فصول من رواية عنترة يعود الى الجزيرة لـ عبـــــــدالله خلـــــــيفة

تبيان

الناقد ذو الرأس الفارغ يضع  رواية «عنترة يعود الى الجزيرة»، الصادرة سنة 2011، ضمن الروايات التاريخية لعبدالله خليفة فقد اعتقد ان عنوان الرواية «عنترة يعود الى الجزيرة» بأنها رواية تاريخية ولأنه الناقد ذو الرأس الفارغ، لم يقرأ الرواية وان قرأ لا يستوعب ما قرأ والسبب الفراغ الذهني والعقلي للناقد ذو الرأس الفارغ!

رواية حداثية تتقمص شخصية دون كيشوت بشخصية عنترة النموذج لبطل الرواية هلال العبسي للعصر الحديث وهو يعود الى الجزيرة  بقيم الفروسية، مثله كمثل دون كيشوت..

1

كان للصحارى وجيبٌ خافتٌ وهي تصحو على الفجر ، سكونـُها الطويلُ الهادئ إنقشع ، وجاءتْ آلاتٌ وبشرٌ من ما وراء البحار ، الرمالُ التي كانتْ تتحركُ كيفما تشاء حُجزتْ بشجرٍ شوكي وبدروبٍ سوداء وأسلاكٍ وأحجار ، والكثيرُ مما يُرى من قوافل الإبل تلاشى ، وتحركتْ كائناتٌ حديديةٌ سريعةٌ مثل البروق ، لها صخبٌ وأنينٌ معدني رهيب.

البلدةُ الراقدةُ قربَ الشواطئ ذات البيوتِ الصغيرة المتلاصقة المسماة (سبخة) ترامتْ في البادية وسارتْ نحو الساحل الطويل الذي لا يُرى طرفاه.

التلالُ الرمليةُ الشاسعةُ المتحركةُ من أقصى الشمال للجنوب هدأتْ والتصقتْ بالتراب.

 وهو الذي كان يحدو ويشدو على تلك الطعوس محاولاً أن يكون شاعراً لم تواكبهُ تلك الرمال ، وجدها تتحولُ إلى مادةِ بناءٍ صلبة ، وتأتي الشاحناتُ وتقبرُ بطونـَها ، وتأكلُ أجسادَها الشاسعة ، فإذا هي أرضٌ جافة ، وإذا بلدةٌ كريهةٌ تظهرُ بين نزيفٍ وولادة ، وإذا بيوتٌ قميئةٌ تترامى في كلِ اتجاه ، وإذا الدروبُ الخمسةُ التي تتفعى بينها،  تصبحُ شوارعَ ذات قشرة سوداء ومصابيح معلقة فوق أعمدة حديدية صلدة موحشة.

وحينئذٍ تاهتْ القبيلةُ العبسيةُ في شقوقِ الحجر ودخلتْ غيرانَ الأحياءِ ودكاكينِ الذهب والقماش والخضار ، والفرسانُ الذين عبروا الصحارى ، وأكلتْ منهم السيوفُ والرمالُ والأنعامُ ، وراسلتهم الأقمارُ والنجومُ ، سقطوا عن ظهورِ جيادهم ومشوا بين الأثلِ والأغنامِ ، والخيامُ التي كانتْ مفتوحةً للهواءِ والفضاءِ والحكاياتِ المثيرة ولبكاءِ ونداءاتِ الربابةِ غدتْ مساكنَ مثل الكهوف.

والراوي الذي كان رجلاً فتياً ينشدُ ويشعر ويغني غدا فجأة كهلاً وأعمى.

ولم يَعرفْ رجالَهُ الذين بدلوا ثيابهَم الناصعةَ رديفةَ الضياءِ بملابس غريبة موزعة بين نصفين أسفل وأعلى ، وراحوا يركضون بين براميلِ الزيتِ الأسود والأسفلتِ الحار على الأرض ، والأحجارُ التي أُلقيت في البحر وكونتْ شريطاً من كتلٍ مدورةٍ تجمعتْ وغدتْ ألسنةً في المياه ، يركضون ويمشون فوقها حاملين الصناديقَ والأشياءَ نحو السفنِ الخشبية التي تترجرجُ فوق المياه بأشرعتِها الكبيرة.

وعيونُ القبيلة ، رجالهُا الكبارُ اللوامعُ ، نزلوا للثرى ، وخالطوا الأغرابَ وأعشابَ الأرض ، وتراكضوا بين ألواحٍ وصناديقٍ وسلع ، وانحشروا في عماراتٍ مفتوحة تبيعُ الأشياء ، وغرقوا في طوفانِ المعادنِ الصغيرة الزاهية والأوراقِ والفواتير والفرضةِ التي كانت أشبه بصندوقٍ كبيرٍ يجلسُ فيه موظفٌ ثم غدتْ بنايةً عملاقة تحددُ عددَ الموجاتِ والنوارسِ والسفنِ والبشر ، وتستنزفُ المياهَ وأعماقَ البواخر والبلدان البعيدة .

قصرُ الوالي المكون من قلعةٍ عتيقةٍ صار مجمعاً من قصور أُحتجز بسورٍ دائري عظيم.

 صار أغلبُ رجالِ القبيلةِ مترجرجين على القوارب والموج ، جاثمين على الشواطئِ يغزلون الشباكَ والحكاياتِ والمواويل .

هناك يجدهم إذا وحشوه وغابوا كثيراً ، هناك يسكنُ صخبهُ وتتدفقُ كلماتهُ وقصصه ، إنهُ حادي العيس الذي نفقتْ جمالهُ ، وضاعتْ سيوفهُ ، وتلاشت قافلتهُ في السراب .

ماذا يريدُ هذا الليلُ من المساكن الغافية والفرسان الذين سلموا أسلحتَهم للوالي؟ ماذا يريدُ من نشرِ مسحوقِ الوحشةِ في الدروب؟ وقد تجمعتْ هياكلُ الأجدادِ ومعلقاتهِم وأساطيرهم تحت الرمال وأخذتها الرياحُ للمقابر الكونية في الربع الخالي؟!

لم يأتِ الوالي إليه ، بل بعثَ مرسالاً هو أحدُ خدمهِ فقال لأسماء أم العيال:

– لا يَقصدُ أي خير!

تطلعتْ إليه بوجلٍ:

– خلفان أفعى فأحذرْ يا أبا محمد .

– لا توصين حريصاً يا أم محمد .

ماذا يريدُ هذا الليلُ والرجالُ صاروا قطعاناً في حظائر مُعّدة للذبح أو خدماً؟ والخسيس ابن الخسيس صار حاكماً؟ كانت القبيلةُ قد جاءتْ من بين الجبالِ وتلالِ الرمالِ ، من قاراتِ العطشِ والحشائشِ المحترقةِ ومن بحيراتِ الهياكلِ العظمية للحيواناتِ النافقة ، من سواحلِ الأنهارِ التي عطشتْ وتلاشتْ ، وهاجمَها قطاعُ الطرق ، وتوهها السحرةُ المغرضون ، حتى جثمتْ بين أقدامِ الوالي فنزعَ قطعَ السلاحِ وقراطيسَ النجاة القديمة ، وخرائطَ المياهِ والزرع ، وكُتبَ الأسلاف ، وأسكنهم في بقعة جرداء وذات حقول سوداء نارية . في السبخةِ الحارقةِ الرطبة المشتعلة صيفاً ، الموحلة، النقعة شتاءً .

بابٌ وحيدٌ وسياطٌ ومراكزُ شرطةٍ وحينما تفجرَ الزيتُ من الأرضِ زالتْ الأسلاكُ الشائكةُ ولم تأتِ الحرية .

جاء الطارشُ في المساءِ بسيارةٍ وأخذهُ في دروب الصحراء وهو يثرثر .

الدروبُ ليستْ هي الدروب ، ما عادتْ هناك قوافلٌ ، والكهوفُ المليئةُ بالسحرةِ غدت مناجم ، والخرزُ المضيء طريقٌ مبلطٌ لبيت الوالي وقصور عشيرته .

انغمروا في السبخة وعَرق البحر الحار والحاس ، تخدروا بروائح الأسماك ، وامتلأتْ أيديَّهُم بقشورِ السمك ، فأين الطرادُ والخيامُ والغزلانُ والواحات ؟

أُدخل في قاعةٍ كبيرة ، ورأى الحوشَ الواسع المُعَّدَ للعرضات وصولات الرجال ، والحديقة الكبيرة ، وكان المجلسُ فارغاً والسجاجيد الهادئة تقودهُ لغليان الوالي .

قال الكهلُ المزوقُ المتشببُ :

– طلبتكَ طلبة يا أبا محمد إن شاء الله ما تردني !

– خير إن شاء الله ، أسمعها أولاً!

– أريدُ القربَ منك ، أريد أن أتزوج بنت أختك نورة !

كأن هلالاً قد لُسع. لم ينتظر أن ينحشر الوالي في حجراتِ بيته ، ويخطفَ الكائنَ الرقيقَ الرهيف العزيز قربه لسنوات طوال . وحتى لو لم تكن كذلك وحتى لو كانت مخاصمة له ما كان يرضى أن يقربها هذا الرجل .

قال بهدوءٍ مُرٍ :

– والله يا شيخ أنت عزيز وغال ، ولكن الأخت مخطوبة!

صعقَ الوالي أكثر منه . بان ذلكَ في رجفتهِ وتغيرِ لونِ وجهه . ثم في سكوتهِ الذي طالَ وثقلَ على المكان كأنه ما قبل الزلزال .

غمغم:

– خير . . خير . .

في طريقِ عودتهِ المضطرب المتوتر كان الوالي يصرخ بين رجاله :

– هذا الحقير يرفض مصاهرتي؟! أنا شيخ هذه الأرض الواسعة . . من بيده الأرواح؟ والله لأذيقنه عذاباً لم يرْ أحدٌ مثله . ثم أنها غير مخطوبة . . كلُ العيون أكدتْ ذلك . يا ويله يا ظلام ليله!

كان الصمتُ المرهفُ الحد في السيارة وعينا السائق تحدقُ فيه أكثر مما تحدق في الطريق والذئاب الجائعة الواقفة وعيونـُها خرزٌ أحمر .

في البيتِ كانت العائلةُ تحيطُ به مثل سوار ملتهب . أخبرهم السالفة بوجيزِ القولِ حارقه ، فتداعوا على المقاعد بين مرارةٍ وضحكٍ وذهول .

قالت زوجته :

– يا أبا محمد أمامنا مصيبة كبيرة !

قالت نورة باستخفاف :

– كلُ إنسان حر في حياته !

سألها هلال :

– ألا تهفو نفسكِ إليه ولو لحظة ، دعي إنه فعلَ ما فعل بالديرة ، أنتِ أمام اختيارٍ خاصٍ بك ، أمام فرصة مخيفة كبيرة ، فماذا تقولين؟

– يا خالي أنت عبرت عني .

– ولكنك لست مخطوبة أم أن ثمة حباً ما ؟

كان عمار دائم اللقاء به في المقهى وقد ألمحَ إلى شرف مصاهرته !

– أي حب يا خالي !

– لكن أمامك مفترق طرق عسير وخطير !

– يا خالي لماذا تهولها وهي صغيرة ؟ !

حدقت فيها اسماء ، أم محمد ، باستياء وقالت بحدة :

– خطبك خلفان الجزيري وتقولين لماذا يهولها ؟ ليس لك سوى الأزياء والعطور والمجلات !

– لا تقولين ذلك يا امرأة خالي ، فراقك عليّ صعب وأنت التي كنت  . . أمي !

والتفتْ أسماء إلى هلال قائلةً بضراعة :

– يا أبو محمد شوفْ لنا ديرة غير هذه الديرة ، دعنا نرحل قبل هبوب المصائب !

– أين نذهب ؟ هل تعتقدين إننا نقدر أن نظعن بهذه البساطة ؟ هذه الأقدام التي غاصتْ في التراب والروح والوحل والتي ذابت في العشرة والحب الذي أعطانا إياه الناس تذهب هكذا كلها في لحظة ؟ في دقيقةٍ من خطبةٍ فاشلة ومن تهديدٍ ومن رغبة والٍ مغرور ، أين عقلك يا امرأة ؟

– نرحل بالناس !

– الناس . . ؟ أما ترين أحوالهم . . ؟ !

قال محمد :

– لم يحدثْ شيءٌ بعد وأنتم تتشاجرون !

2

وهو يرنو إلى الأفقِ وإلى الصباحِ يطلعُ من البحر كأنه إنفجارٌ من اليقظةِ والصحو والنور ، يطلعُ عليه الوالي كشبح ، كأفعى ساحرةٍ من زمن قديم ، هناك في الوادي السعيد البعيد نزلَ عليهم الخرابُ كعملٍ اتفقت عليه الأعداءُ والأعيانُ والشياطين ، على القبيلةِ التي بقيتْ طويلاً في النجود والبراري ، التي حولتْ لحومَ أغنامها وشعرَ إبلِها وأشعارَ رجالهِا ونسائِها ومطارقَ صناعِها وعيونَ عقولِها إلى كرامةٍ ، إلى حياةٍ حرةٍ وسعيدة ، إلى بحثٍ عن الفيروز ، إلى صوغِ قلائد من الشعر ، إلى أعراسٍ تَطلبُ فيها النساءُ الأزواجَ ، إلى ذكورٍ لا يضعون القيودَ والتمائم والنقود ، إلى قاماتٍ تصلُ للنجوم ، فأقلقتْ الآخرين ، وارتعبَ منها الولاةُ ، فإذا نزلَ العبسيُّ سوقاً أشرأبتْ الأعناقُ ، وإذا طلبَ زوجةً سارعتْ القبائلُ ، حتى تفجرت أحداثٌ غريبةٌ مروعة .

امتدتْ حقولهُا وبساتينُها ومراعيها وآبارُها وقطعانها ومناجمها على مدى النظر ، وامتدتْ شيمُها ومكارمُها لحدودِ السماء !

ذات ليلة ذُبحتْ مجموعةٌ من فرسانِ القبيلة وهي نائمةٌ في البرية ، تقطيعٌ لرقابٍ بصورةٍ وحشيةٍ ولأناسٍ نائمين مسالمين لم تخمدْ نيرانُ سهرتهم تماماً ، وأدى منظرُ الرؤوسِ المتدحرجةِ فوق التلال والبحثُ عنها بين الرمالِ إلى بكائياتٍ مريرة ، هزتْ المشاعرَ وانطلقت مجموعاتٌ الرجال في كل حدب وصوب بحثاً عن القتلة الجبناء بدون فائدة!

خيرةُ الفرسانِ أُختطفوا من بين ضلوعِهم وقلوبهم ، وهجمتْ عليهم بضعُ قبائل صغيرةٍ وضيعة متحالفة كانت تحيا بفضلِ دفاعاتهم عنها وهدايهم لها في أزمنة العوز والجدب ، وسبوا النساءَ وقتلوا الأطفالَ وأحرقوا مزارعاً بشهيةِ تدميرٍ مخيفة !

 كانت الجثثُ تكادُ لم تدفن وموضعُ النارِ في البرية لم تذروهُ الرياحُ بعدْ فجاءتْ الحربُ السريعةُ الغادرة ، وطلقاتُ الخيولِ في الرؤوسِ وبين الجموعِ المذهولةِ وبين المجالس المنصوبةِ والخيام المفتوحة ، تـُلقي بالأجساد على أي رمل أو جدار أو مزبلة ، تنهبُ البيوتَ وتحرقُها بحقدٍ عارم !

شابَ الفتيةُ في بضع سنين ، وكان هلال يكادُ يتعلمُ في حجرة الدرس ، وهو يرى الحشودَ الغريبة تقطفُ الرؤوسَ بالسيوف كما رأى حصادَ القمح ، الجماجمُ تتساقطُ متفجرةً بالدم والثياب البيضاء تلون ، والحشرجات تتصاعد بدلاً من الأهازيج وأغاني الأفراح .

لم يكدْ يبقى شيءٌ في ذلك الوادي الكبير ، مرابعُ الأهل الأولى ، وصرخاتُ النساءِ المغتصبات لا تزال تدوي ، ولكن شهيةَ الانتقامِ لم ترتوِ بعد ، وبقايا الدور والأطلال لم تشفع لهم ، فدخلت دولةٌ مجاورةٌ أرضَهم وحولتْ الأوديةَ إلى مقابر متفحمة ، وقنصتْ الرجالَ كالكلاب والذئاب .

لم تجدِ أيةُ قصائدِ بكاءٍ أو رثاءٍ أو صلواتٍ أو تمائم أو حتى أغاني حربٍ وإنتقام ، لم يبقْ سوى المشوهون والصبية والصبايا المتواريات ، والشيوخ ، وبعضُ النسوة ، وكان عليه أن يقودَ هذا النسلَ الباقيَّ ، هذا الهشيمُ البشريُّ وسطَ الفيافي والفلوات ، تطالعُهم الذئابُ برثاءٍ حيواني غريب، وتتركُ لهم الكلابُ بقايا ضحاياها ، وتطلُ وجوهُهُم في الآبارِ المدفونةِ أو المسمومةِ فترى رياحاً من بشر .

تتراءى له وجوهُ أبيه وأعمامه وهي تلتصقُ بالتراب ، تنزفُ ، في كلِ خطوةٍ يخطوها على بقايا الرمادِ والجلودِ اليابسة ، تسقي الحجرَ فيتأثر ، تسقطُ في الأخاديد متشبثةً بالجذور ، في كلِ الدروبِ المعميةِ يرى ذلك الحصادَ الوحشي ، في كلِ قلعةٍ سامقة على الجبال ، في كلِ مدينةٍ تستقبلُ الرمال ، كان يرى المناجلَ تقطفُ الرقابَ ، ويرى هشيمَ الخيامِ والكلامِ والكتبِ والخيال ، ويسمعُ النداءات من وراءِ القبور .

يتلاصقون في بردِ الليالي القاسية ، يتدفأون بكلامِ الأسلاف ومآثرهم ، يوزعون فتاتَ الأكلِ عليهم ، يحوزهُ المرضى والضعافُ والشيوخُ والاولادُ والنساءُ قبل غيرهم ، وهو وثلتهُ يصومون في أغلب الأوقات ، يتناوبون الحراسة ، ينطلقون طلائعَ لكشفِ الدروبِ ولقراءةِ الآثار ، يقودون الركبَ بين الجبالِ والحياتِ الطائرة ، بين الإبلِ النافقةِ وهجماتِ قطاع الطرق وأحابيل السحرة للاستيلاءِ على الذهب والنساء .

3

في السوقِ الذي سارَ فيه يلحظُ هلالٌ تغيرَ سحناتِ الرجال ، السلاماتُ الحارةُ اختفتْ ، حلتْ محلها همهمةٌ ، أين الكلماتُ الترحيبيةُ والدعواتُ لشربِ القهوة والشاي ؟ كلُ هؤلاء الرجال كانوا من الصبيةِ والأطفالِ الذين قادهم عبرَ الرمال الحارقة ، سيفهُ ومسدسهُ دافعا عنهم ، وانطلق فرسهُ ليرى لهم الطرقَ العمياءَ ، وغرسَهم هنا ، في هذه السبخة التي كانت مستنقعاً للذل وخرائط للأشباح ، قبل أن تكونَ ملحاً وزجاجاً في الأرجل ، صاح في وجه خلفان الجزيري :

– يا طويل العمر نحن نريد هذه الأرض كلها ، سندفنها ونملكها !

– أأنت تتكلم بأسمهم يا فتى ؟!

– نعم !

كان زمانـُها زمنَ الرقيق فزال .

الآن تسودُ المساوماتُ على البضائع ، وغمرتْ أيديَهم الفضةُ ، ومضوا يبنون العمارات ، ويتملكون الأراضيَّ البعيدة، والشواطئَ الضاحكة على البحر . تردد خلفان أن يعطيهم أرض الله الواسعة ، وقال أنه سيفكر ويقرر بعد ذلك ، ولكنه له قال الآن سوف تقول كلمتك وإلا رحلنا من المكان ، نحن أهل عز ، ولم نأتِ هنا إلا لفترة ما ، وبعدها نعودُ لديارنا !

كانت سيوفُهم في مخازنِ الوالي ، وكانت أرواحُهم على أكفِهم ، والطيورُ تحومُ على قبورِ أجدادهم !

كانت القبيلةُ تلك الأيام غير ، روحُها في حريتِها . فأنظرْ كيف تتقلبُ الأيام ؟!

هذا هو جانبهُ من السوق ، سوقُ التجارِ الكبار ، سوقُ الذهب والحلي والجواهر ، يمتدُ في خطين طويلين يشعان بالنور الأصفر ، وتترامى حولهما متاجرٌ وصرافاتٌ تنتعشُ وتـُضاءُ من بريقهما .

المستخدمون جاثمون وراء الخزائن المليئة ، وأصحابُ الحلالِ يجلسون في مقهى كبير حديث قريب .

هم أصدقاؤه الثلاثة المعتادون ، يسبقونه بعض الأحيان على المجيء ، يسترخون من سهر الليالي الملأى بالشهوات والمشروبات ، تهل وجوههم كلما أقبل ، لكنهم في هذا الصباح متجهمون ، يسير نحوهم بترحابٍ وهم يرفعون رؤوسَهم بابتساماتٍ شاحبة ، ثلاثتهم معاً !؟

– خير إن شاء الله يا جماعة ؟

ظافر :

– ما الذي يجرى بينك وبينك الوالي . . أحقاً رفضتَ تزويجه بنت أختك ؟!

سلطان :

– الديرة مشتعلة ، أصواتهُ الحادةُ المنفرة تغلغلتْ بين الناس أكثر من سياطه ، تقولُ هلال مغرور رفضَ النعمة ، وقطعَ اليدَ الكريمة الممدودة الخيرة نحوه !

وليد :

– يا أخوان رجلٌ كبيرٌ كيف يتم تزويجه شابة ؟

لهجةُ الأولين لم تعجبه ، الليالي التي قضاها في التفكير لم تنحُ هذا الجانب ، لم تتوقعْ مثل هذه السحنات لدى رفاق العمر والدرب ، كان يتخيلهم متأججين مثله ، كانت الطرقُ الناريةُ قد صهرتهم في كلماتٍ ومواثيق غيرِ مكتوبة ، انغسلتْ أيديُهم بدماءِ ذئاب ، وقتلى ، وذبائح ، وكانت الأجسامُ الفتية أشد عزماً مسترخصة الحياة الذليلة فما بالها في زمن الخسة والأمراض ؟! الأولان إمتلآ أما وليد فهو الهيكلُ العظميُّ الدائم ، وزجاجاتُ الخمرةِ الأهلية والأكلُ القليل جعلتهُ مثل طائر السنونو وروحه مثل الرعد .

لماذا كلما كبرتْ الأحجارُ والمقاعد والخزائن حولَ الإنسان صغرتْ روحهُ ؟! هل يمكن أن يتغيروا ؟ أن يتركوه وحده يجابه الزوابع ؟ منذ أن تغلغلوا في تضاريسِ الحجرِ والماءِ والذهب وخّفتْ لقاءُاتـُهم ، أخذتهم الأسرُ ومطالبها والأحزان والأفراح الخاصة ، وأخذتْ ذكرياتُ الرحيلِ البعيدة تتوارى وراءَ الكثبان ، وتراكمتْ حكاياتُ وشجونُ السبخة مثل الأعاصير التي لا تهدأ ، ملأتْ وجوهَهم بالغبارِ والملامح الجديدة ، وتراءوا مثل أشباحٍ وأجسام غريبة .

حدقَ فيهم بوجههِ المنفعل :

– ماذا بكم ؟ ماذا حدث لكم ؟ أين نحن مما كنا ؟ هل المسألة هي مسألة ابنة الأخت ؟ ألا نحدق فيما يجري حولنا ؟

ظافر :

– لا توسعْ الشقاقَ يا أخي هلال ، دعنا في القضية الصغيرة تلك !

سلطان:

– انظرْ للرجال والنساء حولنا ، أغلبهم غرباء عن المكان . نمنا طويلاً فإذا كلُ شيءٍ تغير ، حذار يا أخي مما يجري !

وراح الأثنان يثرثران بهدوءٍ ومرح ، مضى يتأمل ظافر كيف دحرجتهُ السنون ، وكيف أصبحَ الشابُ رجلاً كبيراً مكتنزاً ، ومرتجفاً بجسمه ، لم يعدْ يسيطرُ على هيكلهِ المهتز دائماً ، ذهبَ لبلدانٍ عديدة ليضعَ حداً لهذه الاهتزازات ، ذهب لأوربا واستخدم العلاج الحديث المتطور ورجع أشد بياضاً ولكنه أكثر اهتزازاً ، ذهب للصين وغرزوا الإبر كغابة في جسمه بلا فائدة ، الكوب يحملهُ بيديه الأثنتين ، وتركَ السجائرَ والشرب ولم يحدث تقدم له ، حتى ذهب للسحرة .

وسلطان اتسعت ابتساماته وازداد دماثة ، ولكن أينه من السابق ؟ أين اهتماماته وقراءاته وروحه المتوثبة للجدل والبحث ؟! شربٌ وسهرٌ ولهو مع نسوة متبدلات مثل الطقس ونهار بمزاج سيء وشجارات مع الزبائن ، وخمول ، وحين تتفجر الزوابع في المدينة وتترسم على الوجوه ينأى بنفسه ، رغم جثوم الجرائد المستمر في النهار على الطاولة وتقليبه صفحاتها بشكل مهووس ؟! أهي النقعة التي غاصَ فيها وحنَّ للأيام الأخرى ؟ يا لرائحة الذل !

أما وليد فهو في الصباح قالب من الثلج وفي الليل قطعة من جهنم .

ظافر:

– لماذا لا توافق على عرض الزواج ؟ هذه فرصة عظيمة لك !

سلطان:

– أجل ، أجل يا أخي سوف نخففُ من شرورِ خلفان على الناس .

وليد:

– ليس هذا زواجاً بل إذلالاً ، ليس المقصود ابنة الأخت بل الخال !

4

في هذه الصحراءِ روحٌ من الأسلاف ، إمتدادتـُها الفضيةُ زجاجٌ من نور ، مادةٌ للأئمةِ الأطهار وللسليكون وعصر الفضاء .

يقود مدرسهُ ديفيد الجيبَ بتروٍ ، بانبهار ، إنه لا يشبعُ من رؤيةِ الأشجار الوحيدة المتباعدة ، ومن تلمسِ الأعشاب ، ومن قراءةِ الأذكار والأشعار ، في الصف هو جديٌّ وصارمٌ ، وهنا في فضاءِ الحريةِ الرملي هو ضاحكٌ وأنيس ، يجثمان قرب تلة ويحدقان بالامتداد الرهيب .

يدخنان السجائرَ ويسمعان الموسيقى ، يقولُ ديفيد :

– كما قلتُ لكَ يجب أن لا تتحدث لأحدٍ عما نقوم به .

محمد :

– يا أستاذي ما نقوم به عادي ، وأستغرب كيف ترفض أن يحضر آخرون من الطلبة ؟!

– هنا يفكرون في أي شيءٍ بشكلٍ غريب ، يحاصرون كلَ نبتةِ حب ، كلَ رفة فراشة نحو الضوء.

يغرقُ في الورق ، يرى المدى الواسع ، حَطابٌ في غابةٍ ناضجة ، روحٌ هائمةٌ شغوفةٌ وحيرة كبرى ، ينتصبُ مصلياً لهذا الرجلِ العملاق ، يفتحُ له الأبواب ، ويدهشُ من عالم السحر ، في كلِ درسٍ يفاجئهُ بجديد ، عندهُ كنوزٌ يخرجُها في كل يوم ، وهو يدفنُ نفسَهُ في أعشابِها وزهرها .

صارت السماءُ سوداءَ مكفهرةً وتفجرتْ رعودُها وسالتْ المياهُ الغزيرة في الوادي ومضتْ السيول إليها ، منحدرةً تهزُ الحصى ، وتنزلُ بهدير ، والشآبيبُ والفقاعاتُ مثل رغوة شراب عارم ، الأرضُ تسكر ، وترتدي العشبَ والأزهار والفراشات ، وتظهرُ الإبلُ الحرةُ ، وتتوالد وراءها القبيلةُ القادمةُ من الماضي ومن مستنقعات الأشباح .

ديفيد يُخرج الزجاجةَ ويشربُ ويرفعُهَا إليه متسائلاً ، فيرتشفُ منها القليلَ المروعَ المنفجرَ في الحنجرة ، المسربلَ الذهنَ أرديةً ممزقةً من شظايا الصور ، وأقواسَ قزح ، وضجيجَ الحورياتِ في السماء ، فيخالُ نفسَهُ عصفوراً في المطر ، ونسراً يحلق نحو عرش ملكة العسل.

تلك الحكايات التي لا تنتهي ، من الراوي الأب ، قاب قوسين أو أدنى من الخرافة ، وقد تفتقتْ ذكرياتُ الرواةِ الآخرين ، ولا يُستدلُ منهم على حقيقةٍ متفقٍ عليها ، أضغاثُ أحلامٍ من بطولات ، ومملكةٌ هاربةٌ من العقل ، وأبوه يُذهل من تحجره ، ويصرخُ فيه : (أتنكرُ آبائك وأجدادك ، وبطولاتهم العظيمة ؟!) ، وهو يتطلعُ من النافذةِ للحي البليد، وللشجارات ، وحشود الغرباء تـُسحل وتشعلُ النيران ، وهم مكتنزون في المتاجر والمقاهي ومخدرون بكل أنواع المخدرات ؟!

يمضي ديفيد بالجيب الذي يدغدغهُ المطرُ ، هذه السوائلُ النقيةُ البيضاء ، تلتمعُ بالضوءِ الصناعي والسماوي ، ويشخبُ الترابُ ويغني ، والبريةُ مملكةُ السحرِ الأزلي ، في الماضي صنعتْ الأنبياء والآن تصنعُ الحياتَ والبوم .

ديفيد:

– يا لأرضكم الجميلة ، قمْ نمضي في أزقتِها الملعونة !

بيتهُ أختارهُ على تلةٍ يُعطي ظهرَهُ للمدينة ، ودونهُ النثرُ المنزليُّ مكسورُ الأسنان ، حيث العمارات والمنازل لوحةٌ مجسدةٌ للقبح ، والرجالُ بثيابهِم البيضاء الموحدة كأنهم جند ، أين هم من البرية المتعددة الألوان ؟

منزلهُ تحفةٌ ، سرقَ أصنامَ الأرضِ وحليَّ نسائِها القديماتِ اللواتي لا يزال جمالهنَّ يشعُ في الفضة، وفي قرونِ الثيرانِ المعلقةِ أهازيجٌ وأصداءُ معاركٍ ، وثمة قراطيسٌ للمعلقاتِ تنهضُ الكعبةُ فوقها ، والمقاعدُ اشتراها من الحرفيين الذين رحلوا قبل سنوات وبقيتْ أصابعُهم المقطوعةُ في خشبِها القوي ، والسجاجيدُ فعلُ نساءٍ مقوساتِ الظهور تجمدنَّ هناك إلى الأبد ، فيا لجمالِ الأرضِ التي كانت وبشرها الطيبون الساذجون !

لا يزال ديفيد يغريهِ بالشرابِ وقد غدا الآن ضحكةً من ضحكاتِ العنب ، لكنهُ قادمٌ من هناك فيما وراء البحار ، ليقضي على آخر قطرة من العقل ، ويبهجُ الروحَ الميتة !

دق الجرسُ ودخلت جانيت ، عانقتهما وشم هو رائحة المطر العابث بالأرض والجسد ، يا للأغراء الوحشي في مملكة الملل ، جلستْ عاصفةً وارتوت ، وراحا يتحدثان في لغتهمِا المشتركة ، وهو يلتقطُ رذاذاً ، ثم التهما بعضهما قبلاً ، ونظرت إليه بنظراتٍ فتاكة ، وهو الغريبُ في أرضه ، فاقد الحنان ، صنعتهُ آلةُ خشبٍ وقُذف في العالم المضجر ، ولا يستطيع سوى أن يتمنى وصالها وهي صديقة أستاذه.

5

احتضنها بقوة ، نورة منتشيةٌ بين أحضانهِ ، في شقتهِ المطلة على البحر ، في بناية مثل الرمح ، ثم تركها على الفراش مغسولةً بالعرق موزعةَ الثياب بفوضى الشهوة .

عمار :

– يا نورة أرجو أن لا تأتين ثانية . المكانُ مراقبٌ من الأهل والعيون ولجنة الأمر بالمعروف !

– لقد مللتَ مني ، أليس كذلك ؟

– لا ولكن . . المكان . .

-أحس أن ثمة شيئاً يتحرك في بطني !

– كنتُ محتاطاً فكيف حملتِ ؟ !

– لم أتأكد بعد ! ولكن كيف تهجرني ؟

– لا أمل لعلاقتنا ، أهلي لا يوافقون على الارتباط بك !

في اللقاءات الحانية النارية الأولى تسللتْ من بين الظلام والدروب الملأى بالمناظير ، عواصفٌ حميمةٌ تحرقهما على الشواطئ المُراقَّبة، ومصابيحُ الشرطةِ تثقبُ الوجوهَ والسيارات ، وينطلقان في العربة وهما في هياج ، الهواتف تشتعل وتصم الآذان ، والجسدان العاريان لا يكتشفان الملل ، علاقةٌ منصهرةٌ بين النور والظلام ، والشابُ يشعرها بجِمالها الداخلي ، ورضابها شرابه ، وضوءُ بشرتهِا شمسه ، يصنعُ الأشعارَ والأقمار لها ، فكيف يطلبُ منها الرحيل؟!

هل وقعَ زلزالٌ ما وأُستبدلتْ الحدائقُ بمغاراتِ السحرة ؟ أم صارت المعادن الخسيسة معبودة ؟!

(هيمنْ علينا وقتْ ضاري

وصارتْ الحياتْ بين المهودْ والحواري

وشتقولْ يا خوي في ألم مهب طاري نزلْ علينا مثل الجلاميد السود ؟ !) .

غابةُ الجدرانِ والعباءات والأقنعة تأخذُها إلى غرفتِها ، يتراءى لها ذلك الجسدُ المكشوفُ الدامي ، رجالٌ عملاقةٌ امتدوا للسماء العارية، وتدلتْ شموسٌ ممزقة ، وانتشرَ صراخٌ رهيب ، وصوتُ خالِها هلال يدوي ويغرق ، وكلما سألتهُ عن طفولتِها وتلك المسيرة المتعبة الغريبة ، صمتَ طويلاً . كانت تهذي : أين أمي ؟ أين أبي ؟ كانت تسمعُ من الفتيات حكايات أخرى عن طفولاتهن وعن الأسماكِ التي تجلبُ لهنَّ الخرزَ السحري ، والأمراء الذين يدقون شبابيكهن بالورد ، وهي لم تسمع حكاية بل كانت هي الحكاية الذائبة في الأصوات المخيفة .

تهجمُ على عمار منفجرةً مروعة :

– لا حياة لي بعدك ، ماذا عملتُ لك ؟ أي خطأ قمتُ به !

– لم تقومي بأي خطأ . هل يخطئُ الملاك ؟!

– إذن ماذا حدث ، قلْ لي ، أنتَ تذبحني بألغازك !

– لا أستطيع ، لا أستطيع !

وجههُ مكفهرٌ ، يأكلُ أصابعَها قبلاً ، ويذوبُ بعد ساعات في الغياب ، يتلحفُ برداءِ الظلام وهو يأكلُ البدرَ ، يغادرُ الشوارعَ المضيئةَ والحكاياتِ الصحراويةَ المسافرة ، ويتوارى ، يتركُها في غرفتِها تأكلُ نفسَها ، وخطوطه غدت مقطوعة ، وهي تتغذى على لحظاته ، تاركةً الجنينَ يموتُ بجوعه .

6

المجلس الذي كان عامراً فرغَ من الأنفاس . وبالصحبةِ القليلة تكلمَ عن الأرض ، بعضُ البحارةِ الذين لم تخطفهم أسماكُ القرشِ وتبتلعهم العواصف ، بعضُ التجار الذين لم يذوبوا في الوهجِ الحارق ، الأصدقاءُ الثلاثة الحميمون ، زوادةُ رحلةِ العمر الضارية ، رأوا الترابَ الذي يُباع ، وتلالَ الإرث تـُسيجُ بالأسلاكِ الشائكةِ وتـُوضع عليها الأبواب، والآبارُ والسواحلُ والمنتزهات والمناجم التي تـُخطف من بين الأوراقِ والشهود ، والناسَ التي غُيبتْ في الشهوات والصلواتِ والغرفِ والأدخنة .

(الأفواهُ ماتت ، ماذا تريد أن نقول ، ماذا تريد أن نحرك ، نحن متحرقون للذهاب إلى الخمارات السرية ، للطاولات الخضراء ، ماذا تريد من هذا الكلام الذي يحرقُ صدرك ؟ تعبنا من مسيراتِ الأولين ، صديقاه صمتا ، وظلَّ وليدٌ يهبشُ في ترابِ الأرض ويلقيهِ على الوجوهِ التي استحالتْ منحوتات غابرة ، ظهرَ أطفالهُم وهم يلعبون بالعظام ، صعدتْ النسوةُ بعباءاتهن وأقنعتهن يؤدين أدوارَ الجدبِ المستمر ، وتكشفتْ الدروبُ عن سيادةِ القطط وبراميل القمامة الممتلئة ، وصيحاتِ الأشباحِ وهي تكسر الأبواب ، ودروسُ وادي قبيلة عبس لم يحضرها أحد .) .

خرجَ إلى الهواء الطلق ، رأى صديقيه يركبان عربتين  ويقتحمان الظلمات بأضواءٍ ساطعة ، ومشى الصيادون ولم تزلْ روائحُ الشباكِ عالقةً في الهواء ، ورنتْ في سمعهِ بقايا مساوماتِ التجار على الظلالِ والنور ، ولم يبقْ له سوى وليد الذي سارَ نحو الخمارة المتوارية في الأرض، يسكرُ مع الجن ، ومضى معه شاعراً بوحشةٍ كونية ، يتطلعُ إليه وهو يضحك :

– هل لكَ في المصائبِ تسليةٌ ؟

– أجل ، إنها تملكُ بعضَ الضوء .

لا يجد منه سوى سطرين من الصحو قبل أن يغفو في بحيرة الزَبد البيري ، في هاتين اللحظتين الثمينتين ، يرى كيف تمضي عائلتهُ في دروبِ الخطر ، وترتعُ سبختهُ في عالمِ الجدبِ الفاتن ، ويقاوم أصدقاؤه في الغرق ، أيديهُمُ ترتفعُ عن الموج ، وأصواتهُم تتفجرُ وهي تبلعُ المساميرَ ، وهو يلقي أطواقَ النجاة التي لا يأخذُها أحدٌ ، فليشربْ ويرتعش ويحكُ مصباحَهُ الصدئ ، وليرقص فرحاً في المقبرة ، فعلاء الدين مات ، يتعانقُ مع وليد في المشرحة ، ويأكلُ قليلاً والآخر يأكلهُ بثرثرته ، ويندفع لبيته ليتأكد من عدم خطفه ، فيرى مصابيح الأسرة مشتعلة مع الورق ، وأسماء معدة وجبته ، والأسرار كلها متوارية .

في الصباح يُفاجئ بالشرطة على الباب . قبضاتٌ صلدةٌ تزيدُ صداعه . الذهولُ يقتحم المنزل ، ابناه وزوجته ونورة يتدفقون عليه ، وهو يردد (ثمة خطأ ما !) ، المخفرُ هوةٌ كبيرة ، ومديرُ محلهِ موقوفٌ هو الآخر .  زبونان يقدمان ذهباً مغشوشاً باعهما إياه ! يدخلونه الحجز .

كان لا يزال في خدر البارحة ، ضبابُ الليلِ ينقشع ، تلك الخيوطُ الواهنةُ من الرفقةِ والأحاديث والفرح ، لم يبقْ سوى الحجر الصلد ، جدرانٌ نتنةٌ مأوى للفئران والوزغ ، أرضٌ وسخةٌ عطنة ببولِ الضحايا الكثيرين الذين نزفوا هنا ، والباب حديد وفيه قبضة أسياخ للنظر والكلام .

روحهُ كلها موجهة للذهب الزائف . عيونُ فهد مديره الوفي تتراقصُ على مدى الأفق . لم يكن له عرقٌ ينشفه . يطيعهُ كأنه ابن له . هل كان يغشهُ ويسرقُ الزبائن ؟ هو الذي يشرفُ على المعمل ، ويتأكد من عدم إختلاط المعدن النفيس بالشوائب . كان فهد من هؤلاء الذين عرفوا الماضي واكتووا به ، فإذا خانه فسدَ كلُ شيء ! إذا الذهب تغير ماذا ستقول ؟!

هو في قبضةِ الممرات القذرة ، حين يصحو في الصباح ويرى هذه الجدرانَ التي لم تـُنظف منذ بناء السبخة ، تهمدُ الأشعارُ الأولى في نفسه ، يقف الخبزُ بين أسنانه ، في قبضةِ هذا الرثاثِ من الأشياء والبعر الذي وصل للحصى والوسائد ، الصانعة للكوابيس ، ويُذهلُ من ضحكاتِ وصرخاتِ السجناءِ العابرة للأسى وحديد الوقت .

وما أسرعَ ما دُحرج في قضيته ، وُضعَ في عربةِ بناءٍ وقُذف في وهجِ الأسمنت والرملِ المعجون، ووقعَ في أحضانِ الخلاطة ، يتقلبُ مذهولاً من الكلامِ واللحى الكثةِ والأثواب البيضاء الناصعة وهي تثرمهُ كخيارٍ هش ، الأدعاءُ والمدعون والقضاة والمحامي عجينةٌ واحدة، ويُدهشُ من غياب الفروق بين عفونة الزنزانة و تسمم الدروب والمباني.

عائلته تجري خلفه وهو يُسحب في الرمضاء المدنية ، يأخذُ أصابعَهم المقطوعةَ لليلِ مكانه ، ويلاحقُ حالاتهِم قاذفاً بالتوجيهاتِ والأرشادات ، سائلاً عن أشياء لم تخطر لهم على بال ، ويهمسون له لكي ينسى همومَهم ، ويرسل ولديه حماماتِ زواجلٍ لأصدقائهِ ولا تعودُ برسائل .

ليتأكد بأنه في مدينته نفسها ، في السبخةِ التي غيروا أسمَها في إحتفال وطني ، في الأرضِ التي أُعطيتْ له ، التي ساروا طويلاً ليلتقوا بها ، وقال له شاعرُ القبيلةِ وصاحب أنسابها بأنها كانت مأوى لأرواحِ العبيدِ وعظامهمِ ومن صلابتِها تشكلتْ القواعدَ القويةَ للمباني ، وفي أحدِ كوابيسه طلبَ من ابنه محمد أن يُحضرَ الشاعرَ ليريهِ سبيلَ النجاة، فجلبَ له نعشاً لم يكن فيه سوى عظام وورق محترق .

ليتأكدَ بأن هذه هي مأوى القبيلة ، ذلك الحشدُ الذي خرجَ من الطعوس والكهوف الملأى بالغازات السامة والنيران والبراري المخيفة ، ووضعَ في كلِ بيتٍ معنىً ، وأثراً ، وآيةً ، حتى تآخى البحرُ مع الهلالِ والخيام .

هي نفسها تستقبلهُ شبهَ عارٍ ينزلُ من عربةٍ فخمة من عربات وزارة ، يظهر لونهُا الآخاذُ على ظلالِ ضلوعه ، وظهرهُ الذي لم يعرفْ الماءَ ، هي عيونٌ محدقةٌ به الآن ، تتمتعُ بقوةِ الحجر وكهوف النسور حيث الضحايا المجهولة من الطير .

والجَلْدُ لم يكن مؤلماً مثل الصمت ، والمنشورُ المقرؤ فتتَ سيرتَهُ في دخان ، وتراقصتْ رؤوسُ الجمع في تصديقٍ مروع ، حتى نظرَ السجناءُ إلى ظهرهِ المشقوقِ بشماتة ، وأكدوا إنه حبل المسد وإنه سوف يرى في الآخرةِ ذهبَهُ يحرقه .

كأنه حلمُ ظهيرةٍ من تلك الأيام الغابرة ، حين كانت الأرجلُ العارية تحترق ، والأفواهُ تمزقُ عظامَ الضببة والجراد والفئران بشهيةٍ وتشربُ بولهَا . حين كانت الأظافرُ الطويلةُ تدخلُ الرمالَ وتصطدمُ بالجرات والتماثيل الغابرة فتحطمها لتشعل بها النيران ، حين كان أعداؤهم الضواري يتيممون بدمهم .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 10, 2025 23:40
No comments have been added yet.