تجارة الدماء
لا أعتقد أن أحداً يتعامل مع التقنيات الحديثة وخاصة الهواتف المحمولة الذكية في المملكة إلا ووصلته خلال شهر رمضان المبارك رسائل الاستعطاف والحث على التبرع وعتق الرقبة
لشاب من قبيلة معروفة في المدينة المنورة ودفع ديته البالغة ثلاثين مليونا. ويبدو أن الكثيرين من أهل الخير قد استجابوا لهذه الحملة، فقد وصلتنا بعد ذلك صورة لشيك بقيمة خمسة ملايين ريال سعودي تبرع بها أحدهم لهذا الشاب. تقول القصة، التي عاثت بها الشائعات ألواناً، بأن هذا الشاب البالغ من العمر ثمانية عشرة عاماً قتل شابا آخر قبل أربع سنوات، أي عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، وذلك دفاعاً عن عرضه حينما حاول القتيل الاعتداء عليه، وبالتالي فإن هذا الشاب العفيف الشجاع يستحق كل مساعدة وتقدير. وبالرغم من أن قصص القتل الخطأ أو العمد ليست جديدة علينا، وكذلك المبالغة في الديات للأسف، إلا أن هذه القصة تحديداً عليها أكثر من علامة استفهام تستوجب التوقف عندها.
فابتداء، إن صحت القصة وهو أن الشاب المحكوم عليه بالقصاص قد قتل الآخر دفاعاً عن النفس، ألم يكن من الأولى للمتعاطفين معه وحتى أهله التعريف بقصته عبر الإعلام وغيرها منذ البداية ومن ثم المطالبة بنقض الحكم؟
أما إن كان ذلك غير صحيح، وأن الشاب قد قتل الآخر لأسباب مختلفة، فمرة أخرى هل يحد لمن يرتكب جريمة في هذه السن الصغيرة؟ وإن كان الجواب نعم، فهل يستحق الأمر أن يُستثار الناس ويبذلوا هذه الأموال الطائلة لعتق رقبة قاتل؟ هذه الخمسة ملايين مثلاً – جزى الله متبرعها كل خير- كم من أسرة كانت ستطعم؟ وكم مريض ستعالج؟ وكم من فواتير مسكن وكهرباء كانت ستدفع لأناس أبرياء وشرفاء؟
ونأتي للطرف الآخر من القصة، أهل القتيل، والذين إن صح ما يقال من أن ولدهم كان يحاول الاعتداء على طفل صغير، فكان الأولى أن يخجلوا بشدة من فعله، ويتنازلوا بلا مقابل منذ البداية، لعل الله يغفر لهم بذلك تقصيرهم في تربية ابنهم، ولعل الله الرحيم يغفر لقتيلهم بعفوهم عن ذلك الجرم المستقبح في كل دين وملة وعرف ومجتمع وهو الاغتصاب واغتصاب القصر تحديداً، لا أن يطلبوا دية بهذا المبلغ المرهق تعويضاً عن فقدان مجرم لربما كان سيعيث في الأرض فساداً ويجلب لهم العار فيما لو عاش أطول.
أما لو افترضنا أن الشاب بريء، وأنه قُتل ظلماً في مشادة أو خلاف عادي، فحق لهم أن يغضبوا وأن لا يسامحوا ولا يلامون في ذلك فهذا فلذة كبدهم، لكن الشريعة السمحة أعطت لذوي القلوب الرحيمة منهم مخرجاً، فجاز لهم العفو بلا مقابل وأجر ذلك عظيم جداً، وجاز لهم أيضاً أخذ الدية التي قد تساعد أولياء الدم على تكاليف الحياة لا سيما وإن كان القتيل معيلهم الأول، ولم تشرعها لتكون مصدراً للثراء والتفاخر واستغلال حوائج الناس.
هل يعتقد البعض بأن المبالغة في الدية فيها إظهار لعظم المصاب بالفقد؟ أو أن فيها إظهاراً لمدى “غلاوته” على قلب أهله؟ أو مدى مكانتهم ومكانة قبيلتهم بين القبائل؟ وهل قيمة الإنسان بالفعل بالملايين؟ أموال الدنيا كلها لا تعوض عن فقدنا لعزيز، بل إن مجرد قبول هذه الأموال الطائلة قد تجعل الكثيرين يشعرون بأنهم قد قايضوا حياة أحبتهم بثمن بخس، ولا أظن بأنهم سيكونون قادرين على صرفها إلا في وجوه الخير، وفي عمل الصدقات الجارية، وإلا هل يطيب لأب أن يشتري لنفسه سيارة أو قطعة أرض أو منزلا بأموال دُفعت تعويضاً عن دم ابنه؟ الاستثناء الوحيد هو أن يكون المرء شديد الفقر معتازاً لها لمأكله أو مسكنه، فحتى الفقير لديه قلب وعنده كرامة.
نأتي بعد ذلك لدور المجتمع، فأين دور الوعاظ والخطباء والفقهاء والعلماء في تقبيح فعل المبالغة في الديات؟ خاصة وأنهم كثيراً ما حضوا النساء وأولياء أمورهن على التخفيف من غلاء المهور– التي لم تصل حتى لربع مليون عند أكثر المبالغين من عموم الناس- حتى وصل البعض لأن يجعل مهر ابنته ريالاً، بل ومن تأثير كلامهم قامت بعض القبائل بتحديد مهور بناتها، بحيث لا يتجاوز مبلغاً معيناً تسهيلاً للشباب ومساعدتهم لهم وللبنات على العفة والإحصان، أفليس موضوع المتاجرة بالدماء أولى؟
أستغرب السكوت عن هكذا ممارسات باتت ملاحظة بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وهي ممارسة تؤدي لثراء أراه غير مشروع، بل قد تتسبب في إزهاق مزيد من الأنفس بدلاً من حفظها وهو أعظم هدف من أهداف إقامة الحدود الشرعية. فمثلاً لو أنني شخص يعاني من مشكلات اقتصادية، ولدي قريبٌ سأستفيد من ديته في حال مقتله، ولا تربطني به وشائج معنوية كبيرة، فقد أقوم منفرداً أو أتفق مع أقربائي، وندبر له قتلاً بطريقة أو بأخرى – ولن يعدم المجرم الوسائل- ثم بعد ذلك نطالب بالملايين! هل تبدو هذه القصة خيالية وغير ممكنة الوقوع؟ أبداً، فكلنا سمعنا عشرات القصص عن مؤتمرات يقتل فيها الأخ أخاه ويخون الولد أباه من أجل المال، فلا جديد هنا ما لم توقف هذه الممارسة عند حدها وبتشريعات قانونية واضحة.
لا أعرف ما الذي انتهت إليه قصة شاب المدينة، الذي أسأل الله له الفرج من كربته، وأسأل الله أيضاً الرحمة للقتيل، لكن ما أعرفه أن ما يجري حالياً بخصوص المزايدات المليونية على الديات وعتق الرقاب على هذا النحو هو وضع غير سوي ولا يتماشى مع مقاصد الشريعة العليا، وبالتالي يحتاج لمن يتدخل ويضع له حداً قبل فوات الأوان.
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

