الثورة والكهنوت: كتب ـ عبدالله خليفة

كانت مرحلة التحولات الإسلامية في المدينة مختلفة عن الصراع في مكة، فهنا كان الصراع مركباً، فثمة دينان سماويان في هذه البقعة، وكان الدينان هما كذلك من مرجعيات الإسلام.
ولكن الإسلام كان يتجذر في بيئة عربية، وهو يمثل كذلك ذروة تطور الحنفية، وهي الشكل من الدين الذي تأسس في الجزيرة العربية ونما عبر العلاقة مع خصوصياتها، في حين كان الدينان الآخران (اليهودية والمسيحية).
لقد كان ميراث الدينين السابقين اللذين يتجليان في الذاكرة الشعبية بأنهما توحيديان مضيئان، ولكن مسيرة الإسلام في المدينة خاصة اصطدمت بهما، وبأحدهما على وجه الخصوص وهو الدين اليهودي كما تجلى عند العرب اليهود البدو.
كانت ثمة فترة من المهادنة والاحترام المتبادل غير أن الصراع كان لا بد أن يقع، بسبب أن كل جماعة كانت تمثل سلطة، لكن السلطة الحقيقية كانت لدى قبيلتي الأوس والخزرج اللتين رضيتا بالإسلام قيادة ليس للمدينة فحسب بل للعرب جميعاً، وبهذا كان لابد للعرب المسلمين حديثاً من بسط نفوذهم على المدينة والاصطدام بالجماعة اليهودية.
كانت هناك فترة للتفاهم والحوار وتشكيل وحدة بالعودة إلى مبادئ الأنبياء السابقين المؤسسين، لكن هذه المحاولة لم تنجح، فأخذ المشروع العربي الإسلامي يصارع على جهتين عدو خارجي يتمثل في وثنيي مكة ويهود الداخل المتعاونين لإجهاض المشروع.
وكان الأساس الصراعي بأن الدينين الآخرين يمثلان ثورتين في الماضي، حين كان الأنبياء يقاتلون سلطات باغية، حينذاك لم تتأسس هيئات كهنوتية في الدينين تستحوذ على خيرات الناس، أو تعاضد الحكومات، وكان الإسلام في هذه اللحظة التاريخية التأسيسية في حالة ثورة.
إن وجود هيئات كهنوتية متسلطة وراءها ثروات كبيرة كان يمنع من تحقيق وحدة دينية كان يطرحها الإسلام:
[قُل يا أهلَ الكتابِ تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبُدَ إلا اللهَ ولا نشركَ بهِ شيئاً ولا يتخذَ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللهِ فإن تولوا فقـُولـُوا اشهدوا بأنا مسلمون]، (آل عمران، 64).
كان الإسلام حركة شعبية متنامية بلا تلك السلطات، وهو لا يوجه كراهية عنصرية للدينين فقط لأنهما دينان، بل للأسباب المذكورة أعلاه، ولهذا فإن الآيات في هذه السورة وفي سور مدنية عديدة، تشير إلى رجال الدين البسطاء من هذين الدينين الذين تعاطفوا مع الحركة كآية 113 في السورة نفسها.
ومن هنا ولأجل الممارسة الديمقراطية ولعدم خلق كهنوت ترفض الآية (79) في ذات السورة مبدأ الكهنوتية، وخلق جهات متسلطة على الناس باسم الدين وهدفها الثروة لا الثورة وترى بأن (الكتاب والحكم والنبوة) ليست أدوات لخلق عبودية وتحكم وتسلط، بل هي الطرقُ للدرسِ والعلوم.
إنهما موقفان تاريخيان مختلفان، يعبران عن مصير أمم، والمنجزات الإيجابية التي استثمرها الإسلام التأسيسي توقفت على جوانب اجتماعية متعددة، مؤقتة كالديمقراطية الشعبية العفوية، وتعدد الزوجات ورفض الربا، وهي جوانب كانت مرافقة لتطور اجتماعي معين، وحين ذهبت الجوانبُ الإيجابية بعد الفتوح نشأت حكوماتُ الأقلية والكهنوت، وركزت على ما هو سلبيٌ وتركت الجوانبَ الإيجابية، وهو ما شكل مصائر مختلفة لهذه الأديان والأمم عبر مسار التاريخ التالي، فصغر العائلة وتوظيف الفائدة المالية للنمو الاقتصادي التي كانت ميزات الدينين الآخرين الإيجابية والمرفوضة عند العرب بسبب خروجهم المتأخر من (الجاهلية) قد خلقت فيما بعد ثورة ديمقراطية وحضارية في الغرب بعد تطورات تاريخية طويلة.
في حين ان المسلمين على العكس ركزوا في سلبيات البداوة واحتفظوا بها، ووضعوا عليها ديكورات دينية نظراً للتخلف السائد واستمراره وتركوا الجذوة.
لم يستطع أهلُ الكتاب مجاراة العرب في عملية الثورة التي نبعت من ظروفهم ومن مستوى تطورهم المتخلف والحر كذلك، لكن أهلَ الكتاب عملوا قروناً طويلة، بعضهم كدس الرساميل والبعض الآخر اشتغل على التقنية والعلوم وقد ساندتهم البنية الاجتماعية الأسرية الصغيرة فحققوا ثورة جديدة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 12, 2024 12:23
No comments have been added yet.