إصلاح أم ضياع : كتب ـ عبدالله خليفة

ينخرط العاملون السياسيون في عملية الصراعات الاجتماعية المتفاقمة الجارية في الوطن العربي بلا رؤية، تدفعهم العفوية والتجريب والقضايا الجزئية، لا يعرفون ما هو الدرب المعقد الذي يتدحرجون فيه.

إن كلمة (الإصلاح) الخادعة هذه تسبب العديد من الإشكاليات، فهل ما يجري هو إصلاح أم صراعات على السلطات في كل بلد عربي، بهذا الشكل أو ذاك؟

إن ما يجري هو صراعات على السلطة، فالفريق الجديد فى السلطة يحاول أن يسحب شيئاً من سلطة الفريق القديم، وقد يكون الفريق الجديد داخل الطبقة المهيمنة وقد يكون خارجها، لكن الفريق الجديد، من كان، سواء داخل الطبقة الحاكمة أم خارجها، ليس لديه شيء جديد في الواقع، فهو اجترار للنظام التقليدي نفسه، وهي كلها صراعات داخل التشكيلة، والتجريبُ يقوم على لحوم الشعوب.

إن الأخوان هم خارج الطبقة الحاكمة، ويعبرون عن فئات وسطى، لكن الأيديولوجية المذهبية التقليدية، لا تجعلهم قادرين على التعبير عن هذه الفئات التي ينتمون إليها لأنهم لا يؤمنون بأنهم معبرون عن فئات وقوى اجتماعية محددة، فيصيرون مشابهين للطبقة الحاكمة نفسها، بقالب ايديولوجي مختلف، لكن الجوهر الاجتماعي هو نفسه، فالبيروقراطية الحاكمة عبر نصف قرن ستعيد تكييفهم إذا لم يتشكل وعي حديث بينهم ينفصلون به عنها.

وإذا تمظهر ذلك في صراع فتح وحماس، أم في مجموعة من الطوائف ضد الدولة في لبنان، أم في التجليات كافة التي تجري في البلدان العربية والإسلامية، فهو كله تعبير عن طبقة تقليدية مهيمنة وغياب النقيض، سواء في برجوازية صناعية ذات فكر نهضوي منتشر شعبياً، أم في طبقة عاملة.

إن الفئات الوسطى التي تصارع الطبقة التقليدية ليس لديها نظرة ديمقراطية واسعة الانتشار شعبياً، ولهذا حين تدخل إلى السلطة، أو يدخل بعضها، فإنها تقوم باحداث أزمة في مؤسسات الدولة بدلاً من أن تتجاوز الأزمات الطاحنة.

إنها تقوم بتشكيل فوضى عبر تفكيك جهاز الدولة وشله عن العمل، وبالتالى يفتح ذلك الطريق لصراعات داخلية محمومة أو حرب أهلية.

كذلك فإن الطبقةَ السائدة ذاتها تنقسمُ في العديد من البلدان نظراً إلى هذه الأزمة البنيوية، فبعضها يجنح نحو اساليب جديدة في إدارة الأزمة، والبعض الآخر يحرنُ الأسلوب القديم.

وهذا قد يُضاف إلى أزمة الفئات الوسطى المشلولة في فكرها والمنقسمة، فتتداخل المشكلة وتغدو مركبة. لأن جزءاً من الطبقة الحاكمة يستعينُ بقوى من الفئات الوسطى، في حين يستعين جزءٌ آخر بتكوينات أخرى، وهذا يوسعُ دائرةَ الأزمة في البناء الوطني ككل وبدلاً من أن تكون بين الحكام تغدو بين الحكام والمحكومين.

والعملية ليست إرادية ذاتية محضة، بل هي كذلك أزمة بناء اقتصادي لم تختمر فيه إمكانيات التحول الحقيقي، أي لم تظهر طبقةٌ قادرة على تجاوز النظام التقليدي.

لقد ظهرت في أوروبا الغربية كلمة (الإصلاح) بعد العصر الوسيط، وعبرت عن حروب دينية، أي عن صراع قوى إقطاعية لم تبلورْ نظاماً حديثاً بعد، لكن بعد تفجر الثورة الصناعية ظهرت مصطلحات أخرى عبرت عن العصر الحديث، ولهذا فإن المتصارعين التقليديين العرب باستعمالهم كلمة الإصلاح، يعبرون عن هذا المستوى. فالمصطلحُ يشيرُ إلى تغييراتٍ في نظام اقطاعي، وليس دخولاً في النظام الحديث.

وبطبيعة الحال فإن مستوى التطور العربي مختلفٌ من بلد إلى آخر، لكن أساسيات البناء هي نفسيا، لهذا نجدُ الأزمة تتمظهرُ في كل بلدٍ عربي عبر تجربته الخاصة وتقاليده السياسية.

إن (فتح) رفضت أن تحسم خيارها الاجتماعي بين البرجوازية والعمال، وشكلت وعياً وطنياً ضبابياً تجريدياً ، عبّر في الحقيقة عن هيمنة كوادر بيروقراطية على الجمهور العامل، وأثناء النضال الوطني كانت التناقضات بين هذه الكوادر وقوى الناس مغيَّبة، يخفيها الحماسُ والمشاعر الفياضة ويضحى فيها الفقراءُ لصعود تلك الكوادر، وقد شكلت فتح وعياً غيبياً دينياً وبرجتاتية سياسية يومية، أي انها تعتمد على المظلة الفكرية ذاتها للناس المقموعين الذين يعيشون في النظام التقليدي وعاجزين عن فهم مصالحهم وبلورتها، حتى إذا وصلت فتح إلى السلطة، ظهر التناقض الطبقي بين البرجوازية والعمال، واتخذ مساراً معقداً.

لم تقم فتح أو أي منظمة عربية سائدة بإنتاج وعي علمي، وإذا كانت قد شكلت برجماتية سياسية مفيدة لكن ركائز الوعي الديني التقليدي والقومي العتيق لم تتغير، وهي باعتبارها كوادر برجوازية راحت تستغل الجمهور الفقير، وتجسد ذلك سياسياً بقضايا الفساد، ولهذا فإن هزيمتها في الانتخابات ليست موجهة لبرجماتية التفاوض، بل للفساد أي لاستغلالها الموارد والمناصب، ولم تفهم (حماس) الموقف، فعارضت ما هو جيد ومقبول شعبياً وهو سياسية التفاوض القائمة على الاعتراف الضمني بوجود دولتين، لكن الشعب انتخبها لمعارضتها الفساد فقط، ولهذا دفعتها هذه السياسة إلى تفجير الوضع برمته بدلاً من (إصلاحه) فتوجهت لهدم ما هو جيد وغابت عما هو سلبي داخلي، ولهذا بدلاً من رفع أجور العمال توقفت هذه الأجور كلياً!

 إن حماس هي امتداد لفتح، فهما قوتان لم تنتقلا إلى الحداثة السياسية، أي أنهما تزيفان انتماءهما الاجتماعيين، فلا تعلنان موقفهما الطبقي، بالانتماء إلى البرجوازية أو العمال، مثلما فعلت فتح بغطائها الديني القومي الضبابي، واستعملته لتصعيد الكوادر البرجوازية في هيكلها التنظيمي وجسمها يقوم على تضحيات العمال والفقراء، وتواصل حماس ذات السياسة ولكن من خلال غطاء ثقافي مذهبي يميني، وفي خلال هذا الدخان المذهبي تصعدُ كوادرُها للسيطرة على جهاز السلطة. ولكن بدلاً من برجماتية فتح في السياسة طرحت جمود الموقف القومي الديني القديم الذي لم يستفد من تلك البراجماتية. فأضافت سوء سياستها الخارجية إلى هلامية موقفها الاجتماعي الداخلي، فنقلت البلد إلى أزمة مركبة على صعيدي السياسيتين الداخلية والخارجية، فقطعت شرايين (السلطة) بالحياة الدولية ذات الأسس الحضارية التامة، نظراً إلى ذلك الموقف المذهبي اليميني.

 إن هذا الغطاء المذهبي هو لتسلل كوادر برجوازية أخرى للسيطرة على عمل العمال، فهو غطاء ضبابي يستعمل مصطلحات (إسلامية) عامة غامضة، من أجل إزالة الوعي الطبقي من الجمهور بمختلف انتماءاته الاجتماعية، لأن الجمهور الفقير سوف يسأل حماس عن مواقفها وكيفية توزيع الثروة وخطوات (الإصلاح) على الأرض، وهذا يقودإلى تفتيت الكيان السياسي الهلامي لها، الذي لم يحسم خياراته الاجتماعية وموقفه من الحداثة والعقلانية والعلمانية والديمقراطية، أي من توزيع الفائض الاقتصادي على الفقراء، فتصير أزمة حماس امتداداً لأزمة فتح، أي هي أزمة الفئات الوسطى العاجزة عن التشكل الطبقي، واختيار طريق التطور. ولكن بدلاً من أزمة تنظيم واحد تغدو أزمة تنظيمين ثم أكثر لتصبح عاصفة وطنية ثم إقليمية.

 فبدلاً من عرين الأسد العراقي الذي ارتمت على فيض أمواله فتح، تظهر خزائن البعث السوري وإيران، وبدلاً من القومية المهترئة بفعل المخابرات تظهر دول الطوائف، ولهذا تغدو السياسة (الإسلامية) هنا برجماتية تقوم بها الكوادر البرجوازية لاحتلال الكراسي، وهو أمر يفجر الوضع السياسي الوطني الفلسطيني ويفجر الوضع في المنطقة.

 إن المتاجرة بالوطن تُستبدل بالمتاجرة بالمذاهب، وقشور الشعارات الوطنية تضاف إلى قشور الشعارات المذهبية، ومن هنا لا تتخذ حماس موقفاً من نضال المسلمين النهضوي الطبقي الأساسي، أي من نضال عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب لتشكيل دولة شعبية، فلا فرق لديها بين هذا وسياسة ملأ قريش، وهو أمر يتشكل في فقه العبادات المفصول عن الملكية العامة و الانحياز للطبقات الشعبية.

 وما يحدث في فلسطين يحدث في مصر، والعراق، واليمن، والجزائر الخ، فالبناء ذاته، فالحزب الوطني وريث الامتيازات، ومظلة الوطن المسروق، يجابه حزب الاخوان، دون أن يمتلك الأخير سياسة تنفي نوعياً سياسة الحزب الوطني، بل هي تنقل الأزمة إلى مستويات جديدة من البناء، وبدلاً من تقديم حلول للنظام المأزوم يتم تفجير المعارك في الشوارع. أي بدلاً من الوقوف مع الفلاحين وتقديم مشروعات لتوزيع الأرض عليهم، وبدلاً من دعم حياة العمال ودعم تنمية البرجوازية الصناعية، يتم التوجه نحو قضايا فرعية تفجر الحياة السياسية.

 إن الحزب المعارض هنا لابد أن يكشف وجهه الطبقي لأنه في موقع القرار الأن، ولابد أن ينحاز، لكنه لا يكشف مثل هذا الوجه، بل يتعمد الغموض، وجر الحياة السياسية نحو جوانب تأزيمية.

 ويجد المذهبيون السياسيون عموماً أنفسهم في مازق تاريخي فإذا أرادوا (الإصلاح) لابد أن ينحازوا إلى العمال والفلاحين، وهذا الانحياز يفجر التنظيم من الداخل. لأنهم سيكونون بين البرجوازية أو العمال، ولهذا لن يغدوا أغلبية برلمانية في أي يوم. ولأجل الحفاظ على هذا الموقف الغامض المتذبذب، وتأييد الجمهور معاً، لابد من افتعال معارك جانبية.

يقوم (الإصلاح) العربي الجديد في حمى الأصلاح الغربي، أي هو نتاج السياسة الأمريكية، التي تشكلها المؤسسات الاقتصادية الأمريكية الكبرى لتوسيع الأسواق، وهي مرحلة عولمية في الكوكب الأرضي، تعيش فيها المؤسسات السياسية الجديدة التي جرى (إصلاحها) على البناء القديم نفسه، فلا تعترف  البرجوازية الأمريكية وهي تسوق مشروعاتها السياسية بتاريخها السياسي النهضوي السابق، أي أن تعالج أولاً مسألة الأنظمة التقليدية بدلاً من القفز نحو مرحلة عليا غير ممهد لها. فهذا يخلق الاضطراب على الأصعدة كافة، وهم يعترفون بظهور مرحلة فوضى، لكنها فوضى ستكون في الخريطة العربية الإسلامية.

فالقوى العربية التقليدية سواء التي تحكم أجهزة الدول أو التي تتحكم في عقول الجمهور ستتصارع على السلطات، دون أن تمتلك كلها برنامجاً تحديثياً. والنتيجة كما رأينا هي انتقال الفوضى من بلد إلى آخر. ويعتقد المسئولون الأمريكيون أنهم قادرون على ضبط وتوجيه هذه العملية. لكن كما رأينا من التجارب أن الفوضى تحل في أي بلد مع تطبيق وصفة (الإصلاح) هذه، ولكن حين تتعمم هذه العملية وتتشابك التجارب وتتداخل الصراعات الوطنية والإقليمية فإن الفوضى ستكون عامة.

إن القوى التقليدية العربية والإسلامية التي دُفعت إلى لتغيرات لا تملك قواعد اقتصادية موضوعية للانتقال إلى الحداثة والديمقراطية، أي لم تظهر برجوازيات صناعية تقود الجمهور المشتت المتخلف، وتشكل ثقافة نهضوية ديمقراطية، وهو أمر تمنعه القوى الحاكمة التي تتصرف في الملكية العامة بفساد، بل تظهر قوى تقليدية مضادة للدول تعود بالمسار إلى الوراء، وتحدث فوضى اجتماعية.

وهو أمر يتوافق كذلك مع الشركات الأمريكية الكبرى التي تريد الأسواق والمواد الخام، وتعارض وجود برجوازيات صناعية عربية قوية بطبيعة الحال.

وإذا كانت القوى التقليدية العربية كلها تعبر عن عوالم الأغنياء الكبار المسيطرين، المتصارعين، لكن كل هذه القوى كذلك تزعم أنها تعبر عن العمال والفقراء ايضاً! وهي ترفض التخلي عن هذه المتاجرة بالأوطان والأديان.

وهكذا يغدو (الإصلاح الأمريكي) عمليات تجريبية، وانتقائية، وانتهازية، وهو أمر عائد إلى الجذور الاجتماعية لهذه القوى السياسية الأمريكية الحاكمة، فهي لا تستطيع أن تكرس إلا مصالحها، ولكن إذا كان لنا خيط مفيد من هذه السياسة فلا ضرر من الاستفادة منه ومعارضة جوانبه المحدودة.

إن التغيير لا يكون إلا بجهد القوى السياسية والاجتماعية العربية والإسلامية، عبر الانسحاب من التمثيل المذهبي إلى التمثيل الطبقي، ومن الهويات ما فوق الوطنية إلى الهويات الوطنية، ومن ضرورة تشكيل تحالفات نهضوية ديمقراطية تتوجه لدعم الرأسمال الصناعي سواء أكان قطاعاً عاماً أم صناعات خاصة، وتحسين حياة المنتجين، وأن تقف القوى الاجتماعية حسب مضمون طبقي محدد، وهو لا يمنع التعاون المشترك.

وهذه السياسة المتدرجة تستهدف السيطرة على المال العام وتوجيهه لتطوير القوى المنتجة وتغيير ظروف الناس، ومن هنا لا بد من البرنامج التعاوني التحويلي داخل البرلمانات لمثل هذه السياسة، وهذه تحتاج في الواقع إلى سنوات كثيرة بل عقود.

إن تشكل سياسة ذات توجهات اجتماعية مختلفة هو أمر جوهري، ولكن لابد من رموز وقوى تنحاز الى الأغلبية العاملة والفقيرة، وتجذب قوى عديدة لخط تحول يطور الملكية العامة باتجاه الناس، دون أن يحجر على الحريات الاقتصادية والسياسية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 09, 2024 16:08
No comments have been added yet.