الشقة سارعت بفتح الصفحة رقم 111، وكما تتوقعون أيضاً وجدتُ اقتراحاً من صاحب الهامش اليدوي بأن أقرأ هذه المرّة كتاباً في تنمية المهارات. قرأتُ الرواية على مدى بضعة أيام، فقد كانت سميكة، حجمها أكثر من 400 صفحة، فضلاً على انشغالي بعمل كثير للشركة أقوم به على الحاسوب في البيت. كنت فعلاً بحاجة إلى كتاب في تنمية المهارات.
وهكذا مضيتُ إلى بسطة الكتب، تأملتُ عدداً من كتب تنمية المهارات، أغلبها كان رقيقاً لا أتصور أنه يزيد على المئة صفحة، يا ترى هل سأعثر على الهامش في الصفحة 111؟ والتقطتُ الكتاب المقترح وكان ـ يا للدهشة ـ يتكون من مئة وخمسين صفحة. ألقيتُ نظرة عجلى على الصفحة 111، فلمحتُ هامشاً بالقلم الرصاص فاطمأننت واشتريته. فيما فاض معي من وقت دخلتُ بضع دقائق إلى متجر التحف، هذه المرّة تفحّصتُ الفناجين القديمة الرائعة، هذا المحلّ يذكّرني ببيت جدّي، كل ما فيه يعود إلى قرنٍ غابر، عبق من التاريخ الذي اندثر الآن أو كاد. الفناجين موضوعة على صينية تعلو تلفازاً مربعاً أحمر اللون. وخطرت في بالي الفكاهة المفضّلة لدى صديقي كامل حول الرجل الذي سأل بائع أجهزة كهربائية: هل لديك تلفزيون ملوّن، فأجابه: عندي، فقال له: أعطني واحداً أزرق!
وهنا أطلّ البائع العجوز من باب داخلي ملحق بالمحلّ، يبدو أنه يؤدّي إلى مستودع صغير. "أهلاً بصديقي العزيز!" صديقه؟ يبدو أنني صرتُ مقرّباً إليه هذه الفترة بترددي إلى المحلّ. وأخذ يسرد لي محاسن الفناجين، وكيف أن لكل منها حكاية بتعدد البيوت التي جاءت منها: "أصحاب البيوت التي كانت فيها هذه الفناجين انتقلوا إلى أحياء متنوعة حديثة من حلب، بعضهم صار في أميركا، ألمانيا، فرنسا، في الخليج، أما هذا التلفزيون، ويشير إليه يكاد يحتضنه بكلتا يديه، فهو للعرض فقط لا يصلح للاستخدام ولا أنصحك به. ما إن تشغّله حتى يزعق بصوت عالٍ، ثم إنّ الصورة تبدو فيه صغيرة بحجم شريط فيلم السينما المضغوط، بعد ذلك يستعرض ويستقر شيئاً فشيئاً، إنه بالأبيض والأسود، ولا يمكنه التكيف مع استقبال القنوات الفضائية."
"هذا رائع!" أقول، ثم ألمحه يقبض على مصباح علاء، أقصد سراج الدين، وقد بات لامعاً تبدو فيه قطع براقة من الزجاج الملوّن. "انظر يا صديقي، هذا تحفة فنية"، فأقول له: "أعرف، إنه مصباح سراج الدين، لكن يبدو أنك أصلحت من شأنه".
"بالضبط، كان المصباح الناجي الوحيد من حريق ألمّ ببيت أحد الأغنياء في هذا الشارع، في تلك البناية على اليسار أقصى الشارع، هل رأيتها؟" ويشير إلى الفسحة التي تبدو بين سقف الباب ودَرَج المحلّ. أتظاهر بأنني رأيتها.
"أودّ كثيراً لو تشتريه، له مزايا سحريّة ستعاينها بنفسك حين تضعه في البيت." الحقيقة أن شكله يبدو أنيقاً بعد العناية به، ولكن لا أظن أنني بحاجة إلى شيء كهذا في بيتي. "لقد دهمني الوقت، شكراً لك". وأمضي خارجاً، والبائع يلاحقني: "كم تدفع ثمناً له؟ سأراعيك في السعر". لكنني كنت قد ركضتُ لألحق بالعمل.
الهامش في ص 111 يقترح عليّ هذه المرّة كتاباً عن علوم الفضاء، على ما يبدو من العنوان المقترح أنه كتاب مبسّط مفيد. كنت فعلاً أحتاج إلى تغيير نمط الكتب، ومنذ زمنٍ طويل أتطلع إلى السماء وأحب رؤية النجوم وأتخيل عارفاً أن بعضها عبارة عن كواكب تعكس أشعة الشمس على الطرف الآخر فتضيء في الظلام.
كانت ليلة ماطرة في أوائل الخريف، لكن الأمطار مفاجئة هذا العام وهطلت بغزارة، فأغرقت الشوارع بالماء واضطربت حركة المرور لبضع ساعات في صباح اليوم التالي.
كان في السماء بقية من غيوم حين مضيتُ بعد يومين مساء في طريقي إلى الشركة، اضطررتُ إلى التقاط كتاب علوم الفضاء وشرائه بسرعة لأن صاحب البسطة انهمك في تغطية الكتب بالنايلون السميك خشية قطرات المطر التي تنذر بالهطول. لففت الكتاب داخل محفظتي وأكملت سيري، لكني تذكرت محل التحف القديمة، لم لا أمرّ به دقائق قليلة؟ لن أتأخر كثيراً. أقطع الشارع ولكن لا أجد شيئاً! أين الدرَج، الباب الخشبي المتآكل القديم؟ أسأل محلّ الاتصالات المجاور عنه، فيقول: "محل تحف! لا علم لي بشيء من هذا القبيل، ربما هو في آخر الشارع أو على الرصيف الآخر". أؤكد له أنه كان هنا، فيقول: "الشوارع القديمة تتشابه، قد يكون في الشارع الموازي خلفنا، ثم إنّ الهطول الأخير أغرق عدداً من المحلاّت فأغلقها أصحابها مؤقتاً ريثما يستدركون أمورهم".
أشكره، وأقف حائراً. لم يكن المحلّ في شارع موازٍ، كان هنا مقابل رصيف بسطة الكتب، ولكن لا أثر لباب، ولا لدرَجٍ. أين اختفى كل هذا؟ يا للبائع العجوز المسكين. هل كان وهماً؟ والمصباح السحري، مصباح سراج الدين، أتراه ينجو من المطر كما نجا من الحريق؟
* القصة منشورة في المجموعة القصصية "شهرزاد الكواكب".
قصة : علياء الداية
أخذ الراكب إلى جواري في الحافلة يلفّ سيجارة. كنت أحسب أنّ لفّ التبغ يدوياً قد انتهى منذ زمن. كان رجلاً مسناً، ولا أدري كيف يقاوم اهتزاز الحافلة لدى سيرها واضطرارها إلى الوقوف في المحطات المتكررة، يأخذ بأطراف أصابعه بعض ورق التبغ الناعم من العلبة، وينقله بحرص إلى وسط ورقة بيضاء رقيقة، سرعان ما لفّها لتصبح لفافة رفيعة.
ثلاث مرات في الأسبوع أركب خط الحافلة هذا إلى الشركة التي أعمل فيها بدوام جزئي مساء. أنزل في أقرب مكان، أعبر ساحة المدينة ثم أمرّ في الشارع الضيّق الذي تطل عليه الأبنية ذات المشربيات الخشبية الحلبية التي يمتاز بها هذا الحيّ.
دقائق قليلة وأكون في مقرّ الشركة. الشارع معتاد بالنسبة إليّ، بل أليف جداً، فقد قضيت طفولتي قريباً منه. كنا نسكن هنا قبل أن يقرر والدي الانتقال إلى حيّ جديد. أنا والأصدقاء في الحارة كنا نقوم بطرق باب أحد البيوت ثم نركض هاربين مترقبين خيبة صاحب البيت بعدم وجود أحد على الباب، ثم نركض ونعاود الكرّة من جديد، وفي النهاية نقهقه ضاحكين، حتى إننا في إحدى المرات اخترنا بيتاً على الزاوية، وربطنا خيطاً بسقّاطة الباب وسحبنا الخيط برفق عبر الشارع المائل إلى الزاوية المقابلة واختبأنا. نغالب الضحك حين نشدّ الخيط ونفلته فتهوي السقاّطة على الباب وتدقّ، مرة مرتين ثلاثاً، يفتح الباب ويتطلع جارنا يميناً وشمالاً، لا يجد أحداً. بعد دقيقة نعيد الحركة ويطلع الجار أيضاً مندهشاً، اقترحَ كامل أن نكتفي بهذا القدر، ولكننا مضينا في الشوط بعيداً وهكذا اكتشفَنا الجار وأخذ يطاردنا ونحن نولّي هاربين.
صديق الحارة كامل يمتلك الآن محلّ مفروشات في الشارع نفسه، وأزوره أحياناً نتحدث في شؤوننا، وكثيراً ما نسهر مع الأصحاب القدامى منهم والجدد.
الشيء الجيد هو انتقال بعض بسطات بيع الكتب إلى هذا الشارع مؤخراً. كان من الممتع أن أقلّب صفحات كتاب عن العصر الأموي أو العباسي، والمشربيات من حولي تعطي إيحاء بذلك العصر، أستثني من ذلك أبواق السيارات وزحامها. وتستهويني عناوين الكتب، لذلك صرتُ أخرج أبكر من المعتاد بعد الظهر، كي أتيح لنفسي وقتاً أمامها، أو أحاول إنهاء عملي قبل أن يوغل الليل، فأظفر بالمرور في الشارع. فقد لازمتني هواية المطالعة منذ المرحلة الإعدادية ومكتبة المدرسة التي حثّنا أستاذنا على ارتيادها وتلخيص ما فيها من كتب في واجبات مدرسية بأسلوبه المحبّب والمشجّع.
اشتريتُ نسخة من رواية للكاتب المحلّي (ن)، لم يسبق أن قرأتُ له، رأيت الغلاف زاهياً وحين قلبت صفحات الكتاب جذبتني عباراته فقررت خوض المغامرة. على الطرف الآخر من الشارع تنبّهتُ إلى محلّ مهمَل لم أكن رأيته من قبل. اندهشتُ قليلاً، ربما طغى الاعتياد اليومي ففاتتني بعض المعالم فيه. عبرت الشارع إلى الرصيف الآخر الضيّق، ودخلت إلى المحلّ، كانت له بضع درجات إلى الأسفل، ذكّرني بمحل الإسكافي القديم الذي كنا نصلح عنده الأحذية. ولكن هذا المتجر على ما يبدو يبيع الأشياء القديمة، إنه متناسب مع تراث المكان ويلفّه شيء من الغبار والغموض. يرحّب بي البائع وأنا أجيل بصري في زوايا المحلّ، صغير نسبياً بحجم غرفة، لكنه زاخر بأشياء كثيرة، قطع سجّاد ملفوفة، ثريّات قديمة وصحون صينية، فناجين قهوة مفردة أو مزدوجة، لكن لم أرَ طقماً كاملاً إلا من كؤوس فضية.
"تحتاج هذه إلى تلميع" يقول البائع العجوز وقد رآني أتأمل الكؤوس، "مسحة واحدة وتعود كما كانت قبل نصف قرن".
"شكراً" أبتسم له وأهزّ برأسي وأنا أهمّ بالخروج. يمدّ البائع إليّ يده حاملاً قنديلاً معدنياً مكسواً بالغبار: "انتظر... عليك بهذا القنديل، مصباح سراج الدين". أنظر إليه لا أعرف هل أُدهش أم أتظاهر بعدم الاكتراث، وقبل أن أتكلم يقول: "نعم، اسمه سراج الدين، وليس علاء الدين. لكن لا تقلق، يمكنك اعتباره ابن عمّه، له قدرات فائقة كمصباح علاء الدين، يشبهه كثيراً". هذه المرّة أتكلّف ابتسامة وأشكره، ثم أهرول خارج المحلّ متأبطاً محفظتي ورواية الكاتب (ن)، وبعد خطوتين كنت قد نسيتُ المحل وسراج الدين والغبار.
استمتعت ذلك اليوم بقراءة الرواية، وقررت البحث عن المزيد لهذا الكاتب الموهوب. ما كان عليّ إلا أن أقصد بسطة الكتب نفسها التي اشتريت منها، الميزة هي أسعارهم الزهيدة، كون الكتب التي لديهم مستعملة أو مشتراة ممن يرغبون ببيع كميات من الكتب. بسهولة وجدت رواية ثانية للكاتب (ن)، تأبطتها ومشيت، ومن جديد التفتتُ إلى محل التحف، فكرتُ أن شراء شيء تذكاري قديم قد يكون لطيفاً لوضعه في مدخل الشقة التي أقطنها، وهكذا نزلتُ الدرج، وكما في المرة السابقة هبّ البائع وهو يعرض عليّ الآن علبة فيها خواتم فضية بفصوص من العقيق. لم أكن من هواة هذه الأشياء، تكفيني ساعتي التي أرتديها وذات يوم حين أقرر الزواج سوف أرتدي المحبس مكرهاً لأني لا أحب الخواتم. وكأن العجوز قرأ خواطري، فأشار إلى بضعة خواتم في طرف العلبة: "لا بدّ أن يعجبك شيء من هذه المحابس". في الواقع خشيت من إضاعة مزيد من الوقت، فهربت من المحل وأسرعت إلى الشركة قبل أن يسبقني المدير ويعاقبني على تأخري.
تلك الليلة، مع الرواية الثانية استوقفني هامش أسفل الصفحة رقم 111، مكتوب يدوياً بالقلم الرصاص، يحدد لي رواية ثالثة من روايات الكاتب (ن) ويتمنى لي قراءة طيبة! هه! وما أدراه أن الرواية الثالثة موجودة على البسطة كي أشتريها وأقرأها؟ ولكنها كانت هناك بالفعل، واشتريتها حين مررت بالشارع. وفي البيت لدى قراءتي لها استوقفني هامش في الصفحة 111 يقترح عليّ قراءة رواية للكاتب (م)، يحدد لي اسم الرواية مع تمنيات بقراءة ممتعة! أتلفّت حولي! هل أنا في حلم، هل من شبح ما في الجوار يتسلل إلى الكتاب؟ هذا غريب.
في المرة الثالثة قررت أن أروّح عن نفسي قليلاً قبل رؤية بسطة الكتب، فدخلتُ إلى محل التحف، وأنا أفكر ما الذي سيعرضه عليّ البائع، وقررت أن أكون أكثر لطفاً. سُرّ البائع برؤيتي، كنتُ أتأمل أزهاراً خزفية في آنية، فقال لي: "ربما لا تعجبك، وقد تجد شبيهاً بها في المحلات المجاورة الحديثة، لكن صدقني إنها تحمل روح الماضي، صناعتها متميزة وألوانها ثابتة لن تزول". بالفعل لم تكن تستهويني، لكنني جاملته وقلت: "معك حقّ". "أرأيت!" كان يبدو مبتهجاً: "اسمع". ويفاجئني بالمصباح السحري أو كما سمّاه: سراج الدين، بيده يلوّح به أمامي. "هذا المصباح..." وأقاطعه: "أجل، أعرف إنه مصباح سراج الدين". ويبتسم مسروراً: "تذكّرتَه إذن. اسمع، هذا المصباح سحري فعلاً، سيعجبك. انظر، هه". وينفخ عليه فيتطاير الغبار، ولشدّة توجّسي أتخيل أن مارداً سينتفض من داخله، فأقول له: "اعذرني، سأعود لاحقاً، لديّ عملٌ هام". وأقفز الدرجات صاعداً وصوته يلاحقني: "لا عليك، سأحتفظ لك بالمصباح!"
أسرعتُ إلى الشركة وقد نسيتُ بسطة الكتب ورغبتي في شراء رواية الكاتب (م) التي اقترحها عليّ الهامش السابق في الصفحة 111، ولكني استدركت ذلك في طريق العودة، وقبل أن يَلمّ صاحب البسطة كتبه كنت قد اشتريت رواية الكاتب (م). كان الشارع مظلماً ليس فيه سوى نور شحيح من مصباح الإضاءة المرتفع، لذلك كما تتوقعون، فور وصولي إلى الشقة سارعت بفتح الصفحة رقم 111، وكما تتوقعون أيضاً وجدتُ اقتراحاً من صاحب الهامش اليدوي بأن أقرأ هذه المرّة كتاباً في تنمية المهارات. قرأتُ الرواية على مدى بضعة أيام، فقد كانت سميكة، حجمها أكثر من 400 صفحة، فضلاً على انشغالي بعمل كثير للشركة أقوم به على الحاسوب في البيت. كنت فعلاً بحاجة إلى كتاب في تنمية المهارات.
وهكذا مضيتُ إلى بسطة الكتب، تأملتُ عدداً من كتب تنمية المهارات، أغلبها كان رقيقاً لا أتصور أنه يزيد على المئة صفحة، يا ترى هل سأعثر على الهامش في الصفحة 111؟ والتقطتُ الكتاب المقترح وكان ـ يا للدهشة ـ يتكون من مئة وخمسين صفحة. ألقيتُ نظرة عجلى على الصفحة 111، فلمحتُ هامشاً بالقلم الرصاص فاطمأننت واشتريته. فيما فاض معي من وقت دخلتُ بضع دقائق إلى متجر التحف، هذه المرّة تفحّصتُ الفناجين القديمة الرائعة، هذا المحلّ يذكّرني ببيت جدّي، كل ما فيه يعود إلى قرنٍ غابر، عبق من التاريخ الذي اندثر الآن أو كاد. الفناجين موضوعة على صينية تعلو تلفازاً مربعاً أحمر اللون. وخطرت في بالي الفكاهة المفضّلة لدى صديقي كامل حول الرجل الذي سأل بائع أجهزة كهربائية: هل لديك تلفزيون ملوّن، فأجابه: عندي، فقال له: أعطني واحداً أزرق!
وهنا أطلّ البائع العجوز من باب داخلي ملحق بالمحلّ، يبدو أنه يؤدّي إلى مستودع صغير. "أهلاً بصديقي العزيز!" صديقه؟ يبدو أنني صرتُ مقرّباً إليه هذه الفترة بترددي إلى المحلّ. وأخذ يسرد لي محاسن الفناجين، وكيف أن لكل منها حكاية بتعدد البيوت التي جاءت منها: "أصحاب البيوت التي كانت فيها هذه الفناجين انتقلوا إلى أحياء متنوعة حديثة من حلب، بعضهم صار في أميركا، ألمانيا، فرنسا، في الخليج، أما هذا التلفزيون، ويشير إليه يكاد يحتضنه بكلتا يديه، فهو للعرض فقط لا يصلح للاستخدام ولا أنصحك به. ما إن تشغّله حتى يزعق بصوت عالٍ، ثم إنّ الصورة تبدو فيه صغيرة بحجم شريط فيلم السينما المضغوط، بعد ذلك يستعرض ويستقر شيئاً فشيئاً، إنه بالأبيض والأسود، ولا يمكنه التكيف مع استقبال القنوات الفضائية."
"هذا رائع!" أقول، ثم ألمحه يقبض على مصباح علاء، أقصد سراج الدين، وقد بات لامعاً تبدو فيه قطع براقة من الزجاج الملوّن. "انظر يا صديقي، هذا تحفة فنية"، فأقول له: "أعرف، إنه مصباح سراج الدين، لكن يبدو أنك أصلحت من شأنه".
"بالضبط، كان المصباح الناجي الوحيد من حريق ألمّ ببيت أحد الأغنياء في هذا الشارع، في تلك البناية على اليسار أقصى الشارع، هل رأيتها؟" ويشير إلى الفسحة التي تبدو بين سقف الباب ودَرَج المحلّ. أتظاهر بأنني رأيتها.
"أودّ كثيراً لو تشتريه، له مزايا سحريّة ستعاينها بنفسك حين تضعه في البيت." الحقيقة أن شكله يبدو أنيقاً بعد العناية به، ولكن لا أظن أنني بحاجة إلى شيء كهذا في بيتي. "لقد دهمني الوقت، شكراً لك". وأمضي خارجاً، والبائع يلاحقني: "كم تدفع ثمناً له؟ سأراعيك في السعر". لكنني كنت قد ركضتُ لألحق بالعمل.
الهامش في ص 111 يقترح عليّ هذه المرّة كتاباً عن علوم الفضاء، على ما يبدو من العنوان المقترح أنه كتاب مبسّط مفيد. كنت فعلاً أحتاج إلى تغيير نمط الكتب، ومنذ زمنٍ طويل أتطلع إلى السماء وأحب رؤية النجوم وأتخيل عارفاً أن بعضها عبارة عن كواكب تعكس أشعة الشمس على الطرف الآخر فتضيء في الظلام.
كانت ليلة ماطرة في أوائل الخريف، لكن الأمطار مفاجئة هذا العام وهطلت بغزارة، فأغرقت الشوارع بالماء واضطربت حركة المرور لبضع ساعات في صباح اليوم التالي.
كان في السماء بقية من غيوم حين مضيتُ بعد يومين مساء في طريقي إلى الشركة، اضطررتُ إلى التقاط كتاب علوم الفضاء وشرائه بسرعة لأن صاحب البسطة انهمك في تغطية الكتب بالنايلون السميك خشية قطرات المطر التي تنذر بالهطول. لففت الكتاب داخل محفظتي وأكملت سيري، لكني تذكرت محل التحف القديمة، لم لا أمرّ به دقائق قليلة؟ لن أتأخر كثيراً. أقطع الشارع ولكن لا أجد شيئاً! أين الدرَج، الباب الخشبي المتآكل القديم؟ أسأل محلّ الاتصالات المجاور عنه، فيقول: "محل تحف! لا علم لي بشيء من هذا القبيل، ربما هو في آخر الشارع أو على الرصيف الآخر". أؤكد له أنه كان هنا، فيقول: "الشوارع القديمة تتشابه، قد يكون في الشارع الموازي خلفنا، ثم إنّ الهطول الأخير أغرق عدداً من المحلاّت فأغلقها أصحابها مؤقتاً ريثما يستدركون أمورهم".
أشكره، وأقف حائراً. لم يكن المحلّ في شارع موازٍ، كان هنا مقابل رصيف بسطة الكتب، ولكن لا أثر لباب، ولا لدرَجٍ. أين اختفى كل هذا؟ يا للبائع العجوز المسكين. هل كان وهماً؟ والمصباح السحري، مصباح سراج الدين، أتراه ينجو من المطر كما نجا من الحريق؟
* القصة منشورة في المجموعة القصصية "شهرزاد الكواكب".
Published on October 11, 2013 03:49
•
Tags:
مصباح-سحري-كتاب-كتب-بسطة-قديم
date
newest »

علياء الداية's Blog
- علياء الداية's profile
- 778 followers
علياء الداية isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

ولكن بعد اختفاء المحل وصاحبه ومصباح سراج الدين هل اختفت هوامش الصفحات ١١١؟ :)