الشباب.. للوطن طاقات
استيقظنا بفزع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي جعلتنا كمجتمع ودولة وثقافة ودين في عين العاصفة. وعلى الرغم من عدم ثقة الكثيرين منا بتفاصيل الرواية الأميركية، ومع إقرارنا بوجود عوامل خارجية، ومشكلات دولية، ساهمتا في صنع هذا الشباب الكاره لسياسات أميركا، إلا أننا عدنا لمطالعة وجهنا كما هو في المرآة، باحثين عن مكمن الخلل الذي أوجد الفكر المتشدد، والذي قد يتطور، إذا ما اجتمعت عوامل معينة، لينتج الفكر الإرهابي. وقد نالت المناهج، كما المناشط الدعوية، والصيفية، وحلقات التحفيظ، الجانب الأكبر من النقد والاتهام، وكان الكثيرون يتساءلون عن: ما الذي يجعلها جاذبة للشباب؟
خلال العشر سنوات الماضية، كُتبت مئات المقالات، وأُلفت عشرات الكتب، لتناقش الأسباب الفكرية والدينية والاقتصادية لتطرف شبابنا، حتى باتت معروفة لا تحتاج إلى إعادة هنا. لكن النقطة التي أغفلها الكثيرون، والتي قد تكون الأهم، هي هذا الفراغ، والتهميش الهائلان، اللذان يعاني منهما الشباب في بلد يشكلون أغلبيته. لو أنك شاب أو فتاة، وتتفجر حيوية ونشاطا ورغبة في تغيير مجتمعك إلى الأفضل، فماذا باستطاعتك أن تفعل؟ بل لننسى أمر إصلاح المجتمع، لو عندك فائض من وقت وطاقة، وتريد تسخيرهما في الاستمتاع بهذه الفترة الرائعة من حياتك بشكل مفيد، ما الخيارات المتاحة أمامك؟
لن أتحدث عن ضعف وسائل الترفيه الصرف في مجتمعنا، فهذا من قبيل الحديث عما هو متفق عليه سلفا، ولكن لنتحدث عن الجوانب الأخرى. ففي الدول الأخرى، تشكل الاتحادات الطلابية الجامعية وانتخاباتها ونشاطاتها، مجالا رحبا لتبدع شريحة واسعة من شباب الوطن المنتمين لتلك الجامعات لتفريغ طاقاتهم. الكثير من السياسيين في أوروبا وأميركا، والذين تصدروا المشهد السياسي في بلدانهم، وفازوا بانتخابات الرئاسة على مستوى دولهم، كانت خطوتهم الأولى في أروقة الحرم الجامعي، حين فازوا برئاسة الاتحاد الطلابي في جامعتهم. فالمرحلة الجامعية هي في الخارج مرحلة صقل الشخصية وبناء الذات. أما الجامعات السعودية فلم تستوعب بعد أنها ليست مصنعا للشهادات مسؤوليتها تخريج متعلمين ومتعلمات بعلوم نافعة وغير نافعة، وإنما هي مدرسة لصقل المواهب، وبناء الشخصيات، وتحضير القادة والرواد، الذين سيتولون ذات يوم مسؤولية النهوض بهذه البلاد.
أما خارج الحرم الجامعي وبعيدا عن الأطر الرسمية، فالمناشط المتاحة قليلة جدا، وكانت حتى عهد قريب محصورة في يد شرائح وفئات محددة من المجتمع. وإن كان ظهور الكليات والجامعات الأهلية، والإمكانات المادية المتاحة لها، مع الحرية الهائلة التي تتمتع بها مقارنة مع الجامعات الحكومية، لا سيما النسوية منها، قد ساهم في ظهور مجموعات ومناسبات ونشاطات تطوعية بمبادرات شبابية متميزة.
وجاءت كارثة سيول جدة قبل أربع سنوات، وكانت من مزاياها القليلة، انطلاق شرارة العمل التطوعي الشعبي بشكل غير مسبوق، فمع أن النشاط التطوعي الشبابي لم يلبث آنذاك أن انضوى تحت مظلة رسمية هي الغرفة التجارية بجدة، إلا أن العلاقات التي تكونت بين المشاركين، ساهمت وما زالت في ظهور مناشط تطوعية أخرى غير مرتبطة بالكارثة. وانتشرت للمرة الأولى في مجتمعنا فكرة العمل التطوعي كشيء منفصل عن العمل الخيري، فهما وإن كانا لا يتطابقان، إلا أنهما لا يتعارضان. فأي عمل مفيد للمجتمع يقدمه المرء لمجتمعه دون مقابل، سواء أخذ صبغة دينية أو خيرية أو لم يأخذ، هو عمل تطوعي. ويشمل ذلك التوعية الصحية بالفوائد والأضرار بأنواعها، ونشر الثقافة والمعرفة، والترفيه عن الأطفال، وتكريس مبادئ التسامح والتآخي لتحقيق الهدف المشترك الأسمى. وأنا أرى أن واحدة من أجمل وأجدى الطرق لغرس الوطنية في نفوس الناشئة يكون عبر العمل التطوعي، الذي يهدف للارتقاء بالوطن عبر تطوع المرء بوقته وجهده لخدمة من يعيشون فيه، وليس عبر قاعات الدراسة والكتب المدرسية المملة التي تنسخ وتلصق من مناهج التاريخ.
قدرة الشباب السعودي اليوم على ممارسة النشاط التطوعي، وتنظيم النشاطات المختلفة، تظل محدودة بما يمكن أن يتحقق فيما لو توفرت ظروف أفضل، وذلك لوجود الكثير من التنظيمات الإدارية المعقدة للحصول على التصاريح اللازمة، وعدم وجود مظلة تنضوي تحتها هذه التنظيمات وتتعامل معها ليس كمرجعية تعقد نشاطاتهم بالبيروقراطية، وإنما كشريك موثوق يمكن من خلاله التواصل مع المجموعات المختلفة، ضمنا لتكامل الجهود بدلا من وقوعها في فخ الانعزال أو المنافسة السلبية. وقد تكون إمارة منطقة مكة المكرمة استثناء بارزا عبر مبادراتها الست العام الماضي لبناء الشباب، وعلى رأسها جمعية شباب مكة للعمل التطوعي، وما زال أمام الجميع الكثير من الجهد لتفعيل هذه المبادرات بالشكل المرضي.
كما يشكل عدم وجود دعم مادي إلا فيما ندر عائقا أمام المتطوعين، مما يطرح قضية البنوك والشركات ومسؤوليتهم عبر الشراكة المجتمعية، فلم لا تكون أبوابهم مشرعة لتبني ودعم مثل هذه المجموعات؟ فبدلا من أن تقرر الشركة كيف تخدم المجتمع عبر مشروع تقرره، لم لا يتحقق العكس؟ فالمجتمع هو من يطلب من الشركة دعمها في مشروع بعينه، فهو أدرى بما هو محتاج له. إضافة إلى غياب الدعم اللوجستي لدعم هذه المبادرات، مثل عدم توفر قاعات، أو مكتبات، أو غرف اجتماعات، مجانية أو بأسعار رمزية، تمكن الشباب من الاجتماع في النور في الأماكن العامة بدلا من البيوت المغلقة. ففي بريطانيا القاعات الجامعية مثلا متاحة للإيجار خارج أوقات الدوام بمبلغ رمزي وتنظيم غير معقد.
رمي المشكلات على الشباب، أظنه مطبا نقع فيه حتى نحن المنتمين لهذا الجيل، وبالتأكيد إن الشخص مسؤول عن تثقيف نفسه وتطويرها والاهتمام بمستقبله في أحلك الظروف وأصعبها على الصعيد الفردي، أما على الصعيد الجماعي فبدلا من لوم الشباب لانزلاقهم نحو التطرف أو التحرر، أو التعريض بهم على المنابر لانشغالهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أو محاولة محاصرة برامج الاتصال بحجج لا تقنع حتى من يبرر لها، فلنفتح الأبواب أمام دور جديد للشباب يكون فيه الشاب شريكا حقيقيا في بناء الوطن. وهذا يمكن أن يوضع تحت خانة حماية أمن وسلامة المجتمع، فبيتٌ تضع لبناته بنفسك، وتزرع حديقته بيديك لن تهدمه أبدا.. ولن تسمح لأحد أن يمس طوبة منه بسوء.
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

