تغريدة خارج السرب للشاعر السوري باسم سليمان في ديوانه: “رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام ” مجلة الأقلام العراقية 2025 – وداد سلوم

صدر عن السلسلة التي يشرف عليها الشاعر أدونيس لاستقصاء التجارب الشعرية الشابة والمتميزة، ديواناً للشاعر السوري باسم سليمان بعنوان:                   ”     رأسي البسط ، جسدي المقام

         أنا كسرٌ بين الأرقام.”

عنوان يدير رأس القارئ لاحتشاده الواضح معرفياً وفلسفياً في بيان واسع الادراك لتوصيف الذات وعلاقة الخاص بالعام، وفي تعبير عن موقف وجودي واضح عبر مزج التعبير الرياضي بالشعري مما يوحي بمدى عمق اللغة الشعرية وتمكنها عند باسم بدايةً، واتصالها على مدار المجموعة بالفلسفي والمخزون الثقافي العالي. وليأتي توكيد الشاعر لمقولة النقصان الإنساني لكن خارج التواضع الممجوج وفي صلب الادراك الفلسفي والصوفي له.

ففي الإطار الذاتي نرى تأكيد علو العقل على الجسد، فالرأس مكان العقل حاوي الفكر والخيال يحلق عالياً بينما تشد الجاذبية الجسد إلى مقامه الأبدي في الأرض, ويمتد بين البسط والمقام رياضياً؛ خط مستقيم كأنه الجسر المعلق الذي يصنع عليه الانسان معادلاته الخاصة في درب الحياة المحدود بالعمر الآدمي, في ثنائيات متواشجة ومتعاكسة، متناقضة ومتحدة وتستند إلى بعضها؛ بين الروح والجسد,  الرغبة والعقل, وببن  خلود الفكر والفناء المادي.

وفي الإطار العام يخبرنا أنه الكسر ببن الأرقام الصحيحة المتعالية عن الآني النسبي في سلم الانجاز الفكري والمعرفي المكتمل بذاته. إنه النقصان الساعي والمحرض في متوالية الحياة.

تنسحب عناية سليمان من عنوان الديوان إلى اختيار كل عناوين قصائده فتبدو وكأنها مقاطع شعرية مكتملة وربما تماثل “الومضة” الشعرية فنقرأ مثلاً:

” في الصوت، يجلس الصدى وحيدا ً.”

” سريري كسم الإبرة، أشتهي أنثى كالخيط”

أو “عشاقك صيرهم ثديك أخوة لي في الرضاع”

  ساحباً هذا الاختلاف من العناوين إلى جسم القصيدة حيث يخرج سليمان عن الالتزام بالهيئة الطباعية المعروفة للقصيدة فنجد أنه اعتمد السطر المتصل أيضاً والجمل الطويلة تارة. وتارة اخرى حيوية الحواريات وحيوية البناء في تقديم السبب والنتيجة أو الصورة والانطباع، كما في قصيدة (لا أريد ضمك, أريد تنوينك) حيث اعتمد: المرآة والانعكاس، واللعبة اللغوية لإحداث مفارقته الخاصة.

يقول الجاحظ: “الشعر فن تصويري ” في إشارة لأهمية الصورة الشعرية التي تمنح القارئ امكانية السفر عبر القصيدة وتذوق الجمالي فيها عبر دمج الحواس مع الفكرة / المعنى، والتحليق في الخيال لرفع التلقي إلى ذروة المتعة والجمالية. وهي وسيلة التواصل المباشر بين القارئ والشاعر وأمام الكم الهائل من الصور المتداولة والمألوفة والمستوحاة من الذاكرة الجمعية الثقافية، باتت مهمة الشاعر من الصعوبة بمكان في ابتكار صورة مختلفة تسجل له الحضور بقوة الابتكار والتميز، وتثير دهشة القارئ وتعيد انتاج المتعة لديه عبر تحريض خياله، إن الجدة في الصورة تشكل معياراً حقيقياً يستحق الوقوف عنده.

يسجل سليمان في ديوانه  المنتقى من مجموع دواوينه السابقة ولهذا يمكن اعتباره اختزالاً لتجربته  الشعرية التي تميزت منذ البداية بقدرة سليمان على ابتكار الصورة  واجتراح الجديد  فتعدى التصوير المشهدي إلى الصورة  الثقافية  الغريبة و المحرضة للخيال في حساسية عالية, تجعل القارئ يتوقف عند  بلاغة صورته، مهما اختلفت الفكرة، حتى في الموضوعات المطروقة كالحب والعلاقة بالأنثى و الجسد إذ  تناولها بأسلوب مختلف وزاخر بالصور الجديدة :

أنا سلمك

فلا تحمليني

بالعرض أو الطول

بل احضنيني

كإطفائي ينقذ النار من الماء”

وفي مكان آخر:

القدم لقياس الأفق

القامة لقياس الشجر

الشبر لقياس الشعر

المرفق لقياس الفستان

القبضة لقياس الدمع

الآن في قلب المقياس العشري

قلبك هو الميزان”

 أما من حيث تناوله المواضيع فقد أعاد تعريف الأشياء هادماً ما ثبت في الذاكرة البصرية والثقافية، صانعاً قاموسه اللغوي الخاص المتسع بأدواته لنجد مشهدية مختلفة في استخدامه للمفردات التي تلبس ما يفصله باسم من لبوس جديد: فللريح ساقان كلسان أفعى، والبعد ظرف زمان لامتناع المكان، والياسمينة تنام على استخارة أن تقطعها أنامل الحبيبة، و النهد كمأة تنضج في هزيم الرعد .

 يعتمد الشاعر وهو الذي لم يكتف بالشعر فأصدر روايتين ( نوكيا) و( جريمة على مسرح القباني ) على الجملة الإخبارية بكثرة في إعادته  لتعريف الأشياء بذكاء ونباهة عالية ما يحرض ذهن القارئ للبحث عن جديد الفكرة وجديد المتعة في صورة ممهورة باسمه.

يقول في قصيدته عكاز:

نساء يتمددن في لحم الظهيرة

يحلقن بالضوء زغب الظل في إبط المسافة

والعرق بخور في مجامر الرجال”

ويقول في قصيدة اخرى:

 “نهدك عقرب الثواني

ألدغ به دقائقي وساعاتي

أطرد به هذا الزمن الحرون على اللقاء”

أو ” أذكر سريري كحد سيف الساموراي

وقد كنتِ حجر الشحذ”

يقول شربل داغر “الشعر فعل ثقافي” وفي بلاغة الصورة عند باسم تأخذ المعاني طريقها المختلف القوي حيث يتمادى الفلسفي تحت جلد اللغة التي تلعب بمهارة في اتيان المخزون الثقافي لدى الشاعر والذي نلمسه أيضاً في غزارة انتاجه الصحفي ودراساته المنشورة لتواكب الثقافة قدرة إتيان اللغة بمهارة الدلالات، لنقرأ مثلاً:

“الظل فعل ماض ناقص

قمر يتمشى إلى محاقه.”

صورك قصر بناه سنمار

كعاشق منح الشعر حجر السر”

هكذا نلاحظ كيف شكل سليمان معجمه الخاص على المستوى اللغوي والمستوى الشعري والمعرفي دون الوقوع في الإلغاز الممتنع وهو حين أعاد تعريف المحيط من كائنات وأشياء, أعاد  الاعتبار للثانوي المنسي  والمهمل وللقبح المكروه في ارتباطه العضوي بالنقيض، وما خرج عن الذائقة الجمالية المألوفة  فاظهر للقارئ ذلك الجمال المخفي  بدءا من الأشياء الجامدة إلى الكائنات والتفاصيل الانسانية التي عف عنها الشعر وغض بصره لاحتفائه بالجمال الواضح بينما يؤكد باسم تلازم القبح مع الجمال  والجوهر في كومة المنسي والقدرة على اكتشاف مواضيع جديدة للقصيدة  وإبراز قدرة الشعر والشاعر على  الكشف  فيما نسيه وتعالى عنه الآخرون:

 يقول :

الصبار كائن الوحدة، لم يحدث ان عانقه أحد

حتى ثماره الشهية تقطف من بعيد”

قد ينفع لوح الصبار كدريئة للتدريب على القنص

هكذا كان النبي أيوب متروكاً لمكر الشيطان

الصبار ليس شجرة لتلصق به الخطيئة

بل هو المغفرة التي زرعها الله على حدود البستان”

في الديوان قصائد كثيرة تخاطب الأنثى، شريكة الحب والحياة والتي تشكل العلاقة بها جسداً وروحاً زاوية للنظر إلى العالم.

يقول في قصيدة الأمل يتغذى من خيباته:

“أفكر كيف أن اللغة في الحب أول العذال

أفكر إذ أنت هنا

أنني لا أفكر بل أنظر وبين الفكر والنظر

مسافة من قمر “

الأنثى الشريكة والند في القصيدة تملي عليه كشهرزاد وهو إذ يستمع إلى الحكاية، يستنطق أبطالها بينما تقوم الحبيبة بإعادة حياكة خيوطها من جديد بصوت الأنثى:

“في الهواء حياة كاملة تمر النساء عبر النسمات

فيركض الرجال مع الريح، وفي العاصفة هناك حفلة رقص.”

الأنثى تدعو للحب وتدرك ما تمنح وما تغير في الرجل الحبيب وهذا ما يلمح لقدرة سليمان على استقراء شعورها والتعبير عنه في قصيدته في قدرة لملامسة الحالة الشعورية للأنثى والتعبير عنها شعرياً، ما يعكس رؤيته للمرأة، وللحب، وللجسد الحامل المكتمل ليس فقط بالرأس بل بالجسد الاخر للخلق والاستمرار، والأنثى ككائن شريك ممهور بالحب والجمال.

يبرع باسم بإتيان الدهشة والانتباه على وجه القارئ فقصيدته تعلق بالذاكرة لمفارقتها السائد ولاحتشادها بالفكرة والتجديد، بالحاسة والمعنى وبالذكاء المتلفت لما حوله بعين ناقدة ومتبصرة وحس جمالي يسجل له يقول:

 لا تقل قبراً’ بل حفرة هكذا تخدع اللغة، وتصبح الجثة شجرة.”

 خرج سليمان صاحب (مخلب الفراشة) من حالة التجريب إلى تحقيق الفرادة واكتمال الأدوات، قال عنه أدونيس أنه لا يشبه أحداً من الشعراء وشعره يخط طريقه الخاص والفريد، فقد حقق قطيعة جمالية وشعرية عن السائد من الشعر في جيله. ولهذا كان فاتحة الإصدارات التي أتت على شكل سلسلة، إذ يمكننا القول أنه من التجارب الشعرية المعدودة ذات الصوت المتفرد.

وداد سلوم شاعرة وكاتبة سورية

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 27, 2025 13:32
No comments have been added yet.


باسم سليمان's Blog

باسم سليمان
باسم سليمان isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow باسم سليمان's blog with rss.