قوانين الفوضى

كان موعدي الأخير مع ذلك الطبيب.. لا أحب أن أخلف موعدًا وبذات القدر لا أطيق زيارة ذلك الرجل المخبول.. إذن فالحل الوحيد هو أن أذهب لأقرب مصدر للمياه لأحظى بحمام دافئ.. علها تنزاح تلك الغشاوة الضبابية عن ثنايا عقلي المستيقظ لتوه.. فربما تتقرر الخطوة القادمة من تلقاء نفسها!
نضوت ملابسي كالعادة وألقيت بها تحت قدمي قبل أن أكتشف المفاجآة اللطيفة.. نسيت كالعادة أيضًا أن أحمل معي ثيابًا نظيفة.. ناديت بأعلى صوت غاضب على من بالخارج..
"يا أهل الله!!"
لدقائق جاوبني صمت مطبق قبل أن أتذكر أنه لم يعد هنا غيري بالشقة.. أو بمعنى آخر.. من يقتسمون معي السكن لا يظهرون في مثل هذه الساعة المبكرة من اليوم.. لا بأس أن أضطر للخروج عاريًا ، لو لا أن شباك الصالة مفتوح عن آخره.. حتى هذه الحقيقة لا تمثل مشكلة كبيرة.. أليس يدعي أنه طبيب؟.. فليعالج التهابي الرئوي بالمرّة!!
*****
حاولت كثيرًا إشعال السخان الغازي.. تبًا!
كيف نسيت أن مفتاح الإشعال الذاتي قد تلف منذ شهرين؟.. لدي قداحة هنا.. فلا يتبقى إلا قطعة من الورق للقيام بجريمة كاملة ولكن قل لي كيف الحصول على مثل ذلك الحلم هنا والآن؟.. قلبت الرف بحثًا عن قطعة ورق أو عود كبريت يصلح ، حتى أن بعض الدبابيس التي تناثرت قد وجدت طريقها لأصابعي أكثر من مرة.. لمن هذه الأشياء القذرة المؤذية؟!.. كان الهواء الداخل من أسفل الباب قد أحال أصابع قدمي إلى قطع صغيرة من الجليد.. فلم أجد بدًا من الخروج حافيًا عاريًا مرتجفًا لأقتطع ورقة من تقويم الجدار.. إنها ورقة الغد.. لا مشكلة.. فلن أبحث أكثر.. قطعتها لشرائط صغيرة حتى تصلح للاستخدام أكثر من مرة.. واتجهت لوضعها في الركن العلوي من رف الحمام حيث لن يطالها الماء وتظل في مكان منظور.. لأفاجأ بالعديد من الوريقات المحشورة في البقعة ذاتها.. تبًا لذلك المرض اللعين.. لقد أخبرني الدكتور باسمه ذات مرة..
*****
"الزآيمر.. يمكن كتابته في ورقة ووضعها بجيب قميصك لو كان الأمر مهمًا.."
"لو أخبرتك بعدد القمصان التي تحمل بجيوبها أوراقًا مغسولة صار مستحيلاً تبين ما بها ، لصفعتني كما يفعل العبيد مع أسيادهم!!"
"من؟!!.. ما علينا.. لنعد إلى الموضوع الرئيس.. من المفترض أنها جلستنا الأخيرة.. للأسف كما تعلم أنت الوحيد الذي يمكنه أن يدلنا على شخصية القاتل ، وهي من سخريات القدر شديدة الوطأة.. نظرًا لحالتك الذهنية.. ولأسباب أخرى نحن في غنى ذكرها!"
تأملته قليلاً.. دون أن أجد ردًا مناسبًا يوازي غباؤه وقلة ذوقه.. كان معطفه الأبيض نظيفًا لكنه غير مكوي.. وكان يتمتع بعينين جاحظتين تشبه الواحدة منهما بيضة مسلوقة كاملة في الحجم والشكل!.. ذو شعر نافر كأنه تعرض لشحنة ستاتية هائلة.. لن أتحدث عن خوذته العجيبة التي تتدلى منها عشرات الأسلاك والهوائيات.. يمكنني اختصار الوصف في كلمة واحدة فقط : عبقرينو!
لكنه للأسف كان الأخير.. بل الوحيد الذي يدعي القدرة على استخلاص الحقيقة.. وكان يؤمن حقًا بما يفعله.. لدرجة أن رجال المباحث تركوه يواصل محاولاته بينما هم يعملون في اتجاه آخر..
لم نكن وحدنا بالغرفة.. كان هناك أكثر من شخص.. كلهم يرمق الدكتور بنظرات مترقبة.. البعض غير مصدق والبعض يرتجف خوفًا.. لكن الملاحظ عليهم جميعًا أنهم كانوا يتجاهلونني تمامًا وكأنني غير موجود.. حتى عندما وجهت كلمة لأحدهم ولم يرد ، قال الدكتور..
"دعك منهم.. لن تستطيع التواصل معهم ، فقط أنا أقدر.."
ففهمت أن لتلك الخوذة الغريبة دور في وجود تلك الكيانات ، وربما كانت هي وسيلة اتصاله بهم..
كان هناك قاتل ما يريد مني أن أدله على شخصيته.. أنا بالذات!
ضحكت في سري وأنا أفكر أن اللافتة على بابه والمكتوب عليها E.S.P كانت لتكون أكثر مناسبة لو كتب عليها (نخترع أي شيء)!!
كم أرهقتني جلسات ذلك الرجل المهووس.. والتي قد أسفرت في النهاية جميعها عن :
لا شيء..!
لا أستطيع تجميع مشهد كامل ، كأنني قرص صلب تعرض للتلف..
والكارثة إنني بالفعل الوحيد الذي بإمكانه أن يدلهم على القاتل لسبب وحيد غاية في البساطة : وهو إنني أنا القتيل!!
*****
كان لغزًا حيرهم طويلاً حتى قرر أحدهم أن استخضار روح القتيل وسؤالها عن قاتلها هو الحل الأقرب للصواب!
ولكن من كان يتصور أن يكون الشاهد الوحيد الذي يعتمدون عليه ، يتمتع بخلايا مخية أشبه بالبطاطا المهروسة؟!
البطاطا!!
تذكرت إنني نسيتها في الفرن قبل أن.. ففف.. حسنًا ، لم يعد ثمة داع للقلق على أية حال.. فلابد أنهم أكلوها محترقة وهم يبكونني بدلاً من القهوة المرة.. ولكن من يمكنه تناول البطاطا الملوثة بالـ....
مستحيل!!
لقد حدث معجزة نادرة الحدوث ، أعتقد إنني تذكرت شيئًا ذو قيمة!!
*****
وضعت يدي بجيب قميصي ، بالفعل أنا أتذكر.. هذا هو القميص الذي كنت أرتديه حين قتلت.. أعتقد أن الورقة قد تلفت من الماء تمامًا.. كما أنها ورقة شبحية مثلها كمثلي.. لن يمكنني إعطائها للدكتور.. سوف أضطر لمحاولة فتحها بنفسي..
أعتقد أن الدكتور لمح بريق الفكرة بين عيني فتابعني متلهفًا في صمت.. حتى أن أحدهم حاول سؤاله عن شيء ما ، فردّه بتلويحة غليظة من كفه تدعوه للصمت..
كانوا جميعًا ينتظرون في توتر.. وكل منهم يتوقع أن تهبط يد أحدهم على قفاه لتسحبه إلى حبل المشنقة..
كانوا أسرتي الكريمة.. التي لن يخرج قاتلي عنها بحال.. أحاول فض الورقة بشيء من التعقل كي لا تتحول بين أصابعي لحفنة من التراب.. فقد أحالتها مياه البحر على مدار ثلاث ليال إلى شيء لا يعقل.. أؤمن أنها تحوي إشارة تدل على القاتل.. قد تكون ملحوظة منه أو فاتورة مكتوب بها إسمه.. يكاد عقلي يذوب من فرط الاعتصار.. لا فائدة من محاولات التذكر.. فقط يبقى الأمل في أن أستطيع استخلاص الحقيقة من بين رقاقاتها الهشة وقطرات حبرها الذائبة..
للأسف..
فشلت العملية..
ألقيت بها في جيبي مرة أخرى مما جعل الطبيب يتنهد في يأس ، ثم يقول..
"لا بأس من تجربة التنويم المغناطيسي لآخر مرة.. ما رأيك؟!"
فكرت أنه عتل صفيق ذلك الرجل الذي يستحضر شبحًا من أجل تنويمه مغناطيسيًا!!
ما هذا البال الرائق؟!.. لا أظنهم قد يلجأوا إليها مرة أخرى ولو كان القتيل هو قارون ذاته ، إلا إن أهمية القضية تكمن أصلاً في أن أسرة من خمسة أفراد ، قُتل أحدهم وألقي في البحر وينتظر أن يكون أحد الباقين هو القاتل.. أعتقد أن الأمر يستحق بعض الجهد.. ولكن إلى هذا الحد من الجموح...؟!
"لكنك فشلت في تنويمي المرة السابقة!"
"لا بأس من تجربة أخيرة!"
قالها بيأس أكبر من يأسي فلم أشأ مناقشته.. ونهضت معه نحو الشيزلونج ، حين انفتح الباب فجأة ودخل عبره ضابط شرطة يبدو مهيب الطلعة ذو رتبة كبيرة..
"من الجيد أنك هنا يا دكتور ، لقد استطعنا انتشال جثة ذلك القتيل أخيرًا ، ووجدنا بداخل جيبه دليل على هوية القاتل.. فقررت المرور لإعتقادي بأن الأمر قد يهمك.."
التفتنا جميعًا إليه وهو يتابع..
"استطاع رجالنا معالجة الورقة ليكتشفوا أنها لم تكن سوى خطاب وداع .. قبل الانتحار!!"
6 likes ·   •  6 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 19, 2013 15:55
Comments Showing 1-6 of 6 (6 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Zahrat (new)

Zahrat مشوقة جدا، والفكرة جديدة، عالجها الكاتب بطريقة السهل الممتنع. حقا، لقداستمتعتُ كثيرا بقراءتها.


message 2: by Omnia (new)

Omnia Elshimy القصة جميلة يا محمد .. يعجبني اسلوبك من حيث نقطة البداية وطريقة المعالجة .. انا حقا استمتعت بها ..
اتمنالك مزيد من النجاح :)


message 3: by محمد (new)

محمد مصيلحي Zahrat wrote: "مشوقة جدا، والفكرة جديدة، عالجها الكاتب بطريقة السهل الممتنع. حقا، لقداستمتعتُ كثيرا بقراءتها."
أشكرك يا زهرة كل الشكر، ويسعدني إمتاعك يا صديقتي
على الرحب والسعة


message 4: by محمد (new)

محمد مصيلحي Omnia wrote: "القصة جميلة يا محمد .. يعجبني اسلوبك من حيث نقطة البداية وطريقة المعالجة .. انا حقا استمتعت بها ..
اتمنالك مزيد من النجاح :)"


خالص امتناني لك يا أمنية على إخلاص المتابعة ودوام الكلمة الرقيقة الطيبة
لا تحرمينا تواجدك المضيء


message 5: by Ghada (new)

Ghada Kenawi اعتدت دائما الاستمتاع باسلوب الرائع محمد عبد القوي مصيلحي, فدائما اجد تجدد في الافكار و اسلوب محكم مشوق

بحيث انك

مش هتعرف تغمض عينيك


message 6: by محمد (new)

محمد مصيلحي Ghada wrote: "اعتدت دائما الاستمتاع باسلوب الرائع محمد عبد القوي مصيلحي, فدائما اجد تجدد في الافكار و اسلوب محكم مشوق

بحيث انك

مش هتعرف تغمض عينيك"


ربنا يخليكي ويسعدك يا غادة، نورتي الدنيا


back to top

غياب

محمد عبد القوي مصيلحي
يجب على الرجل أن يقوم بما يجب على الرجل أن يقوم به!
من هذا المنطلق سوف أكتب فقط، هكذا أرى مسؤوليتي الخاصة تجاه هذا العالم، وهذا ما سوف أفعله.
Follow محمد عبد القوي مصيلحي's blog with rss.