احتراف “اللصمقة” إلى متى؟
اللصمقة..كلمة عامية من اللهجة الحجازية، وتعني إتمام الشيء بسرعة وقلة اهتمام وبالتالي غياب الإتقان والجودة، وتختزن الذاكرة الشعبية موروثاً من الأمثال التي تدور حول المعنى نفسه مثل “طبطب وليّس..يطلع كويس”، وفي كلها إشارة إلى “ضرب العمل على قلبه” والانتهاء منه بأسرع ما يمكن للتخلص من المسؤولية، بغض النظر عن المخرج النهائي. الغريب أننا في أمورنا الشخصية مثل مناسباتنا، وبيوتنا، وملابسنا، نحرص على أن يكون كل شيء كأفضل ما يكون. بالمقابل، حينما يتعلق الأمر بأداء واجباتنا، ووظائفنا، وأعمالنا، وخدماتنا، الحكومية والتجارية، يبدو كما لو أننا ننتقل إلى النقيض في لمح البصر، وكأننا احترفنا أو أتقنا عدم الإتقان!
فلماذا يصبح مقبولاً أن يتعامل موظف الجوازات مع القادمين بملل؟ لماذا نقبل أن تكون مطاراتنا على حالة من الفوضى لا تليق بدولة نفطية ناهضة؟ لماذا تدهور مستوى خطوطنا الجوية، وهي احدة من أعرق الخطوط الجوية في المنطقة، بعد أن كانت يوماً من أفضل الخطوط العالمية؟ لماذا شوارع الكثير من مدننا بائسة رغم الامكانيات الهائلة والمبالغ الضخمة التي تضخها الدولة؟ ولماذا يصبح من الطبيعي أن يقود الناس في شوارعنا بهذه الطريقة الهمجية المميتة بينما هؤلاء أنفسنا يلتزمون بكل قواعد السير حالما يغادرون أرض الوطن؟ لماذا استمرأنا مخالفة القانون؟
لماذا حين تزور فندقاً من فئة الخمسة نجوم، يأتيك إحساس بأنه لا يستحق نصف هذه النجوم إذا ما قارنته ليس بفنادق أوربا وأمريكا وإنما بفنادق الدول الخليجية المجاورة؟ ولماذا حين تتقدم بشكوى لسوء تعامل في مستشفى خاص أو مصرف بنكي ينظر إليك الجميع على أنك شخص “مشكلجي”؟! بدل من شكرك لأنك اتبعت الخطوات المناسبة لإيصال رأيك للمسؤولين.
لماذا نقبل بأن تتجمع في الأراضي البيضاء بقايا مواد البناء، والأثاث القديم، وأشجار النخيل الميته، وبعض الإطارات التالفة؟ ألا يؤذينا تشويه المنظر العام للبلد؟ ألا يؤذي القبح أعيننا ويغمرنا بالكآبة مع مطلع يوم جديد فنذهب لأعمالنا بنفسية لا تساعد على الإنجاز؟
كيف نرضى أن تستمر بعض معاملاتنا في الدوائر الحكومية أو في المحاكم القضائية شهوراً طويلة بل سنوات تتعطل فيها مصالح العباد..مصالحنا نحن أهل هذه البلاد والمقيمون فيها؟ لماذا يبدو أحياناً هذا الوطن الرائع والطافح بالخيرات والطاقات، وكأنه سلحفاة معمرة ضخمة تمشي ببطء لا يعنيها أن يسبقها العالم؟!
وحتى على الصعيد الاجتماعي، لماذا تتأخر كل هذه القرارات المصيرية كل هذا الوقت لإقرارها، ومنها فتح مجالات جديدة لعمل المرأة، وحل مشكلتها مع المواصلات، واقتطاع النفقة من راتب الأب أو الزوج، ووضع قانون للأحوال الشخصية مستمد من شريعتنا الغراء، يوقف عبث الجاهلية، من حجر على البنات، أو تزويجهن قسراً، أو تزويجهن دون علمهن وهن قاصرات، أو قضايا الحضانة، فهي أمور نعرف بأنها ستقر في نهاية المطاف، هكذا يقول العقل والمنطق وحتى الحراك المحلي والوضع الإقليمي والدولي، فلسنا بدعاً عن جوارنا الذي يشابهنا في الدين والعادات والتقاليد من صنعاء وحتى الكويت، ومع ذلك فقد تجاوزوا الكثير من الأمور التي لا نزال “نلت ونعجن” فيها منذ قرن! فلم لا يكون الإقرار عاجلاً إذاً؟
لماذا يغيب الترفيه البريء؟ لم يضطر المواطن السعودي أن يعبر الحدود كل أسبوع ليشاهد فيلماً سينمائياً في صالة عرض مع عائلته؟ لماذا تمتلئ بلادنا بكل هذه الجمال وفيها كل هذه الامكانيات المادية والبشرية ومع ذلك يغادرها أهلها بالملايين في أصغر إجازة وأكبرها لغياب المشاريع الترفيهية التي تتواجد عند الجيران؟ كيف لم ننجح في جعل الطائف أو أبها أو الباحة مصايف عالمية تجذب المواطنين والخليجيين الهاربين من حرارة الصيف القائظ في معظم فصول السنة؟ كيف لم تصبح جدة – عروس البحر الأحمر- مركزاً من مراكز الغوص العالمية للتمتع بمشاهدة ثروات البحر الأحمر المرجانية الجميلة، في حين نجحت في ذلك المنتجعات المصرية على الضفة الأخرى مع الفارق في الامكانيات؟ ليس شرطاً أن تُبنى السياحة على المحرمات من العري والخمر والقمار وغيرها، إذ نستطيع أن نبتكر لوننا الخاص من السياحة المحتشمة. بل كيف فرطنا في آثارنا الإسلامية التي كان يمكن أن تجعل من سياحتنا مصدراً للدعوة مع الكسب المباح حين نحيي في نفوس الناس تاريخ دينهم ونذكرهم بما فقدوه من حضارة أمتهم؟
كان لهذه البلاد شرف الريادة في كل شيء تقريباً في الجزيرة العربية، ولازلنا مولعين بالاحتفاء بهذه الأولية وبكل أسماء التفضيل الأخرى: أكبر، أضخم، أجمل، أشمل، ولكن هل الأولية أهم من الاستمرارية؟ جميل أن تحوز قصب السبق في مجال ما، لكن التحدي الحقيقي هو أن تحافظ على هذه الريادة، بل وتذهب بها إلى مدى أبعد.
هل لا توجد إيجابيات وإنجازات نفخر بها؟ بالطبع هناك الكثير جداً، لكنني حين أرتدي نظارة الإتقان التي تجعل المعايير التي أحكم بها وأرضاها لوطني عالية جداً، فستزعجني حتى خربشات المراهقين على الأسوار، وسأطالب بالتصدي لها.
سيحل اليوم الوطني بعد أربعة أشهر تقريباً، وسيخرج الآلاف للشوارع لينشروا الفوضى بدعوى الوطنية، وستمتلئ الصحف بعشرات المقالات التي تتغنى بحب الوطن، وسيأتي كبار التجار لينشروا التبريكات للقيادة الرشيدة على صفحات الجرائد، وستعرض التلفزيونات البرامج التي تتحدث عن نهضة المملكة، فيما ستنشغل الإذاعات ببث الأغاني الوطنية والتبريكات الشعبية، وكل هذا جميل (باستثناء الفوضى في الشوارع طبعاً)، لكن ما الذي يضيفه – للأمانة- للوطن؟ كيف يخدمه ويدفع باتجاه رفعته؟
إن كنت وطنياً حقاً فلا تقبل منذ اليوم إلا الافضل لوطنك، لا تقبل من نفسك سواء كنت طالباً أو موظفاً أو مسؤولاً إلا أن تقدم الأفضل والأكمل والأجمل، لا تقبل أنصاف الحلول، ولا تقتنع بالأعذار، اجعل هدفك الإتقان المطلق على مستواك الفردي وعلى مستوى من تؤثر فيهم، فباحتراف الإتقان يبدع وطنك، ليس على المستوى المحلي أو الإقليمي وإنما الدولي، أما “اللصمقة” فمع كل خطوة للأمام، تعيده خطوتين للخلف، أفلم تشتاقوا لأن تكونوا ووطنكم في المقدمة؟
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

