المثقف وأزمة المبادئ

counter-writers-block


تفرض الأحداث المتلاحقة في أم الدنيا نفسها على المتابع العربي في كل مكان، ويصبح الحديث عن ما يجري في ميادينها أكثر إثارة وأهمية من الحديث عن الموضوعات الداخلية. وعلى الرغم من أن الساحة المصرية على أشد ما تكون من الإنقسام، وهذا متوقع جداً، بسبب الطريقة التي تم فيها إزاحة الرئيس، إلا أن بروز هذا الانقسام الحاد بين المثقفين في الخليج عموماً والمملكة خصوصاً، لهو جدير بالمتابعة والاهتمام. ليس لأن هناك تبايناً شديداً في الرأي حول هذه القضية، وحول إعتبار ما جرى إنقلاباً على ثورة يناير أم تصحيحاً لها، وإنما للطريقة التي عبر فيها كل مثقف، أو كاتبة، أو صحفي، وغيرهم من النخب عن آرائهم، وكيف وقع الجميع مع استثناءات قليلة في فخ الاستقطاب والتعصب، وباتت الآراء مبنية على الخلفية الفكرية لكل شخص، وليس نتيجة لما يجري على أرض الواقع.


فالفريق الأول يضم خليطاً عجيباً من التوجهات من يساريه وليبرالية وقومية وحتى بعض من السلفيه، وهي تيارات عرف عنها عداوتها الشديدة لبعضها، لكنهم اتفقوا هذه المرء تحقيقاً لمقولة: عدو عدوي صديقي! والعدو المشترك هنا هو جماعة “الإخوان المسلمون”، والذين ينتمي إليهم الرئيس د.محمد مرسي. فهذه الفئة، خاصة الليبرالية والعلمانية منها، لطالما تشدقت بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقدمت نفسها كمناضلة للحريات الإعلامية والدينية، وكرافضة للأحكام العسكرية والعرفية وقوانين الطوارئ، إلا أن كل هذه “المبادئ” أصبحت منتهية الصلاحية إذا كان الأمر متعلقاً بخصومهم الفكريين، وحتى الصندوق الذي لطالما دعوا للأخذ به غدا متأمراً خبيثاً لا ينبغي الاستناد برأيه، فالصندوق جاء بهتلر، وعليه فهو لا يؤتمن!


ورغم غرابة هذا التحول الفجائي إلا أنه يظل للمرء حرية أن يعتقد ما يشاء، وبالتالي فيمكن تفهمه بالأخذ بالاعتبار بنظريات التطور الدارونية، إلا أن ما لا يمكن فهمه أو القبول به، هو أن هذا الفريق انتقل تركيزه من نقد الخط الفكري والسياسي لجماعة الإخوان المسلمون، وهي جماعة سياسية في نهاية المطاف وليست فوق النقد، إلى هجوم صارخ على كل من خالفهم الرأي بهذا الخصوص. فباتت نظرية “اكفش إخواني” مسلطة على كل شخص لم ينضم لفريقهم، ولم يحاول أن يرى الأمور من زاوية أخرى، والتهمة الإخوانية هنا أشبه بالتهمة المكارثية في أمريكا الخمسينات، حين اتهم خيرة رجالات أمريكا ومثقفيها بالشيوعية، لتنهي مستقبلهم السياسي أو الثقافي في بلد هو عقر دار الرأسمالية، والحرب الباردة آنذاك على أشدها ضد الاتحاد السوفيتي، ليتبين لاحقاً أنهم أبرياء. مع أن من بين من لم يعجبهم تغيير الرئيس المصري بالطريقة التي تمت مسيحيون وغربيون وكتاب مستقلون، بل وأشخاص هم أيدلوجياً ضد فكر الاخوان، لكنهم لم يغيروا مبادئهم بحسب ما تجري به الرياح، فهم ضد إغلاق قنوات الرأي الآخر تحت أي ذريعة، وضد وأد التجربة الديمقراطية في مهدها، وضد الانقلابات العسكرية بالمطلق، لأن العسكري لم يخلق ليحكم، والتجارب مريرة معها في العالم العربي وباكستان وغيرها. فإذا كان السياسي في أي مكان في العالم معذوراً في مواقفه التي تمليها مصالح معروفة وغير معروفة للعامة، وتحالفات وتوازنات للقوى، والتي تدفعه لاتخاذ موقف ما في قضية بعينها، وموقف مغاير في قضية أخرى مشابهة، فإن المثقف كان يفترض به أن ينحاز لقناعاته، إن كانت فعلاً قناعاته الراسخة، أو في أحسن الأحوال يظل على الحياد.


الفريق الثاني، وهو الفريق الذي يقدم نفسه على أنه انحاز إلى الشرعية الانتخابية، وإلى ما جاءت به صناديق الاقتراع في أول انتخابات نزيهة وحرة تجري في مصر منذ أن تحولت للنظام الجمهوري قبل ستين سنة، مع أن بعض أفراده كانوا يرون حرمة الانتخابات بالأصل، أو عدم جدواها في مجتمعات قبلية وطائفية ومناطقية، لكنه فجاءة صار يتحدث عن خيار الصندوق والاختيار الحر، وهو الذي ربما كان يصنف نفسه فقط ممثلاً وحيداً لأهل الحل والعقد. ولا يمكن إنكار وجود أصوات من هذا الفريق رمت كل من عارض الرئيس المنتخب محمد مرسي وانتقد أداؤه السياسية والاقتصادي بأنهم من فلول النظام السابق ومن المنافقين والمتصهينين وربما الكافرين. فعلى الرغم من قصر المدة الممنوحة للحكومة المنتخبة، إلا أن نقد أدائها أمر مشروع ولا يختلف عن نقد أي نظام سياسية آخر، ونقد الأداء الإخواني، أو عدم التصويت لمرشح جماعة الإخوان المسلمون، لا يعني بأن هذا الشخص ضد الدين، فهم وإن كانوا يتبنون الفكر الإسلامي إلا أنهم يترشحون كفصيل سياسي كبقية الفصائل الأخرى، وبالتالي ليسوا محصنين ضد النقد، ونقدهم ليس نقداً للإسلام بحال. على شرط أن يكون هذا النقد موضوعيا ومنصفاً ومبنياً على الحقائق.


مصر ليست كأي دولة، ومنذ عامين وكل حدث يجري على أرضها يترك تأثيرها واضحاً على كل المنطقة، بشكل يختلف عما حصل في تونس مع أن شرارة الثورة انطلقت منها، أو في ليبيا والتدخل الدولي فيها، أو اليمن أو سوريا الجريحة. ومن الطبيعي أن تخضع هذه الأحداث غير المسبوقة فيها إلى النقد والتحليل، وسيكون هناك اختلاف وتباين في الآراء بلا أدنى شك، في مصر وخارجها، وهذا كله جزء من سنة الحياة وطبيعية البشر. لكن ما هو غير الطبيعي وغير المقبول أن نترك قراءة الحدث لننتقل إلى قراءة النوايا، وأن نبيع المباديء التي ناضلنا من أجلها طويلاً وبشرنا بها دهراً بثمن بخس إستجابة لهوى النفس وبغضاً للطرف الآخر، وللفكر الذي يتبناه. ومن غير المنطقي أن يفر المرء من قنوات عربية لأنها امتهنت الكذب والتزوير ضد خصومها إلى قنوات أوربية وأمريكية لأن صحافييها، الذين يختلف جلهم معنا في العرق والدين والفكر، لم ينسى بعد بأن المصداقية هي رأسمال أي إعلامي، بل ومستعدٌ أن يتعرض للأذى في سبيل نقل الصورة كما هي أو قريباً من ذلك، فالمباديء سميت مباديء لأنها من تلك الأمور..التي لا تباع ولا تشترى.



المقال في الوطن 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 11, 2013 08:28
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.