من زنجبار إلى مرباخ-عبدالرزاق قرنح
من زنجبار إلى مرباخ
عبدالرزاق قرنح
عرفتأعمال فريدريش شيلر اول ما عرفتها في أعقاب ثورة زنجبار في يناير 1964. فقد كانبين المتمردين المنتصرين جماعة يسارية الميول تعرف باسم(حزب الأمة). وثمة حكاية طويلة تحكى عن تشكيل هذه الجماعة وعن مصيرها. ففي أوائلالستينيات من القرن العشرين، خرج أعضاء (حزب الأمة) تحت سمع الإدارة البريطانيةالاستعمارية وبصرها إلى كوبا لتلقي تدريب عسكري. وكان معنى وجود علاقة بكوبا أنللأمة أصدقاء ومناصرين في كتلة الدول السوفييتية. وبعد الثورة، كان للجماعة نفوذقوي في حكومة توازن القوى الجديدة. ومن خلال ذلك النفوذ لفصيل الأمة ولا شك، وبسببالنفعية أيضا، طلبت حكومة ما بعد الثورة عونا أخويا من مجموعة الدول"الاشتراكية" أو قبلته.
وسرعانما بات جيشنا حديث التكوين يرتدي قبعات كوبية الطراز ويتبع في مشيته خطوة الإوزةالسوفييتية. وبدأ إنزال الدبابات السوفييتية العتيقة في مينائنا الصغير فمزقتمساراتها الطرق الأسفلتية في العاصمة وهي في طريقها إلى ثكنات الجيش على بعد بضعةأميال. وأمدَّتنا جمهورية الصين الشعبية بأطقم طبية، أو ربما بأطباء، أو هم على أيحال، أشخاص مدربون على شيء من الرعاية الطبية، برغم أنهم جميعا كانوا لا يتكلمونأي لغة يمكن أن نفهمها.
ولاحقافي عام 1964، طولب المعلمون البريطانيون جميعا بالرحيل، وكان هؤلاء في العادةيشغلون الوظائف الممتازة في المدارس الثانوية ـ إذ يفترض أن المعلمين من أبناءالبلد ما كانوا على قدر المهارة الذي يسمح بالعمل المطلوب. وفي ذلك الوقت المريعكان من دواعي سرورهم [أي المعلمين البريطانيين] ولا شك أن يمتثلوا لذلك الطلب.ولما أعيد فتح مدارسنا بعد قرابة أربعة أشهر من الموعد الذي كان ينبغي أن تفتحفيه، وجدنا لدينا معلمين جددا: من غانا حينما كان كوامي نكروما لا يزال يحكمها،وهو صديق آخر لجماعة الدول الاشتراكية، ومن تشيكوسلوفاكيا، ومن كوريا الشمالية،ومن ألمانيا الشرقية. كانوا جميعا يتسمون بالعطف وبالأناقة، ولكن لم يكن جميعهميتحدثون بطلاقة لا الكِسواحيلية Kiswahiliولا الإنجليزية وهما اللغتان التي كان أغلبنا يفهمنوهما.
*
لمينته إسهام ألمانيا الشرقية في رعايتنا عند المعلمين. فقد تولوا أيضا إدارة الأمنبما يستتبعه ذلك من نتائج معروفة، من قبيل حظر السفر وإصدار بطاقات الهوية. لكنهمأقاموا أيضا مكتبة، فيها عناوين ذات أغلفة مقواة منقوش عليها بماء الذهب لكتَّابمنهم شيلر. وهنالك التقيت بالرجل العظيم للمرة الأولى. ليت بوسعي أن أقول في أيطبعة، أو في أي ترجمة، أو حتى عنوان المجموعة، لكنني آنذاك كنت في الخامسة عشرة،ولم تكن أمثال تلك التفاصيل الببليوجرافية تظهر أصلا لعيني الغريرة، ناهيكم عناعتبارها مهمة. أتذكر أن الغلاف كان رماديا معدنيا جميلا، وأن عنوان الكعب كانمذهبا. وفي المجلد الذي قرأته للمرة الأولى كانت قصيدة (داس جيمنيس) مترجمة إلىالإنجليزية بعنوان "السر". وبقيت معي إلى أن كتبت [رواية] "ما بعدالموت" بعد ثلاث وخمسين سنة.
حينماوقعت للمرة الأولى على شيلر لم أكن أعرف أنني ألتقي بشخص ذائع الشهرة، إنما مرتسنون كثيرة حتى فهمت أن شيلر، في لحظات تاريخية معينة، كان أكثر من محض كاتب. كانرمزا. ولقائي الأول به، من بعض الأوجه، دليل على ذلك.
ولاكنت أعرف في ذلك الوقت أن ثمة تنافسا ما على شيلر. فالدعاية الاشتراكية الوطنيةكانت تطالب به وبأعماله لتكون في خدمة "ألمانيا الجديدة". وخارجألمانيا، ظل بمنزلة مثال للثقافة الألمانية. في الكتلة الاشتراكية، أصبح صوتالمقاومة للنظام الاجتماعي الإقطاعي. فلا عجب أن وقعت على أعمال شيلر في مكتبةهيئة الاستعلامات الألمانية الشرقية التي كان محسوبا فيها بوصفه كاتب التغييرالثوري. فهو الذي في نهاية المطاف كتب "أنشودة للبهجة" في لايبزج.
لميكن شيلر الشاعر العظيم الوحيد الذي تعرفت إليه في ذلك الوقت. فقد كنا ألعوبة الحربالباردة، وكانت للولايات المتحدة الأمريكية بعثة في زنجبار، يرأسها دبلوماسي كانحسبما أشيع ضالعا في مؤامرة المخابرات المركزية الأمريكية لاغتيال باتريس لومومبارئيس وزراء جمهورية الكونغو آنذاك. وفي حين أنه لا شك في وجود أمر حكومي بتنفيذتلك المؤامرة، فإن فرانك كارلوتشي، وهو الدبلوماسي المعني، قد نفى بشدة وبنجاح أيعلاقة له بالأمر. وما لا يرقى إليك الشك مما نعرفه هو أن فرانك كارلوتشي، القنصلالأمريكي العام في زنجبار سنة 1964، قد أصبح وزيرا للدفاع في إدراة الرئيس دونالدريجان سنة 1987.
مهمايكن الذي فعله كارلوتشي، فقد كان ـ في ما أفترض ـ الراعي الرسمي لمكتبة صغيرة وجميلةفي قنصلية الولايات المتحدة في زنجبار، وقد كانت تستضيف أيضا أسفارا مغلفة ومذهبةمن الشعر والنثر، قرأت فيها إيمرسن ضمن ما قرأت. لم أكن سمعت بذلك الشاعر من قبل،ولا بمنجزاته الكثيرة مفكرا أو ناشطا. وأعترف أن ما بدا لي مبهرا فيه في أول الأمر هو اسمه: رالف والدوإيمرسن. فمن له اسم كذلك لا بد أن يكون لديه ما يمكن أن يقوله للعالم، لكن تبين أنلديه قدرا عظيما مما يفوق اسما عصيا على النسيان. فقد ترك بشعره ثم بكتاباتهالتأملية في نفسي أثرا قويا، ثم سنحت لي الفرصة السعيدة فدرست أعماله ودرَّستها فيالسنين التالية.
*
لكنإيمرسن لم يكن بالطبع أول أمريكي أعرف شيئا عنه. ولا كان شيلر أول عهدي بألمانياوالألمان. فقد سبق أن عرفنا الأمريكيين والألمان من قبل.
كنتأولى القصص التي سمعتها مما أعرفه الآن عن شرق أفريقيا الألمانية [Deutsch-Ostafrika]هي قصص جدي حسبما كنا نطلق عليه. لم يكنجدي حقا، وإنما عم أمي، لكننا كنا أسخياء في ما ننادي به أقاربنا. فأبناء العمومةإخوة أو أخوات وما إلى ذلك، وليس سهلا أن نجد لعم الأم لقبا في الكسواحيلية، فيحسنكثيرا أن نناديه بالجد، فضلا عن أن أجدادي من كلا الجانبين كانوا قد قد رحلواحينما شببت قليلا عن الطوق في طفولتي. فأصبح هو جدنا.
وفققصة جدي، وكان داهية ماكرا، أنه تم تجنيده حمالا مع العسكر [Askaris]،أي جيش الأفارقة المرتزقة التابع لقوات شوتزتروبه [Schutztruppe] الألمانية الاستعمارية.وكانت جيوش المرتزقة الأفريقية في صراع 1914-1918 العالمي تستعين بحمالين لنقلالإمدادات والسلاح لما لم تكن الطرق صالحة لنقلها بالسيارات. أتذكر بصفة خاصة وصفهلرحلة قطار من تانجا [Tanga] الساحلية إلى الداخل، إذ كان القطار مكدسا بالبشر فاضطرالحمالون إلى الركوب على سطح العربات بدلا من الركوب فيها. كانت عنده قصص كثيرة عنضراوة المرتزقة الأفارقة ووحشية انضباط الضباط الألمان. ولم تكن قصصه هي الوحيدةعن تلك الوحشية، وفي السنوات التالية شاعت كثيرا تلك القصص وتكررت قراءتها فيالمصادر القليلة التي كانت متاحة.
لمتوجد مستعمرة شرق أفريقيا الألمانية إلا في ما بين 1888 و1918. محض ثلاثين سنة،لكنها سنوات صراع شبه مستمر بين الإدارة الألمانية وأبناء البلد، وقد بلغت ذروتهافي ثورة ماجي ماجي [MajiMaji] سنة 1905. ويشير التقدير الرسمي إلى أنالثورة أسفرت عن مصرع خمس وسبعين ألف مدني جوعا. ثم وقعت خسائر فادحة أخرى بعدعقد، خلال صراع 1914-1918 في مستعمرة شرق أفريقيا الألمانية. ربما لم يعد منالممكن التوصل إلى رقم دقيق للأرواح التي أزهقت، وللتواريخ التي قصفت وطمست، وللآلام التيتخلفت في ذلك الوقت. فمن المؤسف أن هذه حلقة تاريخية لا يعرف عنها الكثير فيالبلدين اللذين دبرا أسوأ ما وقع خلالها من أعمال وحشية، أي بريطانيا وألمانيا.ولو أننا لا نستطيع الوصول إلى رقم دقيق للخراب، فليس أقل من أن نلجأ إلى رقمتقريبي.
*
وفقاللأرقام الرسمية، مات خمسة وتسعون ألف حمال في الجيش البريطاني، أي قرابة مثلي عددالجنود الأستراليين أو الكنديين أو الهنود الذين ماتوا خلال الحرب كلها. يقدَّر أنما لا يقل عن ثلاثمئة ألف مدني قد ماتوا، في مستعمرة شرق أفريقيا الألمانية، حيثلم تكن الأرقام تسجل، وكان موتهم نتيجة للتجنيد القسري وجباية الإمدادات الغذائية،بما أدى إلى مجاعة لقطاعات كبيرة من الشعب. لقي أولئك حتفهم نتيجةً مباشرةً لأداءالسلطات في الحرب، ويستثنى من ذلك المجندون للعمل حمالين. بل لقد فاق عدد القتلىما أوقعته القوات الاستعمارية الألمانية في قمع ثورة ماجي ماجي قبل عقد من الزمن. فيالفترة الأخيرة، كتب وعُرض الكثير في ألمانيا عن الأعمال الوحشية التي ارتكبتهاالإدارة الألمانية الإمبريالية في حق شعبي هيريرو [Herero] وناما [Nama] في جنوب غرب أفريقيا. ومما يرثى له حقا أن المآسي التي حلت بشعبشرق أفريقيا نتيجة للمنافسات الأوروبية إما مستهان بها أو هي منسية، والمسؤوليةالتاريخية عن هذه الأحداث غير معترف بها. وإنني لأومن أن الاعتراف بالمسؤولية عنالأخطاء هو الخطوة الأولى إلى الفهم والتصالح.
*
نشأتفي ظل الاستعمار البريطاني. كان حكامنا يمرقون أمامنا في الشوارع أو يظهرون مرتدينالريش الذي كان يروق لهم ارتداؤهفي المناسبات الاحتفالية. وبمعنى ما، لم يكن لهم من قيمة كبيرة في حياة شخص شاب،فإن هم إلا مصدر للإملاءات والقواعد المفروضة من بعيد. ربما كان الإحساس بالأمرمختلفا في جيل أبويّ الذين كان بعضهم أطفالا حينما جاء البريطانيون وتولوا أمرحياتنا. ولما حدث أن التقيت بهم شخصيا، في لقاءات عابرة، كانوا معلمين لقرابة سنةقبل الاستقلال، وقبل أن تعيدهم الثورة إلى وطنهم. في حين أن البريطانيين كانواحاضرين في الحياة اليومية، فبات حضورهم ذلك مرفوضا على نحو متزايد مع كبرنا فيالسن وسط هدير رفض الاستعمار، كان حضور الألمان في خيالنا التاريخي يحتل مكانامختلفا. ففي حين أن البريطانيين كانوا معنا في كامل حياتهم اليومية ـ بجواربيرتدونها إلى الركبة في الحر، ووجوه متجهمة حتى في السينما، ونبرة صوت إن حدثوسمعتها لا تسمع فيها غير انتظار الطاعة والخنوع، وكبارهم من ضباط الشرطة بهراواتهمالصفيقة وشواربهم النحاسية ـ كان الألمان أسطورة.وغيابهم هو الذي أضفى على الأسطورة مزيدا من القوة. فأي أسطورة تلك؟ يؤسفني القولإنها أسطورة تصلُّب وقسوة، ولا أعتقد أنها من صنع البريطانيين حينما ورثوا شرقأفريقيا الألمانية على سبيل الحق الكولونيالي سنة 1918. وقد تساءلت عما جعل تاريخالكولونيالية ألمانية وتجربتها في أفريقيا على ذلك القدر من الضراوة. وكان ذلكالتساؤل من جملة دوافع رغبتي إلى الكتابة عن تلك الحقبة، والصراع في شرق أفريقياالألمانية في الفترة من 1914 إلى 1918، والتي انتهت برواية "ما بعد الحياة".
منذزمن بعيد للغاية، قبل حتى أن أنشر روايتي الأولى سنة 1987، عرفت أنني أريد أن أكتبعن مستعمرة شرق أفريقيا الألمانية، حينما جاء الألمان إلى مكاننا من العالم وتركوالنا ذلك الكم من الذكريات الرهيبة. وقد استغرقت وقتا طويلا حتى أعرف ما يمكِّننيمن الكتابة على نحو معقول. ولما فعلت، خطر لي شيلي وتجربة قراءة قصائده وأنامراهق. وبصفة خاصة، تذكرت "السر" وأساه فيها لهيمنة المادية على حياةالإنسان، وأيضا ما فيها من أصداء حزن ودود، أو هو شجن محتمل كان له وقع عند تذكرالصراع. مكنتني القصيدة من أن أتناول الأمور على نحو عملي في آلة السرد، لكنهاأيضا كانت سبيلا استطعت به أن أذكِّر نفسي وأي شخص مهتم بقراءة حكايتي، بأنالأساطير غالبا ما تكون تبسيطا لواقع أكثر تعقيدا.
يتصلهذا بعض الشيء بالطريقة التي تخيلت بها الضابط الألماني في "ما بعدالحياة". عند مطالبة الناس بخدمة أيديولوجية قاسية، ويفهمون معنى للمشروعالذي ينخرطون فيه، ويشعرون بالانقسام حيال ما يفعلونه، فقد لا يكون هذا التشكككافيا للفرد كي يتبنى موقفا. فمن شأن تبني موقف أن يؤدي إلى الانحياز ضد مجتمعك،وضد الهوية الاجتماعية المشتركة أو المؤسسات الاجتماعية التي تحميك وتعاقبك في آنواحد. في هذا السياق، قد يتعارض الانقسام مع عقود من تمثيل الذات وتمثيل الخاضعللعدوان، الأوروبي والأفريقي. لقد كانت مختلف الممارسات الكولونيالية الأوروبية فيأواخر القرن التاسع عشر في أفريقيا تشترك في هذا: التفرقة العنصرية بين الممارسةالقانونية والممارسة الكولونيالية، حيث كانت الأخيرة دولة بوليسية يحكمها القرار،ويحكمها العنف كلما أمكن. ما كان غير قانوني في ألمانيا لم يكن كذلك في مستعمراتجنوب وغرب أفريقيا وشرق أفريقيا الألمانية. ولقد مضت الممارسة الكولونياليةالألمانية في أفريقيا بذلك الانقسام حتى أقصاه.
أردتالضابط الألماني في "ما بعد الحياة" أن يكون شخصية هذا الانفصال الصامتغير المحدد الذي لا تخطر له أصلا أوهى درجات التنصل من الواجب الوطني، لكنه لميستطع أن يقاوم الاعتراف بإنسانية العسكري [Askari] الشاب الذي تولى حمايته.وللإشارة إلى ذلك، جعلته محبا لشعر فريدريش شيلر، وللمزيد من الإشارة إلى هذا،جعلته يتباهى بأنه سوف يعلم العسكري الشاب الألمانية حتى يتسنى له هو الآخر أنيقرأ شيلر. ولكي أدعم رابطته بشيلر، منحته بلدة الشاعر: مرباخ.
نشر المقال في عدد 165 من مجلة جراناتا في 18 يناير 2024 ونشرت الترجمة في ملحقعمان الثقافي بتاريخ 29 فبراير 2024
نشر بتاريخ 29 فبراير 2024 في ملحق عمان الثقافي


