الدولة الأموية قبل الغروب
دراسة انهيار الدولة ضروري للأمم تماما كدراسة بنائها، ذلك أن سنن الله في خلقه لا تتغير ولا تتبدل، وأن الإنسان يكرر نفسه وسيرته عبر الأيام مهما اختلفت الظروف والأعراف والأحوال، وينتصب التاريخ معلما حكيما يرشد من يريد إلى خير السبل وأقومها، والتاريخ في هذا السبيل أفضل تفسير للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فهو الترجمة الواقعية لما ورد فيهما من آيات وأحاديث، ثم هو بعد ذلك حجة لهما عند من لا يؤمن بهما.
وننوي بإذن الله تعالى أن تكون مجموعة المقالات القادمة عن هذه اللحظات، لحظات غروب الدول، والمشهد فيها قبل انهيارها الأخير، وذلك لاستشعار الحاجة إليها عند القارئ المسلم المعاصر، كما سنحاول أن يكون المشهد مفصلا بما يحقق الحد الأدنى من المعرفة التاريخية غير السطحية، فلا هو كاستغراق الكتب والدراسات ولا هو في بساطة المقالات السريعة والقصيرة.. ونحسب أن هذا مما يُفتقد في الكتابة التاريخية المعاصرة.
ونبدأ بإذن الله في غروب الدولة الأموية عبر حوالي ثلاث مقالات، ثم نثني بسقوط الدولة العباسية القوية وابتداء عصر السيطرة العسكرية عليها في حوالي ثلاث مقالات أخرى، ثم بسقوط السيطرة العسكرية التركية وبداية السيطرة البويهية.. وهكذا إلى أن يشاء الله تعالى.
***
توفي هشام بن عبد الملك (125 هـ) آخر الخلفاء الأقوياء من بني أمية، وكان مُلزمًا بأن يكون ولي العهد من بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ولم يكن الوليد على مستوى المسؤولية بل كان منصرفا للهو والعبث والمجون وشرب الخمر، وتفيض بعض المصادر في وصف مساوئ الوليد إلى حد لا يمكن تصديقه كما دافعت عنه كثير من المصادر المعاصرة التي وصل بعضها إلى تحميل كل المسؤولية لهشام بن عبد الملك ثم للعباسيين الذين أرادوا تشويه صورة الأمويين، والذي نطمئن إليه هو أن الوليد لم يكن على مستوى اللحظة مطلقا وأنه مُدان بالمجون والعبث والانصراف إلى اللهو وشرب الخمر وترك تدبير الأمور.
ولقد فكر هشام كثيرا في عزل الوليد عن ولاية العهد وصرفها إلى غيره، وكان ممن يؤيده في هذا الإمام الكبير محمد بن شهاب الزهري حتى عرف الوليد منه ذلك وجرت بينهما خصومات قال فيها الزهري: "ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق"، وبالفعل شاء الله له ومات قبل ولاية الوليد، بل لقد تمنى المحدث المؤرخ ابن كثير أن لو نجح هشام في إقصائه عن ولاية العهد