«الأقلف» رواية البحريني عبدالله خليفة صورة الآخر البدائية والمكروهة

كتب : نصار سيمون

يرمي عبدالله خليفة من خلال روايته «الأقلف» الى تعريف العلاقة البدائية والمشوهة بين الشرق والغرب، المبنية في الأصل اعتماداً على الحروب الاستعمارية ووجود القوات الغربية في بلاد عربية واسلامية بالقوة، ولا ينتهي التعريف عند هذا الحد فقط، إنما يتعداه الى الدخول في حروب استعمارية اخرى لا تهدف الى احتلال الارض بل الى احتلال النفوس والأرواح البشرية وهذه بحسب ما يدعي صاحب «الأقلف» الحروب التبشيرية التي لم تكن بنظره أقل دناءة من حروب الجيوش العسكرية، وبنظرنا ايضا، ولكنه في معرض تناوله قضية «التبشير» يرتكب مجموعة من الأخطاء الأخلاقية تجاه مؤسسات التبشير للديانة المسيحية، ويعالجها بمفهوم قريب من أساليب غلاة المتطرفين «الاسلامويين».
تبدأ «الأقلف» بتحليل ظاهرة اجتماعية مستشرية في كل العالم، هي أولاد الزنا او اللقطاء، فالبطل يحيى لقيط، وليس هذا هو فقط اساس تمايزه عن المجتمع الذي تربى وعاش فيه تحت رعاية عجوز خرساء. بل إن تمايزه الوحيد يكمن في انه لم يختن منذ ولادته، ولم ينتبه مجتمعه ولا مربيته الفقيرة الى هذا الأمر «النشاز» بحكمهم، بحيث انه عملياً غير قادر على الزواج بدون ختان، ولا يمكن له ان يعيش الحياة بشكل طبيعي وهو على هذا الشكل، فالعاهرة التي تعرى أمامها بعد ان خلعت هي قفطانها، رفضت النوم معه حين انتبهت الى قلفته، ونعتته «بالكافر» النجس، «أنت نجس، أيها الكافر غير المختن» ص 69.
ففي مجتمع اسلامي مصفى ونقي، حتى العاهرة ترفض النوم مع زبون غير مختون، وكأن الختان هو المفتاح الوحيد الى المشهد الخفي لهذا المجتمع، المشهد السفلي الذي يملأه الجنس والدعارة والعاهرات المغطيات أجسادهن بالكامل، والفقر المكشوف والفاضح لكل شيء، يتحول الختان الى أساس للكمال فيه مثلما هو في العهد القديم حيث كان وعد الله للشعب لكي يتميز عن غيره ويأخذ كل شيء أن يختن الشعب بكامله، هذا التميز في مجتمع الرواية يدفع ثمنه يحيى اللقيط الفقير الذي لا يأكل الا على المزابل وينام على الارصفة كغريب بدون عمل او مال او عائلة، حتى صديقه اسحاق الذي عانى من نفس المشكلة بعدما تخلّت عنه العائلة التي كانت تربيه.
ضمن هذا المجتمع المتخلف بكل ما يعني التخلف من جهل وأمية ورداءة.
لم يُنتشل هذا الصبي من وضعه الصعب ومن مرضه والجروح الكبيرة في جسده، من أكله ونومه على المزابل غير مستوصف الارسالية الاميركية التي نقله اسحاق اليه وهو شبه ميت، والمبنى الذي تشغله الارسالية لمعالجة هؤلاء الناس الذين يأكلهم الفقر والعوز، تحول من مكان للعلاج ومداواة الجروح، الى ملجأ لهذا اليتيم وصاحبه.
وعند هذه النقلة في حياة يحيى، بدأت ايديولوجية الكاتب في التعاطي مع المؤسسات «الخدماتية» المسيحية.

التبشير والتعصّب
في المستوصف تمّت عملية شفاء الصبي، ولكنه لم يكن شفاءً صحياً فقط بل هو شفاء من التخلّف والأمية، فقد تمّ تعليمه عند المدرس «ناصيف البستاني» كتب الاسم في النص «نصيف» وهو خاطئ ويمكن ان يكون هذا الخطأ من الطباعة او من كتابته مثلما يلفظ في بلد الكاتب.
وهكذا بدأت عملية تبشيره، فتعلّم اللغة العربية والاجنبية وتعلم الكتاب المقدس، وتم حشر الاستاذ اللبناني بطريقة يُفهم منها ان المسيحي اللبناني مرتبط بالايديولوجيا المسيحية الغربية التي تسعى الى تدمير وزرع الفرقة والانقسام في المجتمعات الاسلامية.
بعد ان ساعدته الممرضة الاميركية «ميري» ونقلته من موقع الفقير المتبطل الى موقع المنتج الذي يعتمد على نفسه ويعتمد عليه في اعمال كثيرة داخل المستوصف، بدأت الممرضة «والراهبة» الشابة تميل اليه جسدياً وتراوده عن نفسه وتحبه، وهي الفتاة الاميركية التي نذرت نفسها لخدمة الرب ورعاية المحتاجين ومن خلال هذا تبشر بدينها «المتسامح» فتقول له لحظة ذهابهم الى الكنيسة ليتعمّد أنها لا تعده بشيء من تحقيق رغباته فيها «أنا امرأة نذرت نفسي للرب» ص71.
ولكن الجملة التي صدمته وبدأ على أساسها يعتبر انه خُدع لا تلبث ان تتغير، وهذه المرأة التي أخذت تعامله بعد ان اغتسل بماء القداسة المسيحية بجفاء، لم تبخل عليه فيما بعد بجسدها، فأصبح يعاشرها حتى حملت منه وهو صبي لا يفهم من الحياة شيئاً ولا يريد منها سوى العطف والحنان، هو إبن الزنا او الحرام الذي يقول لميري «ابي ليس منهم. لوني وزرقة عيوني تفضح انتمائي اليكم. ثمة طيار بذر في أمي بذرة ورحل» ص 84.
هذه هي الحجة التي بات «يحيى» يبرر لنفسه الانتماء الى دين غير الدين الذي تربى وشب عليه، ولكنه رغم النزعة التغييرية هذه دخل الى المسجد عند موت العجوز وصلى عليها كما فعل الجميع «لم يجد نفسه الا في الصلاة، يقف فيها كما يقفون» ص 121، وكأن لاوعيه لا يزال مرتبطاً بماضيه بحبل سري بمجتمع التربية الاولى، فغالبا ما يكون المهتدي غالباً قد بلغ من العمر ما يجعله غير قادر على الانتماء الى دين آخر الا بالشكل فقط.
أما المضمون، أما الهواجس والكوابيس التي تلحقه بانتمائه الاول، فهي المسيطر الاول عليه، ويصبح من الصعب عليه تحويل نفسه الى آخر وتسليمها بالكامل الى عهدة تقاليد اجتماعية ودينية اخرى.
ففي مجتمع ترفض العاهرة فيه النوم مع شخص غير مختون بسبب التزامها بحرفية النصوص الدينية او ما يتراءى لها انه كذلك.
لا يمكن لشاب تحويل نفسه الا حين يتخلص نهائيا من الخوف من الآلهة التي ستحاسبه على فعلته هذه بعد ان حوسب من المجتمع إما بالقتل او النبذ.
وتتحدث الرواية عن مؤسسة ارسالية اميركية، وتتحدث ايضا ان هذه الارسالية «رهبنة».
وينقل الكاتب عن لسان مسؤول المؤسسة الأب السيد تومسون قوله للراهبة الممرضة «أنت يا ميري راهبة قبل ان تكوني ممرضة. لم نحضرك الى هنا لتقيمي علاقات غرامية فاضحة وشائنة» ص111 وأيضا «ألم توقعي على عقد ينص على ان تكرّسي نفسك لخدمة الرب. وأن تنقطعي عن معاشرة الرجال؟» ص 112.
وليكتمل الحوار ينقل عن لسان ميري قولها الذي ردت فيه على كلام الأب «لا أصدّق أبدا انك تقول مثل هذه الكلمات، أكنت ابنتك، طفلتك التي تركض وراءك أينما ذهبت، نجر نفس البشر الى أفخاخنا» ص 112.
هذا الحوار الذي حصل بين ميري والسيد تومسون، فاضح ومعيب ومتعصب لما رواه. خاصة المؤلف فضلا عن انه مبني على قلة المعرفة لا على المعرفة. فالإرساليات الاميركية ليست إرساليات رهبنة لأنها ليست كاثوليكية بل بروتستانتية وليس فيها رهبنة، ولا آباء بل قساوسة يمكنهم الزواج بفضل عدم ايمانهم بالتبتل، وعلى هذا فإن الكاتب لم يتقصّ عملياً مادة روائية بل كتبها بشكل عشوائي وغير جدي نهائياً، وربما ليكشف دون ان ينتبه الى ما يجول في أعماقه من كره وتعصب.

أسئلة وإشكالات
يشير التاريخ الذي يزيل نهاية الرواية انها كتبت في العام 1988، ولا يوجد اية ملاحظة حول التاريخ الذي كتبت فيه، بل حول التاريخ الذي نشرت فيه. ومدى ارتباط تاريخ النشر بأحداث قد تجعل من نشرها الآن لافتة، فهي نُشرت بعد الأحداث التي جرت على شكل تظاهرات في «البحرين» بلد الكاتب بسبب دعم أميركا لإسرائيل على أثر الانتفاضة الفلسطينية، وقد تم اقتحام السفارة الاميركية، وبعد 11 ايلول، وهو اليوم الذي غير الكثير وكشف المسافة بين المفاهيم الغربية والمفاهيم الشرقية والعربية الاسلامية، وأتساءل، لماذا لم يقدم على نشر هذه الرواية إلا بعد هذين الحديثين؟ هل لأنه أيقن ان الزمن مناسب وأن حالة العداء للغرب على اعتبار ان الغرب مسيحي، تبرر النشر وأنه يمكن على اساس ذلك قبول مثل هذه الترّهات التي بدل أن تصحّح ما أفسده الدهر تضيف اليه الصدوع.
إسم الكاتب نصار سيمون
المصدر السفير
التاريخ 2002 – 10 – 3

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 28, 2024 18:57
No comments have been added yet.