رحيل فارس من أنصار النبي ﷺ: عبد المجيد الزنداني
محمد إلهامي
بصدور هذا العدد، يتم لهذه المجلةعامان وتدخل إن شاء الله عامها الثالث، نافذة من نوافذ "الهيئة العالميةلأنصار النبي ﷺ"، تلك الهيئة التي انبثقت من رحم الحملة الشعبية العفويةالعالمية التي انطلقت لمقاطعة المنتجات الفرنسية اعتراضا على الإساءات التي تبنتهاالحكومة الفرنسية لنبينا الأعظم ﷺ.
ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذهالسطور تبدو مهمة نصرة النبي ﷺ عظيمة ومتضخمة وتحتاج إلى أضعاف أضعاف الجهودوالطاقات المتاحة والممكنة، بل إننا مع مرور الأيام نرى أننا نفقد عددا من الأعمدةالقوية التي تقوم بنصرة النبي ﷺ، وكان آخر من فقدناه من هؤلاء: شيخ اليمن وعلمهاالكبير: عبد المجيد الزنداني!
ولقد قيل في الشيخ الزنداني الكثيروالكثير، وفاضت بذكره ومدحه والثناء عليه الألسنة والأقلام. غير أني أحب أن أشيرإلى جانب لم أر أنه قد ذُكِر على وجهه، وذلك من حقِّ واحدٍ من جنودِ –بل من قادةِ-كتيبةِ أنصار النبي ﷺ.
كان الشيخ الزنداني واحدا من رواد بابالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وباب الإعجاز العلمي هذا لم يُفتح ويكثر الكلامفيه كجانب مستقل إلا في هذا القرن الماضي، والسبب وراء ذلك أن الهجمة الغربيةالحضارية التي اجتاحت أمتنا واحتلت ديارنا وأوطاننا إنما جاءتنا مسربلة ومتوَّجَةًبثوب العلم وتاج العلم وشعار العلم.. فكلمة "العلم" في عموم القرنالعشرين لم يكن وقعها في الأسماع والضمائر مثلما نستشعرها الآن، بل هي في ذلكالزمن كانت تعني: مواجهة الدين.. لقد كان لها في ذلك الوقت معنى ومفهوم يقترب منالمعنى والمفهوم الذي تصنعه في أذهاننا الآن كلمة "الإلحاد".
كلمة "العلم" في ذلك الزمنكانت توضع في مواجهة الدين، فمن كان يقول: أنا أصدق العلم، أو: أنا أؤمن بالعلم.أو: أنا أتبع العلم.. إلخ! من كان يقول مثل هذا إنما كان يعني في ثنايا هذهالعبارة أنه ينفر من الدين، ينفر من الخرافة، ينفر من الجهل، ينفر من الأساطيروالترهات.. وكلمة "المنهج العلمي" في ذلك الوقت إنما كانت مضادة لكلمة:منهج الدين وأحكام الدين.
إنه أمر لا يتصوره أبناء هذا العصر،لأن أولئك قد نشؤوا بعد أن خاض آباؤهم وأجدادهم هذه المعركة الشرسة العنيفةالعاتية، وانتصروا فيها، فكسروا وأزالوا الوهم القائل بأن العلم في مواجهة الدين،أو أن العلم فوق الدين وسابقٌ عليه.
ومن أراد أن يعيش أجواء هذه المعركةفليرجع إلى كتابات الرواد المسلمين منذ مطلع القرن العشرين وحتى مطلع الثمانيناتوالتسعينات منه.. ولعل بعض أبناء هذا الجيل يتذكرون كلمة وردت في فيلم"الإرهابي" حين قال الممثل إبراهيم يسري: "الناس طلعت القمر واحنالسه بنفكر ندخل الحمام بالرجل اليمين ولا الشمال".. هذه العبارة هي من رواسبالمعركة وبقاياها وفضلاتها الأخيرة، وإنما كتبها الكاتب الشيوعي لينين الرملي الذيكتب هذا الفيلم.
ومن قرأ مقدمة كتاب العقاد"عبقرية محمد" رأى العقاد يذكر الموقف الذي حرَّكه لكتابة هذا الكتاب،وذلك أن شابا كان يجالسهم في المقهى كان يرى نفسه مثقفا، أو بتعبير العقاد كان"متحذلقا يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاععلى الفلسفة والعلوم الحديثة".. وحيث كان الفتى كذلك فلقد تفوه بسبِّ النبي ﷺ،واستنكر الشاب أن يكون النبي ﷺ بطلا كما وصفه الكاتب الإنجليزي الكبير توماسكارلايل!!
والقصد: أن المسلمين عاشوا دهرااجتاحتهم فيه الحضارة الغربية التي تغلف نفسها بغلاف العلم وشعاره ودثاره، حتى كانأكثر المفتونين بها يرون العلم كفرا، والكفر علما.. ويرون الدين جهلا وخرافة،ويرون أن الخرافة والجهل دينٌ، وعليه فلا بد من الانخلاع من هذا الدين ليتمّ لناالتقدم والتنور ودخول ركب الحضارة!!
وإذن، انتصر أسلافنا رحمهم الله علىهذه الموجة العنيفة حتى كسروها، وخرج جيل لا يرى تضادا بين العلم والدين، ولا يرىنفسه مضطرا لأن يكفر ويلحد إذا أراد أن يتعلم أو أن يتقدم.
ما علاقة هذا كله بالشيخ عبد المجيدالزنداني؟!
الشيخ الزنداني كان واحدا من كتيبةالمهمات الخاصة، من قوات النخبة، في هذه المعركة.. هذه القوات الخاصة حملت علىعاتقها مهمة شديدة الخطورة والقوة في ذلك الوقت، وهي مهمة: إثبات أن الدين قد سبقالعلم، وإثبات أن العلم جندي من جنود الدين، وإثبات أن ما يتباهى به الغربيونويفتخرون به إنما قد جاء ديننا ببعضه قبل أن يخطر على بالهم اكتشافه أو اختراعه..أولئك هم الذين فتحوا باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
أعرف في حياتي القصيرة هذه من كان علىوشك الكفر والإلحاد، ولم يُثَبِّته على الدين إلا ما قرأه وما سمعه في باب الإعجازالعلمي في القرآن والسنة! ولهذا فكم أنقذت هذه الكتيبة من نفوس وعقول ووضعتها علىطريق الجنة بعد أن انتشلتها من السقوط في هاوية الجحيم.
وكأي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وعجيبة، دخلعليها من أفسد فيها، وقد جاء هذا الفساد من قومٍ يسارعون إلى تلقف الخبر العلميوإن لم يثبت ولم يصح، ثم يتكلفون له تأويلا وتفسيرا في القرآن والسنة، بعضهم يحسبأنه بذلك يخدم الدين، وبعضهم يفعل ذلك عمدا لتلويث هذا الباب العظيم: باب الإعجازالعلمي.. وقد رأيت بنفسي في منتديات الملحدين والمنصرين من يخترعون الحكايات فيباب الإعجاز العلمي، ثم يتواصون بنشرها، ليتلقفها الساذجون والمغفلون، ثم يتضاحكونويصيحون: هؤلاء هم من يتحدثون عن الإعجاز العلمي.. غرضهم من هذا كله أن يُلَوِّثواهذا الباب العظيم وأن يصرفوا الناس عنه، فكم دخل في الإسلام من هذا الباب!
لكن الذي يعنينا الآن على وجه خاص هو:متى وكيف صارت ظاهرة الإعجاز العلمي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وتجذب الناس إلى الدين؟..الجواب: هذه هي الثمرة العظيمة، وهذه هي المهمة الخطيرة الجليلة، التي قامت بهاهذه الكتيبة.. والتي كان الشيخ الزنداني واحدا من أفرادها.
ربما لا يعرف الكثيرون أن أصل دراسةالشيخ الزنداني هي: الصيدلة، ولقد التحق بكلية الصيدلة جامعة القاهرة في مطلعالستينات، لكن اشتعال الثورة في اليمن وانشغاله بها قطع عليه دراسته. لكن الشيخلما اهتم بهذا الباب وصار يجمع له العلماء وينفق له المال ويؤسس له المؤسسات عادإليه من جديد.
ويجب أن نقول وأن نفهم: إن أي حركةرائدة تفتح بابا جديدا، وترد طريقا مجهولة، وتمهد سبيلا صعبا فلا بد أن تعاني منبعض الأخطاء والعثرات.. ثم يأتي اللاحقون الذين ساروا على الطريق المعبدة والسبيلالممهدة فيستدركون ويصححون، ويظل للأوائل فضل السبق والريادة والكشف والتوجيه، لايخدش بعض ما وقعوا فيه من فضلهم شيئا. ويبقى للأواخر فضل التحرير والتحقيقوالتنقيح والتصنيف والتبويب والتنظيم، وفضل الزيادة على ما أشار إليه الأولون.
فلئن كانت الكتيبة الأولى قد افتتحتبابا عظيما كسرت به شوكة الملحدين المتزينين بثوب العلم، فهذا هو فضلها الكبير،وبذلك فقد أفسحت المجال لمن يجيئون بعدهم ليكملوا عملهم ويزيدوه دقة وضبطا وكمالا..وهؤلاء الآخرون إنما هم في عملهم ثمرة لجهد الأولين وفرعا من دوحتهم.
على أن نصرة الشيخ الزنداني للنبي ﷺ لاتقف عند هذا الحد.. ولئن وقفت عنده لكان مشكورا مأجورا إن شاء الله..
وإنما انطلق الشيخ الزنداني بالهمةالعالية التي عُرف بها ليكون مجاهدا بنفسه وماله وما يستطيع.. فما من قارئ فيتاريخ المسلمين في هذا القرن العشرين إلا ورأى للزنداني أيادي بيضاء داخل اليمنوخارجها.
فأما داخل اليمن فإن أول ما يهجم علىالخاطر هو هذا الصرح العلمي الدعوي الفاخر: جامعة الإيمان. تلك الجامعة التي بعثتذِكْر كثير من العلماء المنسيين في الزوايا والحارات والقرى والبوادي المجهولة،فما إن كان الشيخ الزنداني يسمع بأحدهم حتى يجتذبه إلى جامعة الإيمان، فمنها ينتشرعلمه في العالمين.
لقد كانت جامعة الإيمان اسما متألقا فيأوساط طلاب العلم، حتى كان يظن من لا يعرف أن هذه الجامعة عريقة عتيقة قديمة،مثلها مثل: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب ونحو ذلك.. فتأملواعجب لرجل صنع معهدا في القرن العشرين يحسب الذين يرون ثمرته ويسمعون عنه أنه منعمل الأولين الأقدمين!!
وفي اليمن استقبل الشيخ الزنداني فيرحابه بل في بيته أناسا كانوا قد فروا من الظالمين، وخرجوا من ديارهم هاربينبدينهم، فوجدوا في ظلال الشيخ أمنا وسعة من بعد العنت والضيق، وهذا أمرٌ لا يتسعله هذا المقام.
وفي اليمن جاهد الشيخ بنفسه، وكان منزعماء الجهاد الذي كسر الشيوعيين في اليمن وأخرجهم منها مدحورين، وكان من حراسالشريعة والدين.. أقول هذا، ومع يجب أن أقول أيضا: ولكن التجربة لم تكتمل، بل لمتثمر ثمرتها التي كانت قريبة ومرجوة، وأسأل الله تعالى أن يهيئ من أولاد الشيخوتلاميذه من يكون أمينا دقيقا متقصيا متحريا فيكتب هذه التجربة ويؤرخ لها ليتعلممنها المسلمون.. وإلا فكيف للشيخ وهو علم كبير من أعلام اليمن أن يقضي آخر أيامهغريبا طريدا وقد كان ملء السمع والبصر، ولم يخرجه منها إلا من كان مغمورا مدحورامنبوذا لا يُعرف ولا يُرى ولا يُؤبه له!!
وأما خارج اليمن فقد كان الشيخ منالنافرين بنفسه وماله لمواطن الجهاد، لا سيما أفغانستان حين كانت تقاتل الاتحادالسوفيتي –القوة العالمية الثانية في زمانها- وله هناك أيام مشهودة، وأمور يعرفهاأهل ذلك البلد وأهل ذلك الوقت.. وكذا عمله في دعم جهاد فلسطين ومجاهديها، له فيذلك سهم كبير ونصيب جليل.
ولقد شهدتُ الشيخ في آخر حياته، حينجاء واستقر به المقام في اسطنبول، ورأيته وقد بلغ منه الكبر، فيصعب عليه المشيويثقل عليه الكلام، وهو مع ذلك متماسكٌ متصلب مستجمع لقواه، حتى لقد وقف في مسيرةلنصرة النبي ﷺ، فكان إذا جيئ له بمقعد يقول: أستحيي أن أقعد في هذا الموطن! وقد ظلواقفا على ما هو فيه من التعب.. وذلك موقفٌ ينبئك عن همته الثائرة ونفسه الفائرة،وعن الشباب المديد الذي ذهب في سبيل الله!
ومثلما هي سنة الله التي لا تتخلف فيعباده الصالحين، ما إن توفي الشيخ الزنداني حتى قامت أصوات أهل الفضل تنعيه وتمدحهوتدعو له وتترحم عليه وتتذكر مآثره، فكنت ترى في جنازته ومجلس عزائه وفي صفحاتالانترنت: أهل العلم وحملته، وأهل الجهاد ورافعي رايته، والعاملون لدين الله في كلسبيل.
وفي ذات الوقت قامت أصوات أهل الرجسوالزور تقدح وتشتم وتشمت، وقد اجتمع في ذلك عبيد الحكام المجرمين ممن كرهوا جهاده،وبقايا الشيوعيين ممن كُسر أسلافهم بجهاده، والعلمانيون الذين كرهوا ما أحدثه عملهمن الإيمان وتجنيد العلم في سبيل الدين، والمبتدعون الذين كرهوا جامعة الإيمانوثمراتها.
وقد صدق القائل:
إذارضيت عني كرام عشيرتي .. فلا زال غضبانا علي لئامهانشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، مايو 2024