الدينيون واللادينيون : كتب ـ عبدالله خليفة

أخلاق التغيير

«أدبني ربي فأحسن تأديبي»، حديث شريف .
حين يسمعُ الإنسانُ العامي البسيط هذا الحديث الشريف يخيل إليه أن ثمة مدرسة إلهية علوية هي التي قامت بتغيير سلوك النبي (صلى الله عليه وسلم) فحولته في طرفة عين من حال إلى حال .
ويروى في العلم القديم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جاءه ملكان وشقا صدره وغسلا قلبه بثلج وكأن هذا كان تطهيراً وغسلاً وتربية كلية أبدية .
ولو كان ذلك كذلك لما احتجنا إلى المعاناة النبوية والبشرية عامةٌ، أو إلى المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وإلى الحروب وقطع طرق القوافل والغزوات وتثقيف البشر والصراعات المضنية .
وهكذا فإن التربية مدرسةٌ أرضية، ومعاناة وآلام، ونزول إلى المعلمين وصعود بثمار التربية، لتكون مدرسة للعالمين .
والأدب هو لغة تعني خلق حسن الأخلاق عند الإنسان، والأخلاق لا تنشأ في فضاء مجرد، ولا في صحراء خاليةٍ من البشر والحيوان والكائنات بل هي تظهر لدى الإنسان حين يعامل الآخرين بالحسنى واتساع الصدر والحب، ولكن الأخلاق الرسولية التي وضعت في بالها تغير حال الإنسان من عصر إلى عصر، تضيفُ إلي هذه الأخلاق الطيبة لدى أواسط الناس شيئاً كثيراً من التضحية ومن الغوص في المعرفة.
فأخلاقها لا بد أن تحتك بالكريم والوضيع والمنافق والدساس والطيب، وتنزل إلى الأسواق تدعو، فيجابهها خصومٌ عتاةٌ، وعامةٌ ضائعة في البحث عن أرزاقها، ولا بد أن تقول كلمتها أمام الجميع، فلا تداهنَ المنافقَ وتحبُ الفقيرَ الجاهل لكي ينتبه، ولا تحابي الغني المغرور الذي يريد أن يشتري الدعوة بأمواله .
إن النزول إلى الشوارع والأسواق والدعوة بين العبيد والحرفيين والتجار، يجعل الذات المنعزلة تنصهرُ في معمل التغيير، فأي غرور فيها يصيرُ تواضعاً، وأي انعزال داخلها يصيرُ مشاركةً، وأى غضبٍ لديها يصير حلماً، وأي جهل عندها يتحول إلي علم.
والنبوةُ الكريمة العالية المغسولة بمعنى الإله تُغسل بماء الناس، وعذابهم وبحثهم عن سبيل للتغيير من حبس الأشراف واستغلالهم، ومن تفرق القبائل وتشتتها، وحروبها الجاهلية «العقيمة»، ومن ضياع القادة في أنانيتهم الشخصية، لكي ينصهروا في التحول الكبير.
إن كل هذا يتحول إلى حركة تاريخية تدخل من الأمور الصغيرة إلى عظائم التاريخ ومسرح التغيير العالمي .
ولا بد لكل قائدٍ من عالم خاص تجب مراعاته وتغيير سلبياته، ولا بد لكل زعيم عشيرة من مصالح مؤقتة يحسبها هي كل الوجود، وهناك زعماء الاديان الذين حبسوا في تفاسير قديمة، ولا يرون آفاق التغيير الراهن الوفيرة بالخير.. وكل هؤلاء المحنطين في ثيابهم العتيقة وحفرهم الضيقة لا بد من مراعاة أوضاعهم الخاصة لكي يخرجوا منها ويروا ما هو عام وعظيم!
إن النبوة مثل مدرسة كبرى في تغيير العالم العتيق تصهر ذاتها في فرن هائل ومن نتفٍ من الشخوص ومن لمعات من الأخلاق والضوء ومن قادة يظهرون من بين الأميين تتشكل أخلاقٌ جديدة .
إن البساطة، والتواضع، والمحبة، والصلابة، وفعل الخير، وحب الحياة، وعدم الخوف من الموت، والشجاعة، والعمل للآخرين وللعرب وللبشرية الخ .. هي الأخلاق التي تكونت في زمن التغيير النبوي لكي تكون ميراثاً لمن يريد أن يغير ويضحي ويكتشف سبلاً جديدة للأمه.

الدينيون واللادينيون

أسوأ الناس هم الذين يتاجرون بكتاب الله وكلام الله ليصلوا إلى أغراضهم الدنيوية، ليجمعوا العقارات والأسهم ويشيدوا المباني التي تنزل على رؤوس الفقراء إيجارات باهظة.
إنهم يرددون كلام الله ليتاجروا في دماء وعظام المسلمين، لا تأخذهم من كلمات الله خوفاً أو خشيةً من عقاب أو تفكير في ثواب!
وربما أفضلهم هؤلاء اللادينيون الذين لم يؤمنوا ولكنهم يخشون الحرام فيدافعون عن الفقراء ولا يفكرون بدينار واحد يسرقونه من فم امرأة عاجزة ويتيم، جحدوا بالآخرة فانصفهم الله!
الدينيون الذين جعلوا من كلمات الله تجارةً، فتسلقوا المناصب والمباني الطويلة في فساد السياسة، وأثروا على حسب القرآن، ويرددون كل يوم أحاديث الرسول المصطفى وآيات الله وهم لم يدخلوا زقاقاً يسكنه فقراء، ولا نضحت كلماتُ النفاق لديهم بالضرائب الباهظة على كواهل المتعبين من الرجال والنساء، ولا لمسوا دمَ سجينٍ تكهرب جسدُهُ من سياط المعذّيين، ولا تصدوا لرصاص ينطلقُ على عمال مضربين لأجل دراهم زهيدة، ولا وضعوا كلماتهم، ولا نقول أجسادهم، لتقف دون بلدوزات تهدمُ بيوتَ الفقراء لتؤسس ناطحات سحاب للأرباح الصماء.
هناك من الدينيين من يفكر فى الثواب والعقاب، ومن امتلأ ضميره بخشية الله، فتراه مسكوناً بالبحث عن الحق والحقيقة أين يكونان، لا تهمه خرائط الجغرافيا البشرية، ولا ألوان المعذبين ولا جلود الممزقين، لكن تكفيه آثار الحوافر في الجلود، ويرتعش ضميره بالخوف من بضعة دراهم أخذها وهي له، وإذا حكم ووضعت أمامه خزائن الأرض سلمها لمن لا فلس عنده، ومن تنغرز أقدامه في السبخ الملوث بالشوك وخناجر المكوس..
التجارُ بكلمات الدين والإلحاد والصوفية والثورة والليبرالية هم أنفسهم، طلاب المنافع، والتسلق على ظهور الآخرين والصعود على الضحايا والآلام، هم أنفسهم الذين يبيعون أقرباءهم وأمهاتهم في أية لحظة كساد في الجيوب، هم كلهم الذين يتعاونون على وضع القيود واستغلال الناس وبناء عمارات العذاب.
لن تتخلص من سكاكينهم في روحك إلا إذا نزعتها من مهرجانات الأنا، وحب الذات، ومشيت على شوك التضحية والبساطة، وجمعت بين كفاح الأنبياء ونضالات الفلاسفة، بين نضال المؤمنين الذين تخلصوا من حب الكنوز، ونكران الذات لدى اللادينيين الذين تمردوا على عبادة الفرد، وأخلصوا للحقيقة من أي جهة يجيء بها الهواء النقي والوعي غير الشقي.
بوصلة الحقيقة تكمن ريشتها الدقيقة في مساكن الفقراء وأجور الضعفاء كيف هي وإخلاص الأغنياء للوطن، ودعم الإنتاج ورفض البذخ وسرقة المال العام سواء أكانت لدعم اتجاه ديني لضرب الديمقراطية، أم دعم اتجاه علماني لكتم الأصوات ، وأما التعاويذ والقراءات اللفظية والجعجعات الموسمية فهي كلها تجارة لأناس باعوا أرواحهم لمن يدفع.
وكلما سمعنا منادياً يتاجر بكلمات الإله تساءلنا ماذا أخذ وماذا أعطى، فإذا كان يدافع عن الناس لأنه يتصدى للعمل العام، قلنا إنه رجل فاضل، وأما إذا كان يريد توسيع تجارته وضم بنايات جديدة إلى بناياته، قلنا انه كاذب يتاجر بكلمات الدين فهو أسوأ على الدين من الملحدين النفعيين!
لابد من التفرقة بين من يمارس التجارة باسم الدين، ومن يمارس التجارة إصلاح الدين والمجتمع ، فمن يتاجر بالدين وصل إلى الدرك الأسفل، والخطورة هي في ظهور الأدعياء بمطهر الدعاة، وسيطرة الفساد على مواقع البث الإيماني، وعملية الخلط بين السام والسامي، وبين بيع الزهد بالزهيد، وشراء العرض بدل العريض، وتقريب التافه لا الثمين.
إن معيار الصدق هو التصدي للفساد والاستغلال البشع وهو معيار رفضه الدينيون واللادينيون الانتهازيون!

المؤمنون واللا مؤمنون

كان الإيمان في صدر الإسلام مرتبطاً بمضمون اجتماعي مطابق له، فالمؤمن مدافع عن الدولة الشعبية التي توزع الخيرات بين المؤمنين بالعدل، لكن حين أصبحت الدولة الإسلامية مضادة لهذا التوزيع وللتعبير عن الجمهور الشعبي، التبس الإيمان!
لهذا غدا الإيمان عند متخصصي السياسة والمتعهدين في استثمار تضحيات الناس، تجارةً.. وهذا قد بدأ عند مؤسسي حكم الأسر، الذين كانوا يريدون أن ترث قبائلهم وأسرهم لحم الناس وتبيعه في السوق.
ولهذا لم يكن عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين عهد تجارة بالدين والإيمان، بل عهد تأسيس للحضارة الإسلامية بشكل التضحية والتعاون.
ومن هنا غدا الإيمان عند أغلبية الطبقة الحاكمة والسياسية والدينية بعد ذلك تجارة، وهو لا إيمان عميق، فغدا الحكم اللصوصي وتوزيع الغنائم على المتنفذين إيماناً، وهو لا إيمان وعدم إقرار بالثواب والعقاب، وعدم خوف من عقاب الله، وتجريد الإسلام من أحكام الضمير والجنة والنار، وتسويق ذلك كدعاية للعوام من أجل السيطرة عليهم، واستغلالهم.
وسوقت ذلك طوائف من رجال الدين، وفصمت الإيمان عن الممارسة السياسية العادلة، وعن سرقة أموال الناس، فيمكن أن «تؤمن» ولكن تستطيع أن تتحول إلى جزار ولص وانتهازي، والمهم هو أن تقول كلمات وتؤدي حركات، لكن ضميرك الداخلي غير موجود!
ولهذا كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعتبر نفسه مؤمناً رغم أنه يجثم على سجن به عشرات الآلاف من المعذبين والموتى!
وكان المعذبّون بعد أن يسلخوا جلودَ المناضلين يتوجهون للصلاة!
وحين نشأت الحركاتُ الوطنية والديمقراطية الحديثة ورأت هذه المجازر الفكرية، ظهر اللا مؤمنون الرافضون لذلك الإيمان، والمنكرون لله واليوم الآخر والثواب والعقاب، باعتبارها ضلالات الطفولة الفكرية، وليس باعتبارها ميراثاً عميقاً لشعوب، اعتبرتها نظاماً سياسياً لا يفصل سلطة الشعب عن توزيع الخيرات بشكل مشترك، ويجعل خدمة الناس جزءاً من الرقابة الإلهية عليه!
ولكنهم إنكارهم تلك المثاليات الغيبية، عملوا على تجسيدها بدمائهم وفي النضال الملموس بين الناس!
فلم يمارسوا سرقة من المال العام، ولم يتواطأوا مع الأجنبي المحتل، حتى جاء وقتٌ تحولت التجارة بالدين إلى شكل واسع، وشعر الكثير من المؤمنين واللا مؤمنين بأهمية التجارة فى الدين، والاحتيال فيه!
فغدا الانتهازيون من الطرفين يدركون اهمية التجارة برموز الإسلام، وخداع المؤمنين، للحصول على مكاسب مادية، وليس لفضح ونقد الأوضاع العامة السلبية التي يعانيها الجمهور، والدفاع عن المال العام..
وغدا هذا التوحد الانتهازي استثماراً خطراً على الفريقين، فالفريق «المؤمن» يعرض نسيج الدين للخطر، ونسيج الدين هو ميراث أجيال طويلة، ويعبر عن هوية وجودها وتميزها بين الأمم ومقاومتها عبر العصور، والتقدمُ يجري من خلال تطوير هذا النسيج، وليس بتمزيقه!
فهذا الاستثمار ينشرُ اللا إيمان به، حين يحوله إلى سلعةٍ رخيصة، ويشكك الناس العاديين في قيمه التاريخية، فلا يفترق هنا الحجاج بن يوسف الثقفي عن أي زعيم من هؤلاء، يعرض حياة الناس للخطر والموت بإدعائه تمثيل الإسلام وحده أو مع جماعته المميزة أو تحويله الإيمان إلى حصالة لجيوب المنتفعين!
والصراع مع هؤلاء إنقاذ للإيمان قبل كل شيء.
وحين يغدو اللا مؤمنون مؤمنين بحسب بورصة الانتخابات والحلم بالكراسي، بعكس أن يشكلوا اقتراباً موضوعياً من الإسلام باعتباره ثورة نهضوية توحيدية، لا تحتاج إلى بخورهم وتعاويذهم المفاجئة واحتيالهم!
وباعتباره الطريق الأسهل للهبر من لحم البسطاء والعاملين!
فهذا يعني أن اقترابهم من الإسلام هو اقتراب تضليلي، يشارك في تمزيق نسيج الإسلام كما يفعل خصومهم الانتهازيون اليمينيون، وهنا تغدو الجهات أكلاً من الذبيحة الشعبية من جهات متعددة!
فلا اعتبار للثواب والعقاب ولا اعتبار للضمير ولكن هي المصالح الشخصية وتكديس الثروة!
وبما أن الجمهور غافل فهي فرصة، فلا رقيب ولاحسيب!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2024 21:59
No comments have been added yet.