رواية مريم لا تعرف الحداد: ملاحظات وانطباعات

بقلم القارئ علي عيسى

الكاتب والروائي عبدالله خليفة كاتب قدير معروف وهو احد اقطاب القصة القصيرة في البحرين؟ وكان هذا الكاتب المعروف في قصصه السابقة يعني بالدرجة الاولى بالإنسان؟ فالإنسان يحظى عنده بالمرتبة الاولى من الاهتمام.
وفي هذه المرة طلع علينا كاتبنا برواية (مريم لا تعرف الحداد) التي كرسها لخدمة الإنسان وإبراز ما يعانيه ويعيشه من حياة وظروف سواء كان هذا الإنسان من المترفين أو كان من البسطاء الذين يكافحون من أجل لقمة العيش وغد أفضل .
في هذه الرواية يتمثل كما هو واقع الحياة،‏ جانبا الخير والشر الضدان اللذان لا يلتقيان إلا في حالة مواجهة مستمرة وجها لوجه. عالم الزيف والترف والجبروت يمثل جانب الشر في هذه المعادلة الحياتية، بينما عالم البساطة والعفوية والطهر يمثل جانب الخير والعدالة والكرامة الإنسانية .
أحداث الرواية تدور في قرية صغيرة من قرى البحرين وهي قرية فلاحية لذلك تسمع فيها اصوات مكبرات الصوت التي تصدح بتلاوة القرآن وكما يقول الكاتب (أصوات الميكروفونات الباكية) ص ‎،18‏ ويدل ذلك انها تخرج من المآتم التي لا تكف عن البكاء في الليل والنهار .
على أحد جوانب القرية يقبع القصر الذي يمثل عالم الزيف والشر. وهو على مقربة من القرية إلا أن الكاتب وصفه بوعي كامل يخدم الجو العام للرواية بأنه بعيد عن البيوت . بيوت الأهالي الفقراء البسطاء الذين يمثلون جانب الخير. وذلك أن الكاتب يريد أن يوحي لقارئه بأن الشر حتى لو اقترب جغرافيا من الخير إلا ان هناك فاصلا يفصله وذلك ما يميزه عنه .
الحدث العام للرواية يقول ان هناك امرأة تدعى (مريم) وقد انجبت ابنا اسمه حسن . هذا الابن ربته هي بعرق جبينها لبعد والده عنه في بلاد الغربة، وكان هذا الولد بمثابة الامل المرتجى من هذه الحياة لكلا الوالدين الأب والأم ؟
ولكن سرعان ما رأت عين الشر هذا الأمل يكبر فعز عليها أن تتركه ينمو ويعمر قلب ونفس الأبوين فاغتالته وأي اغتيال؟ إنه تحويل هذا الامل إلى كتلة معجونة من اللحم الناعم وكلمة الناعم هنا إمعان في إبراز نضارة وخضرة الامل النامي الذي اغتيل غدراً . ثم تحويله الى كتلة معجونة، يتحول بعدها الى سراب يدفن في التراب فيكون تراباً . ومنذ هذه اللحظة يكون الصراع على أشده بين الخير الذي يريد أن يعبر عن نفسه ويريد أن يقول للناس لا بد ان اكون ويعرف الكل ان الحياة يجب ان تكون لي لا لغيري من الذين يعيشون على هامش الحياة!
ولكن الشر يقول أنا أقوى منك ولا بد أن أسود انا فالبقاء للأقوى لا للأصلح وافعل ما شئت، إن استطعت أن تفعل شيئاً وها أنا ذا.
وفي النهاية لا بد أن يكون الأمر كما هو في الواقع مع شيء من التجاوز احياناً أي ان ينتصر الخير على الشر .
ولكن في هذه الرواية انتصار الخير على الشر مختلف قليلاً؟ فالنصر عبارة عن رفض الخير للعروض المغرية التي عرضها جانب الشر ولكن الشر انتصر وذلك بتقييد الخير وتضييق الخناق عليه فهو لم يفعل شيئاً سوى ان أنتظر لكي يأتي مولود جديد ينجبه الخير نفسه ليبدأ المواجهة من جديد وذلك المولود هو النطفة الثانية التي كبرت من بطن الأم (مريم) فيكون الانتصار هنا هو استمرارية الصراع الذي اراد الشر أن يوقفه ان لم يقض عليه نهائياً.‏
‏ولكنه حتى في حالة ايقافه فالنصر هنا مهزوز وهش إذ أن الخير قد انجب من سيواصل هذا الصراع العنيف من جديد . وهذا توفيق وإجادة وفق إليها الكاتب فالقصاصون يجعلون النصر واقعاً حتمياً يبرز على صورة نهائية وينتهي بعدها الصراع. ولكن نظرة كاتبنا عميقة للحياة ولواقع الصراع الذي نبع حتماً من مخبرة شخصية ثرية تجعل الصراع مستمراً الى ما لا نهاية ؟ وكما اتصور فإنه حينما يجيء المولود الجديد فانه سيكبر ويصارع وينجب لكي يواصل الخلف الصراع وهذا هو النصر الجديد المختلف .
والكاتب في هذه الرواية استخدم في إبراز المواقف أسلوبا جميلاً يوظف فيه الطبيعة لخدمة كل لحظة من لحظات الموقف لكل شخصية على حده وكل هذه اللحظات والمواقف تتبلور وتتجمع لإبراز الجو العام للرواية.
فحينما تكون الأم (مريم) في حالة اكتئاب وحزن فإن الطبيعة تتعاضد معها وتكفهر محاولة تعزيتها ؟ فالطيور تصمت عن الغناء بل وتهجر أشجارها؟
والأشجار تصبع كالأشباح والنخيل مقطوع الرؤوس؟ وكل ما في الكون في حالة من السكون العميق. وبالأصح في حالة بكاء مستمر على روح الفقيد الصغير لب قلب الأم .
وحينما يتكلم عن صاحبه القصر التي تمثل الشر ويعرض لملذاتها وحياتها يصور لنا الكاتب جوانب مختلفة منها،‏ ‏فإذا كانت في حالة انشراح كانت الطبيعة كلها تنطق بذلك؟ وإذا كانت في حالة ملل أو سأم كانت الطبيعة جاهزة لإبراز هذه الحالة. وتوظيف الطبيعة لخدمة المواقف المختلفة شيء جميل جدا يوحي للقراء أن هذا الموقف هو موقف الكون كله لا موقف الشخص وحده؟ فالإنسان هو ابن الكون والكون هو المسير الأساسي لخطوات هذا الشخص وبالتالي فإن
التلازم بينهما يتناسب طرديا مع كل متغير يحدث لكل منهما .. فما يحدث للكون أو فيه يؤثر على الشخص وما يحدث للشخص يؤثر في الكون.‏
‏وفي هذه الرواية تبرز صورة المرأة الأم التي تمثل الخير – تبرز ايجابية قوية،‏ ‏وشخصيتها تنمو من بداية الرواية الى نهايتها حينما تكون هذه الأم هي الأرض الخصبة التي تنبت الامل الجديد الذي سيقف ويصارع الشر من جديد وايجابيتها تكمن في صراعها وعدم توانيها عن القيام بأعباء الصراع ورفضها لكل المغريات التي قد تدفع ضعفاء النفوس للركون الى الراحة وتفضيل لذة عابرة هي لذة المال على المواجهة من أجل غد أفضل بل وحياة أتية افضل ان لم تستطع القضاء على الشر فهي لا تهادنه وهذه المواجهة تجلب اللذة التي قد تكون خفية الى نفس المجاهد الذي يقارع الظلم والتسلط والزيف.
ولكننا نرى بالمقابل شخصية زوج هذه المرأة (عباس) فهو وإن كان في اعماقه خيراً ويحب الخير إلا أن اخطاءه جعلته ضعيفاً وقابلاً للانحناء إن لم يكن للكسر؟ فقد أفصح عن أسماء اصدقائه عندما اجبر على ذلك؟ وقبل المال في النهاية نتيجة للخطيئة الأولى التي جعلته يستمرئ الخطيئة من جديد.‏ ولكن جانب الخير فيه باق،‏ فقد ندم على افشائه لأسماء رفاقه وهذا يدل على نوع معدنه .. إلا أن ظروف الحياة القاسية التي جعلته ينهار في معدنه أول مرة جعلت معدنه قابلا للصدأ ولو قليلاً .. وهذا هو الذي للقبول بالمال وتناسى الولد القتيل.. مما جعله تافهاً في نظر زوجته التي عرفته جيداً وعرفت ان معدنه قابل للتأثر بالعوامل الشديدة إن لم يكن قابلا للتأثر بالعوامل الأقل شدة؛ وكانت نتيجة ذلك الصدأ الذى غطى هذا المعدن ببيعه لولده مقابل مال يتناقص كل لحظة إلى ان يصير صفرا أو يضيع المال ويضيع الشرف.
ومما يلاحظ أيضاً على هذه الرواية ان الكاتب استعان بفكرة دينية تقول بالمهدي المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجورا. فتسمية الرجل الصالح ذي اللحية الكثة باسم مهدي ليس عبثاً ولكن هذه التسمية غلفها الكاتب بحنكة حتى لا تبدو فكرة جاهزة استعملها كما هي. فقال بأن مهدي هذا هو الذي يتنبأ بالمولود او بالأصح بالقادم الجديد الذي يواصل عملية الصراع بين الخير والشر وتكون النتيجة الحتمية الكامنة في نفس الكاتب هي انتصار القادم الجديد (المهدي) أي الخير على الباقي المستمر أي الشر .. وقد وفق الكاتب في هذا أيضاً .
ويلاحظ كذلك بعد الانتهاء من قراءة الرواية أن الكاتب مسح الرواية »وأحداثها بفكرة تاريخية دينية وردت في الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم،‏ وهي قصة مريم بنت عمران التي جاءها المخاض الى جذع النخلة، وكذلك هنا في الرواية فاسم الام (مريم) وفي النهاية كما يقول الكاتب في ص 65، «تقترب من النخلة تتسلقها، ترتقي إلى قمتها» ولكنها وضعت المولود الجديد على الأرض طبعاً.
وليس من العبث أن يربط الكاتب بين الأم والنخلة في هذه الرواية، فمريم في الرواية قروية تعيش وتعمل بعد رحيل زوجها في الزراعة كأول عمل تقوم به ضمن الأعمال الأخرى التي اضطرت للقيام بها. إذن إرتباط مريم في الرواية بالنخلة له ما يبرره ومن هنا نشم رائحة الامتزاج بين القصتين ولجوء كلا المريمين، ان صح التعبير، الى النخلة
لكي تضع بشراً سوياً، وهذا لفظ قرآني استخدمه الكاتب. على أن هذا الاستخدام في الربط بين القصتين جاء من غير أن يحس القارئ العادي به .‏
‏ومما يلاحظ أيضاً استخدام اسم النمر يمثل الشر المتجسد في عالم البشر المزيفين ومطالبة مهدي للرجل الصالح الذي كان قد تنبأ بالمولود الجديد وقال انه سيأخذ ثأر الحسين وهو هنا رمز لدم كل الشهداء الذين يموتون في سبيل الحق مطالبة هذا الرجل الصالح للأم بأن لا تقتل الامل المتكون في احشائها حينما قال لها : «لا..لا.. لن اسمح لك.. أتعرفين من الطالع في احشائك، انه فتانا الموعود والطهر الذي ننتظره، هكذا قالت الرؤيا» إذن فتانا الموعود هو المهدي المنتظر.
ولكن الكاتب يجعل هذا المنتظر حينما ينزل الى الدنيا يسمى باسم علي، وعلي هو المطالب بالحق المقارع للظلم والشر . وتسمية المولود بعلي على عكس اسم المهدى المنتظر الذي اسمه (محمد) يدل على ان الكاتب اراد ان يستخدم الفكرة السائدة بأسلوب جديد؛ تتبدل فيه الأسماء الأماكن والصور ولكن يبقى الهدف والمعنى والغاية واحدة في الواقع، كما يؤمن به من يعتقدون ذلك وفي الرواية ايضاً. والرواية كما قلت جيدة واستطاعت بأسلوب قصصي رائع ابراز ما يريد الكاتب إبرازه إلا أن هناك بعض الملاحظات التي أتمنى ان يوضحها الكاتب وهي كما أرى ضرورية.
فالكاتب عبدالله خليفة كاتب عارف بالنفس البشرية ويعرف أنها لا تكون دائماً في الاتجاه الصحيح،‏ فيتناوبها الأمن والخوف، الاقدام والاحجام والإصرار والانهيار والتراجع،‏ ‏ويتضح ذلك في عرضه لشخصية (مريم) التي هي قوية بطبعها وتمثل الخير والجمال والبساطة والعدل ولكنها بشر تضعف أمام الرياح والعواصف،‏ فلذلك اهتزت في لحظة ما ولكنها تعاود حالتها الطبيعية المعروفة بها.
كذلك جعل الكاتب كل من يعيش في العصر يمثلون الشر والتفاهة والزيف من صاحبة القصر وزوجها الى ابسط خادم عندهم على تفاوت بينهم في تأصل أو وضوح الشر عليهم، وبالمقابل يجعل اهل القرية يمثلون الخير بالرغم من وجود بعض الطبائع المسترذلة عند بعضهم وبعض النقص، وهو ما لا تخلو منه نفس بشرية أو أمة من الأمم، فالبشر يصيبون ويخطئون ولكن السمة العامة واضحة .
واخيراً نقول ان كاتبنا وفق الى درجة ممتازة في إبراز ما يريد إبرازه،‏ وهو من أعظم وأكفأ القصاصين عندنا؛ ومقدرته على التصوير في كل مؤلفاته بالغة الروعة وهو متمكن من لغته ومن صوره ولا نملك في النهاية إلا أن نحييه ونشد على يديه وتهنئه ونهنئ أنفسنا بكتاباته التي تهتم بالإنسان أينما كان؟ ونكبر فيه ابن المدينة الذي يصف القرية ويجعل البساطة القروية حاملة لكل معنى خير كالعدل والطيب والحب والخصب والاعتزاز بالكرامة،‏ وكل ذلك تجسد في (مريم) بطلة الرواية. فتحية مرة أخرى .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 20, 2023 18:26
No comments have been added yet.