الإقطاع المذهبي والريع

إن كونَ السلطة — المذهب مصدرُ توزيع الثروة على القوى الاجتماعية المختلفة، يجعلها مستقرةٍ و متوحدةٍ في أزمنة الرخاء ، ولكنها تتزعزع في أزمنة الأزمة، فتعجز السلطةُ السياسيةُ المذهبية عن التحكم في البنية الاجتماعية، نظراً لهذا التركز في السيطرة على المال العام وإهداره بأشكالٍ مختلفة، فيغدو المذهبُ مركزاً لسلطةٍ مضادة، أي أن الجماعةَ السياسيةَ المسيطرة على النظام المذهبي، تُنافسُ من قبل الجماعةِ السياسية المسيطرة على إنتاجِ المذهب، فيظهر الصراعُ وكأنه صراع بين السياسيين الحاكمين التحديثيين والدينيين، ولكنه صراعٌ بين أجنحة الإقطاع المختلفة، بل بين جناحيها الرئيسيين، بين الجناحِ السياسي الحاكم المسيطر على جهاز الدولة والثروة التي يصنعها، وبين الجناح المسيطر على إنتاج المذهب والثروة التي يصنعها، وإذا حدثت سيطرةٌ للجناح المذهبي السياسي، فإنه يعيدُ إنتاجَ نظام الأقطاع المذهبي بسيرورة أخرى.

 أما لماذا أمكن حدوث هذا النوع من الصراع؟ فهو يعود لتنامي إعادة نظام الإقطاع المذهبي خلال القرن العشرين، وعجز الدارسين عن معرفة هذا الوضع هو بسبب عجز أدواتهم التحليلية وعدم متابعة التطور للمنطقة خلال القرون السابقة.

 والجهل بهذه القضية الهيكلية في الحياة السياسية والاقتصادية يصل حتى إلى المتخصصين في شؤون تفسير الحياة السياسية والاجتماعية، مثل هذه العبارات التالية:

(ومهما كان الحالُ، فإن طبقةٍ صغيرةٍ كانت، ولا تزال تسيطرُ على ثروات البلاد بالتحالفِ مع الشرائح والفئات الحاكمة حتى ليصعب الفصل بينها، فتكادُ أن تشكل طبقةٍ أو عائلةٍ واحدة. ما يمكنُ قولهُ بدقة إن البرجوازية القديمة، وهي التي تشكلتْ من كبار مالكي الأرض والرأسماليين في التجارة والصناعة والمال، تمكنت تاريخياً من السيطرة على الحكم والثروة معاً)، (المجتمع العربي في القرن العشرين، الدكتور حليم بركات، مركز دراسات الوحدة العربية، ط ١، ص٣١٩).

 هذا تحليلٌ يكاد يضعُ غموضاً على الظاهرة أكثر مما يحللها، فكيف تكون هناك طبقة مسيطرة ولكنها تتحالف مع الشرائح الحاكمة؟ وتكون هناك برجوازية قديمة وهي من كبار ملاك الأرض؟!

 إن أي قوةٍ سياسيةٍ تسيطرُ على جهاز الدولة التقليدي المذهبي تحوله إلى أداةٍ لصناعة الثروة، فتصبح قوةٍ إقطاعيةٍ سياسية مهيمنة، سواءٍ أكان ذلك بلباس الباشوات أم بلباس ضباط الانقلابات، أم بفتوات الجماعات الدينية، فاستخدام السيوف أو استخدام الدبابات، للسيطرة على الدولة يحلقُ الإقطاعَ السياسي، واستخدام القوة للسيطرة على المذهب يخلقُ الإقطاع المذهبي، وهما قد يتآلفان في زمن هو زمن سيطرة جناح فيهما، وقد يتصارعان حين يجد الإقطاع المذهبي نفسَهُ في قوةٍ قادرةٍ على الوثوب للسلطة .

 ولكن القوتين معاً تشكلان نظاماً واحداً هو نظام الإقطاع المذهبي، ويخضع توزيعُ الطبقاتِ والفئات لهذا النظام في زمنية بنيوية خاصة من تطور أسلوب الإنتاج، أي لا بد من قراءةِ كل بنيةٍ محددةٍ في زمنيتها، وهذه تحددُ مستوياتِ البنيةِ الداخلية وتأثيراتها المناطقية في المنظومة الإقطاعية المذهبية (الإسلامية) وفي العالم.

(ويقولُ خلدون النقيب إن عصرَ النفط بدأ في الجزيرةِ العربيةِ في الثلاثينيات وخلال عقدين بعد ذلك بدأت تتوضحُ معالمُ الدولة الريعية نتيجة الزيادة الكبيرة في الدخل بشكلِ ضرائبَ ريعيةٍ تحصلُ عليها الأسرُ الحاكمةُ من شركات النفط، وهو ريع خارجي غير مكتسب ولم يتولد من العمليات الإنتاجية للاقتصاد الوطني. ويتبعُ ذلك منطقياً أن الدولة التي تعيشُ أو تعتمدُ في معاشها على الريع الخارجي هي دولة ريعية، ونتجَ من ذلك أن أسهمت التعويضاتُ العامة في خلق اوليغارشية مالية عقارية طائلة الثراء، وفي تحويل قطاع الاستيراد والتصدير إلى أكثر قطاعات الاقتصاد دينامية وكان المستفيد الأعظم منها أفراد الأسر الحاكمة والعائلات التجارية الكبيرة التي تملك مساحات واسعة من الأراضي العقارية (المصدر السابق، ص ٣٢٠ – ٣٢١).

تبدو المُلكية الريعية في رؤية بعض الدارسين ومنهم خلدون النقيب وحليم بركات الذي استشهد بالأول في كتابه (المجتمع العربي في القرن العشرين)، وهو كتاب ضخم في أكثر من ألف صفحة! وكأنها في فراغٍ اجتماعي وتاريخي، ولكن ليست دخولُ النفط ريعاً، ولكنها دخول ناتجةٌ عن الحكم السياسي.

 والريع هو دخل ناتج من ملكية الأرض ولهذا فهو إيجار عن ملكية، وأحياناً يتم التوسع في الريع ليصير أي دخل نتاج ملكية عقارية.

 ولكن حكومات النفط لا تستأجر النفط، فهي حكومات سياسية، لا تملك النفط قانوناً، بل يملكه الشعب في أي دولة معنية، وأي دخل هو دخل سياسي، وليس دخلاً اقتصادياً، بمعنى إنه نتاج وضع احتكاري للسلطة.

 وثمة فرقٌ بين الإقطاع السياسي وبين الإقطاع الاقتصادي، فالإقطاع الاقتصادي هو كملكية الأراضي الزراعية التي ينتجُ عنها إيجار يدفع لصاحب الأرض، ويطلق عليه محلياً الضمان، وهو يجسد الإقطاع الاقتصادي أفضل تمثيل.

 أما الإقطاع السياسي وتملك فوائض النفط بصورة حكومية من قبل بعض الجماعات والأسر والحكومات، فهذا كله يتشكل في زمن الاستعمار باتفاق بين الدول الأجنبية المسيطرة والجماعة الحاكمة محلياً، أو بينها وبين المتنقدين أياً كانت ألوانهم، ثم تقومُ الجماعةُ الحاكمةُ المحلية بوضع يدها على هذا المال في زمن الاستقلال، وعبر هذه السيطرة الإقطاعية على جهاز الدولة تنمو المداخيل وتتشكل الطبقاتُ تبعاً لقربها وبعدها عن هذا المال المسيطر عليه، ولهذا تغدو هذه الطبقات والفئات تابعة ومنتجة من قبل الإقطاع السياسي الحاكم.

 ولهذا فإن تعبيرات فئات ريعية وقوى ريعية تقود إلى إخفاء الطابع السياسي والاجتماعي لمسألة الإقطاع، وكأن الحكومات التي تؤجر النفط وتستغله دخلاً هي مثل القبائل التي تبيع مياه الآبار على القوافل، وليس أنها مسئولة سياسية عن ملكية عامة لا تعود إليها، وكل تصرف غير قانوني له نتائجه التاريخية. (وكل ما بني على باطل فهو باطل شرعاً وقانوناً).

 ولكن تعبير (الريع) ينساق مع النظام الإقطاعي، فكأن بريطانيا تملك فلسطين عندما حولت ملكيتها إلى الجماعات الصهيونية. أو أن ملكيات الأسر للمال العام والثروات الاقتصادية كالمناجم هي ملكية شخصية وليست ملكية عامة لا تعود إليها.

 وإضافة على الغموض في هذا التعبير فإنه خادع سياسياً ونضالياً، فمصطلح الريع يجعل مسألة النظام الاجتماعي غامضة، وإذا غابت مسألة النظام الاجتماعي التقليدي و إنه نظام ما قبل رأسمالي فقدنا البوصلة التاريخية في إنتاج نظام بديل وحديث، سواء من قبل السلطات التي تشكل هذا النظام التقليدي أو من قبل قوى المعارضة التي ترتهن بهذه المظلة الاجتماعية – السياسية.

 ومن هنا نرى كيف تتحرك تيارات الإقطاع المذهبي في الحقبةِ النفطية، نظراً لظهورِ هذه الدخول الكبيرة فى المناطق الصحراوية ذات المستوى غير المدني، لهذا تغدو الثقافة الإقطاعية المذهبيةُ متفشيةٍ، وهذا لا يعني أن الثقافةَ العربيةَ المدنية السابقة خلت من حضور الإقطاع المذهبي، لكنها كانت متواريةٍ بمساحيق (قومية ووطنية) نظراً لذلك المستوى المدني لكن مع صعودِ المناطق الرعوية والزراعية تم ضخ هذه الثقافة المذهبية السياسية بتنويعاتها في الأقسام العربية الأخرى.

 وحسب مذهبية الأسر والجماعات الحاكمة يتم ضخ المادة الدينية، فتعودُ الصراعات المذهبية القديمة، لكن فوق ثروات وعلاقات دولية مختلفة.

 ومن هنا نستطيع أن نعرف تنويعات الإقطاع المذهبي في منطقتنا: السني، الشيعي، المسيحي، البربري، المهدي السوداني، الدرزي، الإسماعيلى، الكردي الخ.

 ولا تبدل المنطقة إلا معرفة تاريخية واستراتيجية بهذه القضية وعبر إنتاج ثقافة ديمقراطية توحيدية لجمهور المسلمين ومن يشاركهم فى هذه الرقعة الواسعة.

 أما كلمات مثل الريع فهي خاطئة اقتصادياً وتغييبية فكرياً. .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 30, 2023 16:55
No comments have been added yet.