عدم الإيمان والعقلانية

يتمثل الإيمان الديني الإسلامي أساساً بالإيمان بقوى الأغلبية من المسلمين العاملين لنهضة حياتهم ولتقدم الأمم الإسلامية.
وكان الإيمانُ توحيداً، على مستوى الألوهة ومستوى البناء السياسي.
وقد قامت القوى المحافظة بتمزيق وحدة صفوف المسلمين، فيما هي ترفعُ لواءَ الإيمان الذي لا تؤمنُ به.
إن كلَ أمةٍ وكلَ مجموعة من الأمم لها نسيجها من الوعي الديني، وتنمو إراداتها السياسية التحديثية داخل هذا النسيج، وبطبيعةِ الحال هناك خيارُ الألحاد، وهو خيارٌ مستقبلي إلغائي للحاضر وللأمكانيات العقلانية التدريجية فيه.
حين يلغي السياسي وربما كان باحثاً وقائداً كبيراً الإيمانَ الديني، فإنه يحلُ ذاته المتضخمة محل الذات الإلهية، سواءَ كانت وجوداً محضاً كما يؤمنُ المؤمنون بها، أم كانت رمزاً تاريخياً لهذه الأمة أو تلك.
ومن هنا رأينا كيف أن العلمانيين والملحدين الأروبيين في نشرهم لمختلف صنوف وعيهم من علوم ومن نظريات، كانت أغلبيتهم تركز على نقد مرجعيات رجال الدين المحافظين، وتدعو لأسس نهضوية جديدة لحياة الأغلبية الشعبية وهي مصدر الإيمان. فكان إنتصارهم وتقدم أفكارهم.
فأي فكر ديني أو إلحادي أو علماني لا يعمل لتطوير حياة الأغلبية الشعبية من العاملين، يتم نفيه من حركة التاريخ، ومن هنا كان الإسلامُ المؤسس هو القائد في تغيير حياة الجمهور الشعبي المتخلف الذي كان يعيشُ في مؤخرة العالم!
وكانت الدول التي جاءت بعده يعتمد وجودها أو تفتتها على مدى حفاظها على ذلك المبدأ.
وهذا من حيث حركة التاريخ العامة، فماذا عن خيار الألحاد؟ إنه لا يختلف عن ذات الخيار الديني، لكنه كنظام يسقط كذلك، فمن حيث حركة التاريخ العامة ينطبق عليه ما سبق، فإذا كان متوجهاً للحفاظ على مصالح الأغلبية من العاملين والمنتجين فإنه مع حركة التاريخ التقدمية، وإذا انحرف وأغدق على الفئات البيروقراطية والعسكرية الحاكمة المتنفذة، فإنه يسقط مثل الأنظمة الأخرى.
حين يتضخم القائد للنظام الديني أو الألحادي أو العلماني أو القومي ويحتكر المنافع لذويه وحزبه، فإن حركة التاريخ تلفظه، وهي تجعله داخلها فقط لأنه قادر على السيطرة المرحلية إلى حين، وحين تتوقف الموارد التي يعتمد عليها تحدث عملية الحراكِ المدمرة، أي التي لم تخضع لضبط اجتماعي عقلاني من قبل الجماهير.
حين يلغي القائدُ الإلحادي المؤسسات الدينية المستقلة والأحزابَ المعارضة له فإنه يريد أن يحلَ محلَ الإرادة الإلهية، بالضبط كما يفعل الحكام الدينيون الفاسدون السابقون، فأختلف الشكل.
وإلغاء الدين هي عملية لرفض التطور الديمقراطي الطويل لأغلبية العاملين، مثلما يكون إحتكاره من قبل بعض رجال الدين المحافظين، أو من بعض المذاهب التي تدعي أنها الوحيدة القادرة على فهم الدين!
وفيما أن القائد الشيوعي يقول بأنه يستند على العلوم الحديثة، يقول الزعيمُ الديني المتنفذ إنه يعتمد على العلوم الشرعية، وكلاهما يعتمد على البطش، وسواء جاء عبر دولة بمؤسسات قمعية حديثة أو عبر مليشيا شعبية مغسولة الوعي.
الألحاد والإيمان الديني المغلق كلاهما إنكار للتطور المتدرج لأكثرية المسلمين، فالملحد العدمي كف عن القراءة ومتابعة تطور أمته، ورؤية سبل تطورها العقلانية المتدرجة والكفاح داخل هذه السبل، وأحل ذاته الشمولية التي تصدر الأوامر من عليائها.
مثله مثل القائد الديني المحافظ المغلق أحل ذاته بذات السبيل، وجعل فكرته الدينية مصدراً للحكم، فعلى الأمة أن تتبع فكرته، وليس أن فكرته تعبر عن مشاكل الناس وتناقضاتهم وتنوعهم وتعدد سبل تطورهم وأن يرهف أسماعه وأبصاره للتحولات المعقدة في حياة أمته لكي لا يجعلها تذوب وتمسخ بل أن تقاوم وتتحدث!
كل من الملحد والديني المغلق والعلماني المستورد يريد الأمة أن تمشي على برنامجه المعد سلفاً، بسبب محدودية بيروقراطيته الحزبية ولجنة جماعته القائدة، والتي يتوهم إنها عرفت التاريخ كله.
وفيما أن الملحد يلغي تراث أمته، فإن الديني المغلق يجمد هذا التراث، وفي كلا الحالتين فإن التراثَ معطل، مرة بسبب رفضه، ومرة بسبب إلغاء تطوره وتاريخيته، ولكن التراث المحافظ موجود ويتحكم في حياة الناس، ويحدد زواجهم وطلاقهم وإرثهم وكيفية موتهم وعلاقاتهم وحكمهم وعقودهم الخ..
والألغاء لا يشل حضوره، والتجميد يزيد من مشاكله، ويقلل من إشعاعه، وبين العدمية والحفظ في الثلج، يعتمد وعي الأمة على العقلانيين الذين يدركون إستحالة الألغاء والتجميد معاً، ويبحثون عن سبل التغيير الممكن، حفاظاً على الإرث وذواب الأمة في الفراغ، وتطويراً لحياة الناس، بما يحقق التقدم والمعيشة الجيدة لأغلبية المنتجين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 14, 2023 21:45
No comments have been added yet.