الروضة ..والسكينة المفقودة

Tranquility2


عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ (، وحين تخطر الجنة على بال المرء يتخيل مكاناً فيه من الراحة والدعة والسكون والسلام ما ليس له مثيل في دنيا البشر. وصحيح أننا نتكلم هنا عن موقع دنيوي هو الروضة النبوية الشريفة بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلا أن النفس كانت ولازالت تتمنى أن تكون هذه البقعة المباركة صورة مصغرة لتلك الجنان التي ندعو الله متضرعين له أن يرزقنا الخلود فيها. لا سيما وأنه يرقد فيها سيد البشر، وبما أننا مأمورون بأن لا نرفع أصواتنا عنده حياً أو ميتاً، فإن الرغبة في الإحساس بالسكون والطمأنينة في هذا المكان تتعاظم.


كنت قد زرت المدينة المنورة لأول مرة وأنا طفلة، يومها أتذكر بأن النساء لم يكن مفصولات ومحشورات بالطريقة التي أراها اليوم، بعد أن حرمن من “المواجهة” لقبر النبي، وبعد أن تحددت أوقات الزيارة لهن بثلاث مواعيد فقط، وسط تزايد هائل في أعداد الزائرات. ففي زيارتي الأخيرة فوجئت بتنظيمات غريبة لم أرى لها نتائج إيجابية. فابتداء أوقات الزيارة للنساء قليلة قياساً بأعدادهن، ومن ثم يتم تقسيمهن إلى مجموعات للزيارة بحسب الجنسية: الخليج والعراق، بلاد الشام، مصر، تركيا، ماليزيا، وهكذا. ومع أنني أعرف بأن الهدف من ذلك تنظيمي بحت، وأنه من أجل سهولة التخاطب مع كل مجموعة بلغتها، إلا أنه في الوقت نفسه شعرت بنوع من الغصة إذ يحضر في هذا المكان انتماء آخر غير الانتماء لأمة الإسلام. فها نحن ندخل إلى هذا الجزء من الجنة كقبائل وشعوب، ونسلم على رسول الله ونحن نرفع لافتات الأمصار التي رسم خرائط معظمها الاستعمار.


ومع ذلك، فلو أن هذه التنظيمات التي يبدو أنها مقتصرة على الجانب النسائي فقط، نفعت بالفعل في التحكم بحركة الزائرات، ولو أننا دخلنا للروضة بسكينة ووقار، وصلينا ركعتين بخشوع، لما كان عندي اعتراض عليها، فللضرورة أحكام. لكن الذي حصل هو أن معظم الزائرات لم تستطع أن تنتظر دور مجموعتها لثلاث ساعات، فالوقت متأخر بعد صلاة العشاء، والنساء متعبات، ولبعضهن التزامات أسرية أو ضرورات صحية، فما أن فُتح الباب حتى اندفعت النساء راكضات باتجاه الروضة الشريفة، ووجدنا أنفسنا في وسط أمواج متلاطمة من البشر تعصرنا عصراً، حتى لكأننا نطوف في الصحن الشريف في مكة المكرمة في ليلة السابع والعشرين من رمضان. وارتفعت أصوات الصياح والخوف من الدهس والسحق من قبل الكثير من الزائرات، فنحن أتينا نرجو الثواب لكننا وليس لنلقي بأيدينا إلى التهلكة! فللحظة نسيت أين أنا، ولا ما كنت أنوي فعله، فقط كنت أبحث عن مخرج سريع دون أن أؤذي نفسي أو غيري، ثم صاحت زائرة بأننا صرنا في الروضة فعلاً فانتبهت بصعوبة للسجاد الأخضر تحتنا، وأقصى ما تمكنت من فعله لحظتها هو الصلاة على النبي والدعاء بسرعة فيما أحاول حماية نفسي من السقوط.


وحين خرجت شعرت بالخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد أكثر من ألف سنة على وفاته، لازالت أمته غير قادرة على تنظيم زيارة مسجده كما يليق به وبرسالة الإسلام الخالدة التي عنوانها النظام، والتي لم تترك ناحية من نواحي الحياة إلا ونظمتها بما في ذلك دخول الخلاء –أجلكم الله-.


ثمة عوامل عديدة تؤدي إلى هذه الفوضى في المشاعر المقدسة، فمنها كثرة العدد في الفترة نفسها، ولعلنا هنا نطرح جدوى فتح باب العمرة طوال العام، وإعطاء عدد لا محدود من تأشيرات الزيارة دون حساب للطاقة الاستيعابية للمسجدين الشريفين سواء في الحج أو العمرة أو الزيارة. فالهدف ليس أداء العبادة فقط حتى لو لم تكن هناك لحظة خشوع واحدة، أو حتى لو ترتب عليه ضرر للإنسان أو من حوله، وإنما الغرض زيارة بسكينة ووقار، تؤدى فيها المناسك كما يجب، ويخشع فيها القلب لخالقه. وقد سبق أن زرت مساجد وكنائس ومعابد بغرض السياحة، وكان القاسم المشترك بين كل دور العبادة هو هذا الهدوء الذي يغمرها، فالأديان جاءت لتعلم الإنسان السلام والتصالح مع نفسه ومن حوله. ومهما أقمنا من توسعات في مكة والمدينة فلن تستوعبا هذه الأعداد الهائلة من المسلمين، فالحل إذاً قد يكون بضبط الأعداد، ونظام المحاصصة للعمرة كذلك، فلا يكون الهدف شغل الفنادق والأبراج السكنية فحسب.


وهناك طرق تنظيمية أخرى لزيارة بقعة صغيرة مثل الروضة، فمثلاً يمكن العمل بنظام تذاكر مجاني على شكل أساور، الغرض منه تحديد وقت دخول كل زائر، وهو تنظيم معمول به في الكثير من المرافق السياحية التي يزورها السواح دفعة واحدة، إذا تعطى كل مجموعة، ولنقل مائة شخص، وقتاً محدداً مثلاً من الساعة الرابعة حتى الرابعة والربع ثم تخرج، وتدخل مجموعة ثانية وهكذا. ويتم تنسيق ذلك للأفواج القادمة من الخارج عبر حملاتهم، ولحجاج وزوار الداخل عبر مكاتب وأكشاك خارج المسجد النبوي. فأن تتاح لك زيارة واحدة تصلي فيها بأمن وسكينة وخشوع خير من زيارات متعددة لا تعلم فيها ماذا تقول، وقد تخرج منها بكتف مخلوع أو رجل مكسورة.


الأمر الأخير متعلق بهذا الفصل الصارم بين الرجال والنساء في المسجد النبوي، وهو أمر لم يكن له أصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والذي من نتائجه تحديد وقت الزيارة للنساء بحيث يحولها لتصبح شاقة ومتعبة، والقاعدة الفقهية تقول بأن الضرورات تبيح المحظورات، وذلك لمن يرى بأن الاختلاط في المشاعر من المحظورات.


من المحزن جداً أن نشاهد الملايين حول العالم يزورون المرافق السياحية أو المهرجانات الغنائية بنظام وترتيب في حين لا نرى ذلك في أقدس البقاع، وجزء من السبب يرجع لتنظيم المسؤولين عن هذه المرافق، والجزء الآخر لوعي الحجاج والمعتمرين والزوار للأسف، وفي كل الأحوال، فإن الوضع لا يسر وهو بحاجة للكثير من الجهد والتنظيم ليصبح لائقاً بهذا الدين العظيم.



 المقال كما نشر في الوطن



 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 06, 2013 06:29
No comments have been added yet.


مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog

مرام عبد الرحمن مكاوي
مرام عبد الرحمن مكاوي isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مرام عبد الرحمن مكاوي's blog with rss.