مسارات ـ حمدة خميس كتب : عبدالله خليفة

ديوان «مسارات» هو الديوان الثالث للشاعرة حمدة خميس، بعد الديوانين الأولين «اعتذار للطفولة» و«ترانيم»، هذا الديوان الجديد يعكس بداية «مسار» جديد بعد الانقطاع المضني عن الكتابة الذي عاشته الشاعرة، بعد طوفان من الهدير الشعري بدءا من نهاية الستينيات، وهذا الاتجاه المساري الجديد يتشكل باتجاه ما يسمى قصيدة النثر، حيث يجري هنا الإلغاء الواسع لموسيقى الشعر، لتحل آليات الشعر الجمالية المتألقة في قوة الصورة وظلالها.
ما هي أسباب هذا الانقطاع عن شعر التفعيلة، ولماذا هذا البروز الكاسح لقصيدة النثر، حيث الابتعاد عن ذلك النهر الجارف للموسيقى ودورها التفجيري للصورة وللبنية الفنية؟
إن ذلك قد يعود إلى أسباب فنية رؤيوية عميقة، من الصعب الوصول إليها، ولكن حسبنا في هذه الومضة الانطباعية أن نقرأ قصائد النثر هذه، وندخل في تلافيف تضاريسها.
القصيدة هنا هي قطعة صغيرة وامضة، مكثفة، عميقة، ذات إيحاءات شتى.
اللغة متبلورة تبلوراً إشعاعياً في تنمية الصورة/ الحالة باتجاه معين.
فالصوت الشعري، صوت الشاعرة، يدور حول مركز وجودها المتنوع الأحاسيس والظاهرات، المضطرب، القلق، الهادئ، حيث الطبيعة التجلي الآخر لوجودها. فالشاعرة هي شجرة داخل هذه الأرض، ذات علاقة أمومية بالضوء والفراشات والأنهار والأفكار والأطفال، وهؤلاء الصغار هم الامتداد الأخصب للطبيعة في تألقها.
لقد كان أساس وعي الشاعرة في الديوان الأول «اعتذار للطفولة» هو الوعي الوجودي، الذي تحول الى الرومانسي الفاعل المغير للحياة.
ولذا تظل «الأنا» الشعرية هي مركز الدائرة، وتصير ظواهر الوجود والصراع الاجتماعي جزءا من فيضها.
ومن هنا فإن استمرار الرؤية الرومانسية وامتداداتها الواقعية، يكوّن الموتيفات والأشخاص والأشياء.

التوتر الانفعالي


لعل تلك المرحلة الماضية يغلب عليها التوتر الانفعالي الكبير، والحرارة الشديدة، مما يجعل الصورة تنمو في عملية احتراق حادة، أما في هذا الديوان الجديد فالصورة مضغوطة، مبلورة عبر تصور عقلي/ انفعالي هادئ ومتوتر.
إن الوعي العقلي يلعب هنا الدور الأساسي في تشكيل اللوحة المكثفة:
(أيها الحب
أيها اللهب السري
في كيمياء الخليقة، أدر نخبك
وانتشلنا
أيها الحب
يا قصيدة الكائنات الجميلة
املأ شعاب الأرض
وانتشر في الصدور
والأصابع والأجساد
لهباً حميمياً
يشتعل بالطمأنينة والجذل) .

إن الوعي العقلي، العاطفي الهادئ، يشكل المخاطبة الشفافة ويدفعها للنمو المتدرج، بلا صخب أو انفجارات حادة، أو انعطافات نحو التحليل الشعري للظاهرات بشكل موسع، إلى اللغة المختزلة واللغة الوامضة ذات العمق الدلالي.
وهذا ما تفعله الشاعرة حمدة خميس في أغلب قصائدها، حيث التكوين المبلور المشع، والصوت الشعري لا ينسحب من العالم الى ذاته، بل هو يمر بالأشياء، ملتقطا الاشارات الموجزة له.
وبشكل حياتي مرتعش بدفق اليومي، وأحيانا بشكل شعاري فوقي لا يدخل تفاصيل التجربة.
ولأن الشاعرة هي شجرة، أو فراشة، ترتبط بصلة القربى بظاهرات الطبيعة، فإن كافة مظاهر الحياة تبدو جزءا من الأرض والربيع. ولكن مظاهر الحياة، منقسمة، متضادة، بين القتلة والمقتولين، اللصوص والثوار، وليس ثمة إسقاط رومانسي على لوحة الحياة الاجتماعية، لتغييب انقساماتها، والقوى الايجابية مرتبطة بالخصب، وأحيانا بشكل مثالي، وأحيانا بشكل واقعي، أي من خيوط الحياة الاجتماعية.
سنجد تغلغلا عميقاً بالطبيعة، يتجاوز الموقف الرومانسي الكلاسيكي، عبر الجمع بين ما هو كوني وبشري:
(خطوة لخطورة البحر)،
(أودية الحبر والدفاتر)،
(وقلبي مدجج بالصباح)،
(للبيت رائحة الثوم)،
(ولها بهارات الغضب)… الخ.

إن كل الصور تنمو في غابة الأغصان والعصافير، محيلة الانساني إلى طبيعي، والطبيعي الى إنساني، عبر هذا الدفق الروحي المتلون.
إن كافة الأحجار والأزهار تطلع من أصابعها.

الأمومة


ومن هنا كانت الأمومة ونتاجها الثمري هي أخصب الجهات، ان العديد من المقطوعات مهداة للأطفال ومصورة نموهم ونضجهم، ان مركزية الشاعرة تدور هنا بقوة حول الأفلاك، فهذا الخروج من الذات الى الآخر، يتشكل هنا باتساع أكبر وحميمية أقوى.
عبر صور الحياة اليومية وشعاع الطبيعة. لكن هناك شعارية تقف في وجه نمو التجربة ودخولها الحميم إلى التناقض أساس الفعل الفني ونمو الصورة. فنحن في قصيدة «نصائح» نجد لافتات، لم تنم في تجربة ملموسة وعبر ذلك الاصطخاب الصوري المشع، رغم ابتكار الصورة. إن صور الشاعر القوية تنمو عبر التناقض، ففي قصيدة «امرأة»، نجد الاختزال الشعري وهو يشكل لوحة أخاذة، متفجرة الصور، عبر هذا التضاد العميق الداخلي بين الرجل والمرأة.
ان هذا التناقض يتمظهر أولاً في المطبخ ويتحول البيت كله إلى تنور، وتنغرز الرماح في الذات.
إن المدهش هنا هو بلاغة الصور الكثيفة، الواضحة، الغامضة، التي تترك فجوة كبيرة للظلال، ولتأتي الصور الأخرى توسع هذا الصدام بين المرأة/ البيت، المرأة/ الرجل.
ولنقرأ هذه الصورة البلاغية المقدمة كلغم أولي:
(طعام ينضج على النار
ورائحة الاحتراق تتصاعد من أعماقها).

انه الاستخدام لليومي والطبيعي لكشف الروحي، الذي تتراكم لتشكيله الجزئيات مثل انحباس المرأة بين الثوم وشتات البيت ولتصل الى الاصطدام بالرجل وقيوده، حتى تنفتح القصيدة بتوجه المرأة الى حديقة الجيران لتفاجأ بوجود الشمس .
إن حمدة خميس تغدو حميمية شفافة حين تحيل تجربتها الى صورة وتغرسها في حمم صراعها الداخلي/الخارجي المفتوح على استعباد المرأة والتخلف والغربة، ولكن اللغة تتحول الى لافتات مباشرة حين تتكلم من فوق المنبر:
(انتظروا أيها الرفاق
هائنذا أجيئكم بحكمة الأنوثة وأسرار البذار)،

إن هذه الكلمات مرشوشة بصور مبتكرة، لكن الخطاب يبدو فوقياً متعالياً، بلا نار التجربة.
إنها لا تدع التحليل الشعري، عبر الصدامات والتناقض، يأخذ سيرورته الداخلية في هذه الخطبة، لتنفجر صور الحياة ولتكسر إيقاع الحكمة.
إن من أهم قصائد الديوان قصيدة «الضلالة» ص 55، فنحن هنا أمام مشاهد متوترة، غنية بالتصادم والحيوية، حيث تستعين بتقنية البورتريه والقصة القصيرة، فهي لوحة غنية بالتشكيل والتلون.
فكل صورها انفجار وذات غور نفسي بعيد، تنمي اللوحة الصراعية المتوترة.
قسم «البورتريه» الأول هو وجه الرجل البطل قبل قدومه، والقسم الآخر هو نزوله من تلك العلياء إلى أرض الواقع، أي تحت عين الشاعرة.
ملامح الرجل بدءا هي أسطورية، تموزية، فهو ليس إنسانا ملموسا، بل فكرة مشعة نورانية، تعلقه النساء خرزاً وتمائم في أعناق الأطفال، وهو بذور الربيع القادم، وخطط النبي يوسف للمجاعات المقبلة، هو كائن لا إنساني، فكرة مجردة، لا تتموضع في جسد ما، بل ان تلك الفكرة تسبح في الطبيعة وتصير مولودا منها، وتغدو دفقا في اللغة والبذار والمواسم.
وتؤدي كلمة «كنتَ» دورها في القطع الزماني، وفي تشكيل لحظتين متضادتين، وإبراز شخصيتين متناقضتين، الأولى في الماضي وفي التصور المثالي للبطل الخارق، والثانية في الحاضر، التي لا تأتي بل لتتدفق الصورة الأولى الماضوية، التي تتسع وتسع، طالعة من رحم الغيب وروح الخلق متجهة إلى الميادين وسياجالاحتمالات فكأننا أمام نبي من القرون السحيقة لا رجل معاصر.
ولتلك الصورة المثالية، البيضاء، النقية، دورها في هذه الشاعرة وذوقها بالفعل، حتى تغدو الشخصية البطولية مثل الصخرة الجليدية النازلة من فوق جبل، حتى تصل إلى الشاعرة وتسقط فوقها.
الصورة البيضاء الرومانسية تتحول الى سواد معتم فجأة، فيغدو فارس الأحلام حلزوناً مذعوراً، ذا أقدام تائهة في الشوارع لكن لجامه قابض على روح المرأة.
إننا لا نجد أي تفاصيل حميمية داخل هذا الوصف القطعي الباتر، والشاعرة تنتقل بحدة، وعبر وعي غير جدلي، إلى منطقة شديدة العتمة للرجل «البطل».
ويبدو كلا التصورين غير موضوعي فنياً، بالرغم من أن القصيدة شديدة الحرارة، وهامة فنياً، عبر هذا المعمار البنائي الجميل ذي الحيوية.
إن التضادات بين الشخصيتين يجعلهما تقعان في التجريد الطبيعي، أو الاجماعي، فالبطل هو «شهوة الحدائق» و«عنفوان الصباح» فكيف يتجسد هذا بشرياً؟ إن تجربة حمدة خميس في «مسارات» كبيرة وذات جوانب أخرى عديدة، وهي مليئة بالانجازات ومحفوفة بالمخاطر كذلك، لكنها إضافة هامة لشاعرة تواصل مسيرة الشعر بمعاناة خاصة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 28, 2024 18:51
No comments have been added yet.