الطرق على أبواب الجحيم
"إذن أنت تعترف أخيرًا، ليس القتل على هذا القدر من السهولة التي تصفها!"
قلتها وتراجعت في مقعدي مرتجفًا رغمًا عني، أعترف إنني لا أحب النظر إلى هذا الوجه.. قال الرجل العجوز بصوته الجذاب، الذي يدعوك للنعاس ، وقد تأكد لي أنه فهم السبب الذي يجعلني أقطب جبيني متأملاً البساط وأنا أتكلم..
"ليس من العدل تصنيف الأمر على هذا النحو السطحي.."
قالها بصوت هادئ للغاية، ولكن كان لرنينه بأذني أثرًا أقرب ما يكون إلى لقهقهة، لم تفتني رنة السخرية الكامنة بين مقاطع عبارته البريئة. وللحظة واحدة تمكنت من اختلاس نظرة لوجهه دون أن تتلاقى أعيننا.
كان الرجل الذي قد جاوز منتصف عقده السابع يبتسم ساخرًا بركن فمه وهو يسبل جفنيه.. اللعنة عليه! كم أمقت هذا الرجل.
أعترف بأنني لا أطيق من يبتسمون على الدوام بمناسبة وبدون مناسبة، أشعر بأنهم موشكون على إخراج ألسنتهم لي.. كأنهم بهذا يربحون معاركهم بمجهود أقل بكثير مما أبذله طيلة الوقت، بتجهمي وهذا الهواء الملتهب الذي يمر خارجًا من رئتي في كل لحظة.. أكرههم، وإن الكراهية بالنسبة لي لا تعني سوى القتل.. لكنني بحكم ظروف عملي كمفتش بالمباحث الجنائية، لا أجد الوقت الكافي لتنفيذ تلك المتعة. ولو سنحت لي الفرصة لقتل كل من كرهتم بالحياة، لصارت الأرض خرابًا بكل تأكيد .
رأيته يمد يده اليمنى - الحرة - بشيء من العسر، يحاول تناول قلمًا وورقة من فوق المكتب فلم أعاونه. تمكّن بالنهاية من الوصول لمبتغاه دون أن تبدر منه لمحة لوم، ودون أن يتخلى حتى عن بسمته البراقة المخيفة، ورسم نقطة صغيرة تبرز منها أسهم ثلاثة..
"إن تحدثت عن القتل، فيجب أن تتحدث بما يليق بالقتل! إن القتل بمعناه البسيط لعبة لشخصين.. لكننا هنا نضيف العامل الأكثر أهمية: العامل الذي ربما كان هو من يتحكم في القتل كعملية، بدءًا من البداية. لدينا هنا قاتل، وقتيل، وسنضيف المحقق كطرف ثالث.
إن المحقق الذكي يصير لعنة.. خاصة لو كان هناك قاتل ذكي بالجوار. أحيانًا يكون ذكاء المحقق هو الدافع الرئيس وراء ارتكاب الجريمة.. فيخلق القاتل والقتيل بيديه لمجرد أنه يريد تأدية عمله.. لو كنت محققًا ذكيًا فلا تهزم قاتلاً ذكيًا.. ولو فعلتها فتأكد أنك لم تتركه على قيد الحياة، حتى لا تترك مجالاً للتحديات المستقبلية بينكما.."
فكرت حينًا.. لم أشأ إطالة التفكير، وربما أن شيئًا ما بداخلي أراد تجاوز تلك النقطة.. فعدت أنصت إليه دون أن أنظر في عينيه..
"لو قسمنا صعوبات الموقف على الثلاثة عوامل لدينا، لحظي القتيل بالقدر الأقل من المصاعب.. إن مشكلة القتيل لن تتجاوز بعض الألم، وربما سؤال مندهش: لماذا أنا ؟!.. ثم ينتهي الأمر بالنسبة له..
سيتبقى لدينا بالنسبة للقاتل عدة أشياء.. الدافع مثلاً، وهو من أسهل الأمور لكنه ليس أسهلهم على الإطلاق. أنت لا تفكر في القتل أبدًا إن لم يكن لديك دافعًا أيًا كان نوعه. بعدها تبدأ في البحث عن بقية العوامل.. التنفيذ، وهو أسهل من الدافع بالمناسبة.. في الحقيقة هو أسهل خطوة في عملية القتل.. إن ضغطة الزناد أو طعنة السكين لن تستغرق منك سوى لحظة واحدة، كما أنها لا تحتاج لجهد عضلي يذكر.."
قاطعته هنا مستاءًا من الاتجاه الذي يسلكه الحوار..
"لحظة واحدة..!"
فقاطعني بدوره دون أن يتخلى عن ابتسامته المقيتة..
"أعلم ما تعني. إنني أتحدث عن الجانب الميكاني في التنفيذ.. حركة اليدين والقدمين والأصابع.. أنا لم أتحدث عن الجانب النفسي.. أعلم ما تفكر فيه!"
نهضت من خلف مكتبي فجأة، بحركة بدت له متوترة أكثر مما كنت أود، فتظاهرت بتنفيض بنطالي..
"تبًا! حشرات من المعتاد تواجدها هنا، خاصة ونحن في مكان رطب كهذا.."
"حشرات في يناير؟! اسمح لي أن أتهمك بسوء الحظ!!"
عدت أجلس مجددًا، وقد أحكمت السيطرة على أعصابي. ثم قلت بنبرة هادئة نسبيًا..
"لقد ادعيت أنك على علم بما أفكر فيه منذ لحظات..!"
"هل هذا هو ما أصابك بالتوتر....؟!"
أغمضت عيني مفكرًا. كنت أتأمل ظهره المحني وابتسامته القذرة ويده المكبلة إلى مقعده من خلف جفنين مسبلين.. لم أكن لأسمح له أن يراني أتأمله.. قلت:
"بل على العكس، ولكن أرهَقتني لعبتك التي تحاول.. يبدو أننا لن نتفق فلن تستطيع إقناعي.."
صمت للحظات ثم هز رأسه في تفهّم. بالنهاية قال في لهجة محايدة تمامًا وقد تخلى أخيرًا عن بسمته المنفرة..
"أفهم هذا، وكنت أتوقعه على أي حال. من الصعب أن تعترف بأنك قد هزمت أمام قاتل عجوز مثلي.. إنها طبيعة بشرية تصعب السيطرة عليها.. يمكنك أن تنادي الجندي بالخارج ليعيدني إلى زنزانتي..!"
رمقته مذهولاً.. لم أتوقع أن يكون انفعالي ظاهرًا إلى هذا الحد. لا أحب أن أسعد هذا المخلوق، والكارثة أن أي محاولة للنفي قد تزيد الموقف سوءًا! قال وهو يرمقني في ثبات غريب..
"عندما طلبت مقابلتي، توقعت شيئان.. إما أن يكون عقلك أكثر انفتاحًا، فتمنح ذاتك الفرصة للتعلم من نفسية وعقلية مجرم، يوشك على لقاء نهايته صعقًا بعد أيام.. وهي - لو أردت رأيي - فرصة لن تسنح لك كل يوم. وإما أن تكون أكثر عصبية وجنونًا تجاه الشخص الذي اعترف أخيرًا بأنه قاتل والدك.. ربما سددت لي لكمة أو اثنتين، أما أن تتظاهر بالعقلانية، بينما يصرخ حالك بالغباء والتصدي للفكرة، فهذا هو الغريب.. لم أخالك غبيًا، ولو عرفت لما ضيعت وقتي الثمين هنا! بالمناسبة، يمكنك اعتبار محادثتنا هذه هي درسي الأخير.. والأول في عدَّاد الفشل الخاص بي.. يومًا ما ستفهم كيف تكون ناجحًا في ما اخترت من عمل، ثم تنهي حياتك المهنيّة بأول فشل لك.. أعدك بهذا!!"
*****
حينما دخل الجندي مسرعًا على إثر صوت الدوي، وجد العجوز مسبل الجفنين مع بسمة ساخرة وثقب في منتصف جبهته. وحينما تلاقت عيناه بعيني المحقق، صرخ الأخير إنه من حاول الاعتداء عليه أولاً.. تأمل الجندي ذراع الجثة المقيّد، ولم يعلّق. وخلال لحظات كان المكتب يعج بالعشرات من رجال المباحث، كلهم جاءوا بحثًا عن مصدر الصوت.
نهض المحقق مستسلمًا مع زملائه بعد أن ترك سلاحه على سطح المكتب، كي يتم التحفظ عليه. بينما يتردد صدى ما في جنبات عقله المنهك..
"يومًا ما ستفهم كيف تكون ناجحًا في ما اخترت من عمل، ثم تنهي حياتك المهنيّة بأول فشل لك.. أعدك بهذا!!"
قلتها وتراجعت في مقعدي مرتجفًا رغمًا عني، أعترف إنني لا أحب النظر إلى هذا الوجه.. قال الرجل العجوز بصوته الجذاب، الذي يدعوك للنعاس ، وقد تأكد لي أنه فهم السبب الذي يجعلني أقطب جبيني متأملاً البساط وأنا أتكلم..
"ليس من العدل تصنيف الأمر على هذا النحو السطحي.."
قالها بصوت هادئ للغاية، ولكن كان لرنينه بأذني أثرًا أقرب ما يكون إلى لقهقهة، لم تفتني رنة السخرية الكامنة بين مقاطع عبارته البريئة. وللحظة واحدة تمكنت من اختلاس نظرة لوجهه دون أن تتلاقى أعيننا.
كان الرجل الذي قد جاوز منتصف عقده السابع يبتسم ساخرًا بركن فمه وهو يسبل جفنيه.. اللعنة عليه! كم أمقت هذا الرجل.
أعترف بأنني لا أطيق من يبتسمون على الدوام بمناسبة وبدون مناسبة، أشعر بأنهم موشكون على إخراج ألسنتهم لي.. كأنهم بهذا يربحون معاركهم بمجهود أقل بكثير مما أبذله طيلة الوقت، بتجهمي وهذا الهواء الملتهب الذي يمر خارجًا من رئتي في كل لحظة.. أكرههم، وإن الكراهية بالنسبة لي لا تعني سوى القتل.. لكنني بحكم ظروف عملي كمفتش بالمباحث الجنائية، لا أجد الوقت الكافي لتنفيذ تلك المتعة. ولو سنحت لي الفرصة لقتل كل من كرهتم بالحياة، لصارت الأرض خرابًا بكل تأكيد .
رأيته يمد يده اليمنى - الحرة - بشيء من العسر، يحاول تناول قلمًا وورقة من فوق المكتب فلم أعاونه. تمكّن بالنهاية من الوصول لمبتغاه دون أن تبدر منه لمحة لوم، ودون أن يتخلى حتى عن بسمته البراقة المخيفة، ورسم نقطة صغيرة تبرز منها أسهم ثلاثة..
"إن تحدثت عن القتل، فيجب أن تتحدث بما يليق بالقتل! إن القتل بمعناه البسيط لعبة لشخصين.. لكننا هنا نضيف العامل الأكثر أهمية: العامل الذي ربما كان هو من يتحكم في القتل كعملية، بدءًا من البداية. لدينا هنا قاتل، وقتيل، وسنضيف المحقق كطرف ثالث.
إن المحقق الذكي يصير لعنة.. خاصة لو كان هناك قاتل ذكي بالجوار. أحيانًا يكون ذكاء المحقق هو الدافع الرئيس وراء ارتكاب الجريمة.. فيخلق القاتل والقتيل بيديه لمجرد أنه يريد تأدية عمله.. لو كنت محققًا ذكيًا فلا تهزم قاتلاً ذكيًا.. ولو فعلتها فتأكد أنك لم تتركه على قيد الحياة، حتى لا تترك مجالاً للتحديات المستقبلية بينكما.."
فكرت حينًا.. لم أشأ إطالة التفكير، وربما أن شيئًا ما بداخلي أراد تجاوز تلك النقطة.. فعدت أنصت إليه دون أن أنظر في عينيه..
"لو قسمنا صعوبات الموقف على الثلاثة عوامل لدينا، لحظي القتيل بالقدر الأقل من المصاعب.. إن مشكلة القتيل لن تتجاوز بعض الألم، وربما سؤال مندهش: لماذا أنا ؟!.. ثم ينتهي الأمر بالنسبة له..
سيتبقى لدينا بالنسبة للقاتل عدة أشياء.. الدافع مثلاً، وهو من أسهل الأمور لكنه ليس أسهلهم على الإطلاق. أنت لا تفكر في القتل أبدًا إن لم يكن لديك دافعًا أيًا كان نوعه. بعدها تبدأ في البحث عن بقية العوامل.. التنفيذ، وهو أسهل من الدافع بالمناسبة.. في الحقيقة هو أسهل خطوة في عملية القتل.. إن ضغطة الزناد أو طعنة السكين لن تستغرق منك سوى لحظة واحدة، كما أنها لا تحتاج لجهد عضلي يذكر.."
قاطعته هنا مستاءًا من الاتجاه الذي يسلكه الحوار..
"لحظة واحدة..!"
فقاطعني بدوره دون أن يتخلى عن ابتسامته المقيتة..
"أعلم ما تعني. إنني أتحدث عن الجانب الميكاني في التنفيذ.. حركة اليدين والقدمين والأصابع.. أنا لم أتحدث عن الجانب النفسي.. أعلم ما تفكر فيه!"
نهضت من خلف مكتبي فجأة، بحركة بدت له متوترة أكثر مما كنت أود، فتظاهرت بتنفيض بنطالي..
"تبًا! حشرات من المعتاد تواجدها هنا، خاصة ونحن في مكان رطب كهذا.."
"حشرات في يناير؟! اسمح لي أن أتهمك بسوء الحظ!!"
عدت أجلس مجددًا، وقد أحكمت السيطرة على أعصابي. ثم قلت بنبرة هادئة نسبيًا..
"لقد ادعيت أنك على علم بما أفكر فيه منذ لحظات..!"
"هل هذا هو ما أصابك بالتوتر....؟!"
أغمضت عيني مفكرًا. كنت أتأمل ظهره المحني وابتسامته القذرة ويده المكبلة إلى مقعده من خلف جفنين مسبلين.. لم أكن لأسمح له أن يراني أتأمله.. قلت:
"بل على العكس، ولكن أرهَقتني لعبتك التي تحاول.. يبدو أننا لن نتفق فلن تستطيع إقناعي.."
صمت للحظات ثم هز رأسه في تفهّم. بالنهاية قال في لهجة محايدة تمامًا وقد تخلى أخيرًا عن بسمته المنفرة..
"أفهم هذا، وكنت أتوقعه على أي حال. من الصعب أن تعترف بأنك قد هزمت أمام قاتل عجوز مثلي.. إنها طبيعة بشرية تصعب السيطرة عليها.. يمكنك أن تنادي الجندي بالخارج ليعيدني إلى زنزانتي..!"
رمقته مذهولاً.. لم أتوقع أن يكون انفعالي ظاهرًا إلى هذا الحد. لا أحب أن أسعد هذا المخلوق، والكارثة أن أي محاولة للنفي قد تزيد الموقف سوءًا! قال وهو يرمقني في ثبات غريب..
"عندما طلبت مقابلتي، توقعت شيئان.. إما أن يكون عقلك أكثر انفتاحًا، فتمنح ذاتك الفرصة للتعلم من نفسية وعقلية مجرم، يوشك على لقاء نهايته صعقًا بعد أيام.. وهي - لو أردت رأيي - فرصة لن تسنح لك كل يوم. وإما أن تكون أكثر عصبية وجنونًا تجاه الشخص الذي اعترف أخيرًا بأنه قاتل والدك.. ربما سددت لي لكمة أو اثنتين، أما أن تتظاهر بالعقلانية، بينما يصرخ حالك بالغباء والتصدي للفكرة، فهذا هو الغريب.. لم أخالك غبيًا، ولو عرفت لما ضيعت وقتي الثمين هنا! بالمناسبة، يمكنك اعتبار محادثتنا هذه هي درسي الأخير.. والأول في عدَّاد الفشل الخاص بي.. يومًا ما ستفهم كيف تكون ناجحًا في ما اخترت من عمل، ثم تنهي حياتك المهنيّة بأول فشل لك.. أعدك بهذا!!"
*****
حينما دخل الجندي مسرعًا على إثر صوت الدوي، وجد العجوز مسبل الجفنين مع بسمة ساخرة وثقب في منتصف جبهته. وحينما تلاقت عيناه بعيني المحقق، صرخ الأخير إنه من حاول الاعتداء عليه أولاً.. تأمل الجندي ذراع الجثة المقيّد، ولم يعلّق. وخلال لحظات كان المكتب يعج بالعشرات من رجال المباحث، كلهم جاءوا بحثًا عن مصدر الصوت.
نهض المحقق مستسلمًا مع زملائه بعد أن ترك سلاحه على سطح المكتب، كي يتم التحفظ عليه. بينما يتردد صدى ما في جنبات عقله المنهك..
"يومًا ما ستفهم كيف تكون ناجحًا في ما اخترت من عمل، ثم تنهي حياتك المهنيّة بأول فشل لك.. أعدك بهذا!!"
Published on April 12, 2013 15:17
date
newest »
newest »
غياب
يجب على الرجل أن يقوم بما يجب على الرجل أن يقوم به!
من هذا المنطلق سوف أكتب فقط، هكذا أرى مسؤوليتي الخاصة تجاه هذا العالم، وهذا ما سوف أفعله.
من هذا المنطلق سوف أكتب فقط، هكذا أرى مسؤوليتي الخاصة تجاه هذا العالم، وهذا ما سوف أفعله.
- محمد عبد القوي مصيلحي's profile
- 196 followers



دمت مبدعآ