حقوقُ الإنسانِ والعقلُ السياسي التحديثي

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

ترتبط مفاهيم حقوق الإنسان بالدولة العصرية والحداثة والديمقراطية، وبأشكالٍ تاريخية متنامية، فهي ليست نصوصاً مطلقة ولكنها حقوق سياسية واجتماعية مرتبطة بنزاعات اجتماعية جرت في الغرب أولاً.
كانت حقوقاً أولية ثم تنامت بشروط إجتماعية تاريخية كذلك، وأهمها وحدة الشعب الذي تجري فيه هذه العملية الحقوقية الديمقراطية، وقبول كافة الطبقات المختلفة بفصل المعتقدات الدينية عن العملية السياسية، وتحول الاختلافات إلى برامج سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية، وتبادل السلطة بين هذه الأقسام المختلفة.
هذه هي ذروة حقوق الإنسان في البلدان الغربية بعد قرون من التحولات السياسية، ولم تكتمل تماماً لأن مسائل وعلاقاتٍ جديدةً تظهرُ بشكل مستمر، كهجرةِ سكان العالم من العالم الثالث إليه، وتنامي المعرفة بالإنسان والكائنات التي تشاركه الحياة، كالبيئة وحقوقها والحيوانات وحقوقها، فحقوق الإنسان لا تنفصل عن مسئولياته، وغداً حتى الكواكب المغزّوة سوف تكونُ لها حقوقها!
والحقوق تتضمن الواجبات بشكل مضمر، لأن فصل الشعارات الدينية عن السياسة، يتطلب سياسيين من نوع جديد، من نوع قد هضم الأديانَ وأبعادها، فالأديانُ منظوماتٌ فكرية اجتماعية لم تشهد حقوقَ الإنسان المعاصرة، وأشكالها المحددة الدقيقة، فإذا رجل الدين تقدم للبرلمان بنفس عقلية إجهاض الحقوق المعاصرة، فقد أخل بواجبه الديني وبواجبه السياسي الحديث. فهو لم يتطور على صعيدي فهم الدين وأبعاده العميقة وفهم السياسة المعاصرة، فإذا طالبَ بتطور البرلمان فيجب أن يلتزمَ بسلامةِ أرواح الناس وعدم نشر العنف واستباحة الممتلكات والمؤسسات الأجنبية كالسفارات ودور العبادة للأديان الأخرى فيقومُ بنشرِ الكراهية والازدراء لها.
السياسي المسئول الحكومي هو نفسه مسئول عن حقوق الإنسان، ومراعاة المعايير الدولية لتطور المؤسسات البرلمانية عالمياً، وتصاعد المعايير الحقوقية ذات المضامين الاقتصادية وليست المجردة والكلمات العامة المطاطية القابلة للتفسيرات الغامضة، فإذا الحقوقُ الشعبيةُ لم تصل للقمة العيش والحريات السياسية والاجتماعية والعمل والمنزل والتعليم والثقافة فهي كلماتٌ إنشائية، فحقوقُ الإنسان في عالم السلطات أكثر دقة وعمقاً واتساعاً فهي التي تصل للمال العام وفوائض الشعوب الاقتصادية وتوزيعها العادل.
لكن السياسي المعارض بالمقابل تتطلب منه الأمور نفسها، أي أن يغدو محافظاً على كلِ روحٍ وكل قطعة نقد وطنية وكل مصباح وكلِ قلامةِ ظفرٍ من كائن!
إن حقوقَ الإنسان شيءٌ سياسي تاريخي، وليست منزلةً من الهواء، حق الحكم الديمقراطي يقابله واجب المعارضة في احترامه، والاختلاف ووجهات النظر المتباينة تحلها حقوق الإنسان المفهومة بشكل متبادل. ولهذا فهي مرهونة بمدى قدرة المعارضات أن تكون وطنية مرتبطة بقرارات شعبية داخلية، وتتجسدُ في مؤتمرات حزبية، لتظهر حقوق الإنسان في هذه المنظمات، وأن لا تكون مختطفةً، وأن يتحول الكمُ الحزبي غيرُ المنظور والمختطفِ إلى جمهورٍ أهلي واضح المعالم، بيّن السمات، يعبر عن نفسه، ويطالعُ كلَ وجهات النظر، ويقرأُ كلَ الجرائد الوطنية.
عمليات حقوق الإنسان المؤدلجة لدينا تحولت إلى تفكيك واسع النطاق لمجتعنا الوطني الصغير، فهي هدمٌ للمنظمات السياسية والاجتماعية والثقافية، وغاب التسامحُ الذي هو أساس مضمون حقوق الإنسان، وانتشرت الكراهية السياسية الفجة.
المرجعيات السياسية للمطالبين بحقوق الإنسان يجب أن تُدرس، فإذا كانت المنظومات الفكرية لهذه الممارسات السياسية لا تعترفُ أصلاً بوجود الإنسان وتعتبره مجرد أداة رخيصة، فكيف يمكن تجسيد حقوق الإنسان وتوطينها محلياً من دون حنكة القوى السياسية المخلتفة وصبرها على العمل النضالي الجماعي في كل الأطراف؟
فلابد من العمل على إعادة النظر في هذه المنظومات الفكرية الملغية لوجود الإنسان، وتجسيدها محلياً عبر نقد تاريخ التنظيمات والإدارات على مدى العقود السابقة، وإحداث مقاربات وطنية بين كل الأطراف، فالحقوقُ ليست في جهة واحدة، وليست الواجبات على جهة واحدة، وهذه أمور لا تقوم بها سوى جهاتٌ اعتبرتْ المصلحة الوطنية العليا بوصلتها، وهي موجودة رغم تبعثرها وبطء نمو وعيها وإرادتها لسوء الفهم بينها، وجعلت من الإنسان الحقيقي لا الوهمي غايتها.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 31, 2025 13:27
No comments have been added yet.