محمود سالم... المبدع الذي فتح الباب
في ذكرى وفاة محمود سالم.[نشرت هذا المقال للمرة الأولى منذ نحو خمسة عشرة عامًا، في أكتوبر 2009 على صفحات مجلة الثغر الثقافية، والتي توقفت عن الصدور في نهاية العام 2010]
كانت زيارتي الأولى للقاهرة منفرداً. مراهق في الرابعة عشرة بالكاد تجاوز طفولته. شبه مفلس لا يملك إلا بضع جنيهات في جيبه. غريب في مدينة يضيع فيها أهلها كل يوم. ومع ذلك كانت هناك فكرة واحدة تستحوذ على ذهني الذي يتأرجح بين الطفولة والشباب. «سأنتهي مما حضرت إلى القاهرة لأجله، ثم أذهب إلى المعادي؟ من المؤكد أنني سوف أراهم؟ بل ربما دعوني لكوب الليمون البارد الشهير؟» هكذا كانت الفكرة تدور في رأسي. وذهبت للمعادي ودرت في شوارعها الهادئة، لكنني لم ألق المغامرين الخمسة أبداً.
من الغريب أن كثير من أصدقائي مروا بهذه التجربة. كلنا ذهبنا للمعادي نبحث عن شخصيات المغامرين الخمسة، تختخ، ونوسة، وعاطف، ولوزة، ومحب، والكلب زنجر، والشاويش علي الشهير بفرقع، والمفتش سامي رجل الشرطة النابه. حتى أني عرفت فيما بعد صديق من القدس زار القاهرة مع ولديه فذهب بهم إلى المعادي ليرى مع أولاده هذه الضاحية الهادئة التي دارت أحداث معظم مغامرات المغامرين الخمسة فيها، وظل طوال جولته في المعادي يحدث أبنيه عن أبطاله الذين كان يعشقهم في صباه.
لا أكاد أعرف واحد من أبناء جيلي من مصر أو بلد عربي، ذكر كان أو أنثى، إلا وقرأ المغامرين الخمسة وأولع بها، فإن لم يكن – وتلك نادرة – فلابد وأن يكون قد قرأ مغامرات الشياطين الـ13 ومعاركهم الغامضة. ليس جيلي وحسب بل أجيال عدة استمتعت بكتابات محمود سالم مبتكر شخصية المغامرين الخمسة والشياطين ال13. ولا زلت مثل كثير من أبناء جيلي يتذكرون هذا الرجل بكثير من الامتنان لتلك العوالم الخيالية الرائعة التي قدمنا إليها. والمؤسف حقاً أن مثل هذا المبدع العظيم يتم تهميشه، ولا يحظى بالتكريم الرسمي إلا فيما ندر، بالرغم من أن قلمه ارتاد جنسًا أدبيًا لم يرتاده أحد قبله في اللغة العربية، حتى أنني أؤمن أن لقب «رائد أدب التشويق» هو حق طبيعي لمحمود سالم ناله بريادته وأعماله المبتكرة، ولو كان للأرقام أن تشهد، شهدت له بالإنجاز، فأعماله بالمئات بلغ عدد طبعات بعضها عشرين طبعة بينما بلغت بعض الطبعات بضع آلاف من النسخ، مما يجعله واحد من أكثر الكتاب مبيعاً في العالم العربي.
حياة ليست كحياة أبطال مغامرته
ولد محمود سالم في الإسكندرية عام 1929 لأب ضابط بخفر السواحل وأم ربة منزل. فرضت عمل الوالد على الأسرة ألا تهنئ بالإقامة طويلاً في مكان واحد، فكانت تنتقل من مكان إلى آخر تبعاً لحاجات عمل الوالد، وقد أعطي هذا التنقل محمود سالم فرصة ليشهد ويعاين بيئات مختلفة، من المدينة إلى الريف، إلى الساحل، إلى البوادي، أسهمت في توسعة خيالة وزيادة إدراكه بالعالم المحيط.
لم يكن محمود سالم تلميذًا مجًدا، وأحب كثيرًا صيد السمك والتريض بالدراجة، لكن ثمة حدث ألم بأسرته غير حياته. إذ تعرض والده إلى إصابة أفقدته البصر لبضع شهور، وهو ما أعتبره محمود سالم حدثًا مؤسسًا في حياته الثقافية فيما بعد، إذ احتاج الأب من يقرأ عليه الصحف والكتب كل نهار، وكان محمود سالم الصغير من يقوم بهذا العمل، يقرأ الصحف على والده من الصباح حتى صلاة الظهر، وربما تناقشًا معًا في خبر حملته الصحف. فتعود على قراءة النصوص الطويلة وتحليلها وفهمها وعرض وجهة نظره والدفاع عنها. وبعد انتهاء فترة علاج والده واسترداده بصره. أصبح الواجب الذي كان يقوم به محمود سالم هواية، فقرأ العديد من الروايات العربية والمترجمة، كما طالع كتب الآداب والتاريخ لتتكون له ثقافة عريضة.
ككل أبناء جيله بدأ تعليمه في الكتاب بحفظ القرآن الكريم وتعلم أسس القراءة والكتابة والحساب، ثم أنتقل إلى المدرسة ويقر محمود سالم بأنه لم يكن بالتلميذ المتفوق في الدراسة. وفي الجامعة تنقل بين كليات الحقوق والآداب والخدمة الاجتماعية قبل أن ينال شهادته الجامعية.
التحق بالعمل كصحفي في مجلة التحرير والتي كان يرأس تحريرها محمد أنور السادات، والذي سيصبح رئيس الجمهورية فيما بعد. ثم أنتقل لصحيفة الرسالة الجديدة التي كان يرأس تحريرها طه حسين ومنها إلى المصور قبل أن ينتهي به المطاف رئيس لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون.
مولد المغامرين الخمسة
بالرغم من نجاح محمود سالم كصحفي إلا أنه كان نجاحاً عادياً ليس فيه شيء يحفظ الرجل للتاريخ أو يجعل للرجل تاريخ. فلقد مارس محمود سالم الصحافة حرفة يتكسب منه معاشه، وليس كحقل للإبداع. ومع ذلك كانت الصحافة هي حجر المسن الذي شحذ عليه محمود سالم موهبته ودرب فيه ميدانها قلمه.
البداية الحقيقية لمحمود سالم كانت هي بداية سلسلته الأشهر المغامرين الخمسة. فقد كان محمود سالم يقوم بترجمة العديد من المقالات من الإنجليزية للعربية لحساب المجلات والصحف المصرية، وفي أحد الأيام، طلبت منه السيدة نادية نشأت رئيسة تحرير مجلة سمير للأطفال أن يقوم بترجمة رواية بوليسية قصيرة اسمها لغز الكوخ المحترق عن الإنجليزية، وكانت الرواية واحدة من سلسلة روايات انتشرت في بريطانيا حينذاك وعرفت باسم الخمسة Five نسبة لعدد أبطالها من المغامرين الصغار. قرأ محمود سالم الرواية وبدلاً من ترجمتها، راح يقوم بتمصيرها وإعادة صياغتها بما يتناسب مع الثقافة المصرية ونشرت على حلقات في مجلة سمير فحققت نجاحاً كبيراً.
أغرى نجاح القصة الأولي محمود سالم والقائمين على المجلة بإعادة التجربة، وشرع سالم في اقتباس فكرة المغامرين الخمسة عن الروايات الأصلية وبناء عالمهم الخاص الذي ارتبط بضاحية المعادي النائية عن القاهرة. حتى شخصيات أبطاله أعاد رسمها على نسق أشخاص مروا في حياته، فكان تختخ هو صديق طفولته عبد العزيز من مدرسة دمياط الثانوية، ومحب واستدعى صورته من ذاكرته عن صوره صديقه فوزي القصبي في مدرسة المنصورة الثانوية، أما المفتش سامي استوحى صورته من صورة ضابط بالمباحث الجنائية عرفه لفترة. وتوالت القصص أو كما عرفت الألغاز. ثم أصبحت تطبع بصورة مستقلة ابتداء من عام 1968 في كتيبات تصدرها دار المعارف المصرية. ضمت هذه السلسلة نحو مائة قصة قبل أن تتوقف نتيجة خلاف المؤلف مع رئيس دار المعارف أنيس منصور بسبب حقوق الأول المالية.
ومع الشياطين الـ 13 ..
في مطلع السبعينات تعرض محمود سالم لمضايقات من أجهزة الأمن بسبب توجهاته السياسية الناصرية، وقد بلغت هذه المضايقات إلى حد الوقف عن العمل والمنع من الكتابة، مما ألجأ الرجل إلى السفر إلى بيروت باحثًا عن فرصة عمل. وخلال إقامته هناك شرع في كتابة سلسلة جديدة أطلق عليها الشياطين الـ 13، وتدور حول مجموعة استخبارية غامضة من شباب ينتمون لدول عربية مختلفة، يقودهم شخصية غامضة تعرف برقم صفر، تتصدى لمحاولات زعزعة الأمن العربي التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأجنبية أو العصابات الدولية وعلى رأسها عصابة سادة العالم.
كانت هذه السلسلة بالذات نابعة من المحيط السياسي والاجتماعي لتلك الفترة، فالهزيمة العربية المحبطة، وغياب المشروع السياسي، والانقضاض على فكرة الوحدة العربية، وحالة التشتت والتشويش التي ضربت كل العالم العربي، كل هذه العوامل حفزت في ذهن محمود سالم المبدع ضرورة مساهمة قلمه في محاولات إعادة السفينة إلى مسارها. فكانت التيمة العامة للسلسلة أن الوحدة العربية قادرة على إنجازات تضارع إنجازات الدول الكبرى العتيدة. خصصت السلسلة لشريحة سنية أكبر من الشريحة التي كانت تقرأ المغامرين الخمسة، وجعل شخصياتها شباب صغير السن وصفهم في تقديمه لهذه السلسلة «13 فتى وفتاة في مثل عمرك» كنوع من البشارة بأن شباب هذا الجيل قادرين أن يقوموا بإنجاز الحلم الرومانسي الذي عاشه الكاتب وصدقه، حلم الوحدة العربية.
نجحت قصص هذه السلسلة وتتابعت أعدادها ن تصدر عن دار الهلال المصرية في قطع خاص جعل طبعتها مميزة بين الكتب التي كانت تصدر للأطفال والمراهقين.
في رأس محمود سالم
على عكس ما هو سائد عن روايات التشويق التي تكتب لصغار السن بأنها تعتمد على التشويق فحسب وخالية من المضمون الفكري والاجتماعي، جاهد محمود سالم أن يضمن أعماله الموجهة لصغار السن عناصر فكرية أزعم أنها أسهمت في تكوين جانب من ثقافة وهوية الذين تابعوا هذه الأعمال.
فالمفاهيم التي تعززها أعمال محمود سالم تقوم على ترسيخ فكرة أن القوة العقلية – المغامرين الخمسة – تتغلب على القوة البدنية، وأن التنظيم والتدريب والالتزام – الشياطين الـ 13 – قادر على أنجاز الأعمال المستحيلة. وبالرغم من أن الجو العام لأحداث قصصه كان يمكن أن يجعله ينزلق نحو روايات تقدم العنف وإراقة الدماء لقرأها ذي العقول سهلة التشكل، إلا أنه نجح في الحفاظ على طقوسه الخاصة المتعلقة بالصراعات، بالعنف يأتي في صورة فنون القتال الحديثة التي تسمح لمستخدمها بترويض خصومة دون اللجوء إلى القتل والدم.
ومن الجدير بالذكر أن دراسة قام بها المركز القومي للبحوث في مصر تناولت رواياته ووصفتها بأنها تشجع طريقة التفكير العلمي وتبرز قيم الشجاعة والعدل والتعاون.
على الشاشة وفي المطابع
حتى اللحظة لا تزال أعمال محمود سالم مقروءة حتى ولو تخيل هو عكس ذلك، وكم من مرة التقيت بشاب أو مراهق يشتري نسخة قديمة من قصص المغامرين الخمسة أو الشياطين الـ 13 وعينيه تشي بأنه يمني نفسه بقضاء سويعات من المغامرة مع هذه الرواية.
ومع ذلك فما زال عشاق أبداع محمود سالم يطالبونه بالعودة إلى القلم والصفحات، وتقديم المزيد من إبداعات قريحته، فاستسلم الرجل وعاد من جديد إلى مغامرينه وشياطينه يستنهضهم ليعودوا إلى ميدان المغامرة في الأيام المعاصرة وأدوات معاصرة، وقد تعاقد مع دار الشروق لتقوم بإخراج هذه السلاسل الجديدة التي ينتظرها الآلاف في العالم العربي [كتب المقال عام 2009، وكان محمود سالم يومئذ على قيد الحياة].
أما الشاشة الصغيرة والكبيرة فقد التمست بعض أعمال الرجل تحاول أن تقدمها في إطار بصري، فكانت المحاولة الأولى للتليفزيون المصري الذي قدم مسلسل أبيض وأسود عن المغامرين الخمسة في نهاية السبعينات قام ببطولته عدد من الأطفال. ثم تكررت المحاولة عام 2004 لكن هذه المرة عندما تم تقديم مسلسل رسومي عن شخصيات المغامرين الخمسة، لكن للأسف انزلق صناع المسلسل لتقليد مسلسلات الأنمي اليابانية ولم يفلحوا في تقديم المغامرين الخمسة في الإطار الذي رسمه محمود سالم لهم.
أما الشياطين الـ 13 فكان حظهم أوفر، حيث استغل صناع السينما شخصياتهم وقدموا فيلم بعنوان الشياطين-العودة عام 2007، من تأليف وإخراج أحمد أبو زيد وبطولة شريف منير في دور أحمد الشيطان رقم 1 وخالد زكي وجومانه مراد وباسل خياط وطلعت زين. الفيلم لم يحقق نجاح كافي بسبب ضعف القصة والإخراج، والغريب أن المؤلف والمخرج شخص واحد. لكنه مع ذلك نجح في منح هواة الشياطين الـ 13 الأمل في أن يروهم على شاشة السينما والتليفزيون مرات أخرى، خاصة مع النهاية المفتوحة حيث يهرب الشرير – خالد زكي – مهدداً بجولات أخرى جديدة لتلقف تهديده المشاهد ويعتبره وعد من صناع الفيلم بالمزيد من المغامرات وإعادة تأسيس مجموعة الشياطين.
الختام
بالرغم من أن محمود سالم نال تكريم متأخر جدًا من الدولة في صورة جائزة الدولة المصرية التشجيعية، إلا أن محمد سالم قد كرمه الملايين من قراءه ومحبي إبداعه. وكفى الرجل فخرًا أنه أقدم على فتح باب أدب التشويق الذي كان مغلقاً في اللغة العربية، بل ربما كان مجهولًا أصلًا. جميع من يكتب اليوم في هذا الفرع باللغة العربية مدينون لهذا الرجل المبدع الذي استطاع أن يفتح الباب المغلق.
د. وسام الدين محمد
الرابع عشر من شعبان 1445هـ
الرابع والعشرين من فبراير 2024 م
Published on February 24, 2024 03:47
•
Tags:
المغامرون_الخمسة
No comments have been added yet.


