الغموض الإبداعي عزل للشكل عن المضمون، وللكاتب عن المجتمع

حاوره – كمال الذيب:

قضى الروائي والكاتب الصحفي البحريني المعروف عبدالله خليفة أكثر من 30 سنة يكتب في الصحافة الثقافية، وأكثر من 15 سنة مشرفا على الصفحات الثقافية، شاركته خلال الخمس سنوات الأولى في اصدار الملحق الثقافي في أخبار الخليج، محررا ومقدما للإصدارات الابداعية، البحرينية وشاركته أزمة هذه الصفحات وتقلباتها بين امزجة رؤساء التحرير، وكيف كان الجميع يضحي بالثقافة عند أول أزمة او ضائقة مالية تمس الصحيفة، لقد كانت الصفحات الثقافية جزءا من الظاهرة الثقافية، يعوزها كل شيء تقريبا، بالرغم من توافر الطاقات البشرية والإبداعية المتميزة. هذا النقص في الإمكانيات كان مرده بالدرجة الأولى إلى أن الكائن الثقافي منبوذ من كل الفئات والطبقات الاجتماعية.
هذا الموضوع كنت قد ناقشته مع القاص عبدالله خليفه قبل رحيله، عندما عقدت العزم على اجراء مسائلات مع عدد من الكتاب والمثقفين والفنانين البحرينيين المميزين، لتضمينها في إصدار حول الثقافة في البحرين، وكان عبدالله في مقدمة هؤلاء، إلا أن الاجل المحتوم وافاه قبل اصدار هذا الكتاب الذي ما يزال منذ اكثر من عام ونصف تحت الطبع، ولذلك عزمت على نشر جانب من هذه المحاورة حول أوضاع الصحافة الثقافية وتحولاتها واشكالاتها في البحرين، بما تسمح به المساحة المتاحة.


قلت لعبدالله: وكيف تقيم وضع الصفحات الثقافية وأنت أحد المشرفين عليها؟ وكيف انعكس الوضع الثقافي الراهن في تقديرك على مستوى الصفحات الثقافية؟

الحديث عن الوضع الثقافي الراهن في البحرين والحالة الثقافية العامة وانعكاساتها على الصفحات الثقافية موضوع متشعب.إن علينا أولاً أن نقرأ الحالة الروحية في الثقافة، لقد كانت الحالة الثقافية في الستينات وبداية السبعينات صاخبة وقوية وحيّة، حيث كان توجه الأدب والثقافة نحو العمل الجريء، وكانت النصوص تصدر عن روح وثّابة شجاعة، لا تخاف من تحليل الحياة بمشرط حاد. ورغم أولية التجربة للجيل الشاب حينذاك، إلا أن ذلك الجيل كان قوياً جريئاً، يهز الحياة، ولا يخاف من عرض المشكلات والنقد، وكان الكثيرون يكتبون، ويبدعون، وينتقدون أنفسهم، وكانت الصحافة الأدبية تنشر ما يكتبونه فوراً، وكان يحصل على صداه. كانت القصص والقصائد تُناقش وتحلل في جلسات أدبية شخصية، وكان القراء على صلة بهذا النتاج. أذكر كيف كانت ندوات عديدة لأسرة الأدباء والكتّاب تُقام في أندية المنامة والمحرق المتعددة، داخل قاعات صغيرة، وترى حشوداً من الناس في هذه الغرف والقاعات مستمتعين بالحوار والنقد. وغالباً ما توضع الكتابات الجديدة على محك هذه اللقاءات، كانت قصصنا تُقرأ في ندوة، ويحدث حوار مفتوح لها، وأحياناً بدون أي إعداد مسبق، ولكن النقاش يفيض، والكاتب يحس أنه جزء من حياة، وجزء من بشر يقرأون، وليس حاله مثل الآن، يضاجع الأوراق فحسب التي لا تلد سوى الصمت. وكان رؤساء التحرير، من أمثال محمود المردي، وعلي سيار، وعبدالله المدني، أناساً مثقفين وأدباء، يتذوقون الكتابة الإبداعية، ولهم مشاركات فيها، وكانت تحدث حوارات مع الكتّاب من قبل رؤساء التحرير، هؤلاء الذين يناقشوننا في قصصنا، ويدعوننا للوضوح، وصياغة قصة أكثر تماسكاً، وعدم التركيز دائماً على السياسة. لقد كانت أسرة الأدباء والكتّاب منفتحة، تعددية، ذات مناخ ديمقراطي، وليس ثمة أي قطب يذوب فيه كل الأقطاب الأخرى، أو شلة تستولي على النشر وترتيب الندوات، كنّا أشبه بالجوالين والكشافة، ننتقل من نادٍ إلى ناد، ومن أمسية إلى ندوة، ونتحاور بقسوة أحياناً، ونكتب بضراوة وكثرة على مختلف الجبهات والصفحات. لم يكن الهدف من الكتابة الحصول على نقود أو شهرة بإحداث الفعل الثقافي التنويري. وكانت الندوات العامة التي تحدث في قاعة الأندية مليئة بالجمهور المتعطش إلى المعرفة، حيث كان الكتاب والصحيفة والندوة هي وسائل الإعلام القوية. لكن كل هذا تغيّر اليوم، وجاء مناخ ثقافي مختلف، عبر حدوث التغيرات الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة. فالمدن صارت مليئة بالأجانب، وعزلت الأندية عن دورها الثقافي، وصارت محتكرة من قبل إدارات من أناس بعيدين عن الثقافة، ولذلك لا يقودها الأدباء والمفكرون، لقد عزلوها عن مناخها الفكري، وركزوا على الرياضة مما أدى إلى جعل الشباب بلا خلفية ثقافية. وأتذكر أن النادي الذي كان في منطقتنا، كان شعلة من النشاط الأدبي والفني، فيه فرقة مسرحية، وفرقة موسيقية، ومجلات حائطية، ومجلة مطبوعة، وكان يصنع العديد من الهواة في الثقافة، ويستضيف ندوات عديدة، ولكن عندما جاء أعداء الثقافة طردوا الفرق المسرحية والموسيقية، حتى أن أدوات الفرقة الموسيقية كانت تُرمى في الشارع، وهذا ما حدث في الكثير من مجالات الوعي، لقد بدأ مدٌّ رجعي معادٍ للثقافة. وهكذا أصبحت قوة الثقافة الوطنية «مخترقة» على كافة الجبهات، لقد كان العدو يطلع من صفوفنا، فظهرت نغمة «الشكلانية» الواسعة، ودعت الكتّاب للتخلي عن «الكلمة من أجل الإنسان» وصار الغموض لغة تفجيرية تؤدي إلى عزل الشكل عن المضمون، والكاتب عن المجتمع، وتؤدي إلى الغرق في متاهات تجريدية ولغزية تُدمّر الأدب من الداخل. ولقد فقدنا كتّاباً كثيرين بسبب هذه الطريقة، لأن مبادئ الوعي المضيء والوطني، واعتبار الكاتب قوة تغيير روحية في المجتمع، تضيع، ويتحول الكاتب إلى مهووس بذاته، وتشرخه أحلام جنون العظمة والتعملق الفارغ. ومن جانب آخر، فإن مشكلات الحياة الحادة المتفجرة مثل الصعوبة المادية تؤدي إلى فقدان البقية الباقية من الكتّاب. ولهذا فإن الواقع الفكري يتهشم ويتقزم، وتروح وتذهب عن الكاتب الهام والجريء فلا تجده، لقد ندر مثل الجن، وكأن الحياة الثقافية التي كانت تندفع مثل القطار في السابق أصبحت مثل سيارة مثقوبة الإطارين، ومع ذلك فإن سائقها يحاول السير بين الرمال والحصى. ولا شك أنك تدرك اليوم الفروق الكبيرة بين الصفحات الثقافية خلال الفترة من 1965-1975 والصفحات الثقافية في الثمانينات، حين كان النشر صعباً، كانت القصص والقصائد تفيض بالمعاني العميقة، وترتبط بهموم الناس، هذه القصص والقصائد يصعب نشرها في الصفحات الثقافية الآن.
إن هذا هو الأمر المثير للغرابة والحزن، فلن تجد في جرائدنا اليوم أي قصص وقصائد ملفتة، وجريئة ومثيرة للقلق والغضب، ولهذا فإن المبتدئين يحصلون على فرصتهم في نشر محاولاتهم الأولى في صفحات القراء فقط. وإن الأوضاع العامة تنعكس بقوة على الحياة الثقافية، فليس هناك احترام للاستقلالية الإبداعية وأهمية مستويات الثقافة المستقلة في البنية الاجتماعية. كما أن أدوات الإعلام الجماهيرية مثل التلفزيون والصحافة هي التي تلعب دورها في غسل أدمغة الناس، إنه الغسيل الإعلامي اليومي الذي يطحن الإرادة والوعي الناقد، ويحولهما إلى مسايرات جزئية وانطباعية ومحدودة لما يجري، إن الناس يعيشون في بناء إعلامي زائف، كرّسه النشاط الإعلامي اليومي الكاذب. فمشكلات الناس الجوهرية يجري تغييبها إعلامياً من قبل الإعلاميين أنفسهم، وإحلال مشكلات أخرى جزئية ومحدودة مكانها.
لقد كانت الصفحات الثقافية أحد المتنفسات والرئات النظيفة للوعي والمجتمع، ولكن تم الإجهاز عليها، فما ينشر من كتابات وأعمال اليوم بائس إلى أقصى درجة. وحتى مساحة الكتابة الأدبية قلّت، في حين تمددت مساحات الشعر النبطي، والدعاية، وقضايا «النجوم» المنطفئة، والكتابات السهلة المسطحة التافهة المنافقة.
إن وسائل الإعلام الجماهيرية، خاصةً التلفزيون، تقود عملية غسيل الأدمغة، وتضع الناس في أحلام وردية، ومشكلات جزئية بسرعة وخفة، ويتم التوجه إلى تغريب المواطن، وتسطيح وعيه. ولكن هناك جوانب إيجابية في هذه الثقافة، حيث أن الأقلام الجيدة منتشرة في الصحافة، ويوجد العديد من الكتّاب الذين يعالجون قضايا الحياة، والسياسة، والثقافة من منطلقات إيجابية.إن سيطرة وسائل الإعلام الجماهيرية قد قادت إلى تهميش الأدب والجماعات الحديثة، وأبرزت القوى العتيقة والطائفية، فلم يعد للناس منابر وأصوات مدافعة عن مشاكلهم، فلجأوا إلى المنابر الدينية، واتسعت الظاهرة الدينية لهذه الأسباب بالدرجة الأولى، في حين لم تستطع القوى الحديثة، الليبرالية والديمقراطية أن تظهر من خلال التلفزيون، فقدراتنا على صياغة فن جماهيري سواءً كان مسرحياً أو درامياً ضاعت لأسباب كثيرة، مثل عدم جديّة المسرحيين في التطور، والبحث الفني، وضآلة الإمكانيات المادية، والرقابة التي جمّدت الفنون الجماهيرية البحرينية عموماً، ولهذا عندما صغنا بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية كانت أشبه ب «الفضيحة» مثل: «أم هلال في القاهرة»، في حين نجحت الأعمال التي التزمت بالجدية والنص الأدبي المعقول، واعتمدت على طاقة الشباب الوفيرة، هكذا مثلاً تألقت الكتابة الجميلة مع الوعي التنويري الجاد مع المواهب الشبابية، مع تنوّع العطاءات والطاقات الإبداعية، ليكون العمل الفني الدرامي أفضل من عشرين كتاب تنويري، لماذا؟ لأن المسلسل الدرامي له حضوره الجماهيري الواسع، فكيف سيكون الأمر لو تضافرت طاقات الكتابة المتنوعة داخل هذا الجهاز التلفزيوني الخطير، وأتيحت الفرص لمختلف الأقلام والأجيال الفاعلة التنويرية؟ لقد كان مسلسل «العائلة» المصري أهم من ألف كتاب عربي، فلماذا لا يحدث تعاون خلاق لإنتاج أمثال هذا المسلسل في خليجنا، حسب قدراتنا، ومشاكلنا؟ إن ما تحتاجه هو الثقافة البحرينية الحديثة «الديمقراطية» هو أن تتاح لها الفرص في مختلف وسائل الإعلام الجماهيرية، وأن يتعلم الكتّاب استخدامها، وتطوير أعمالهم الإبداعية في مختلف الجهات
.

قلت لعبدالله: الصفحات الثقافية تبدو مشوهة في إطار ما ينبغي أن نقوم به من دور في الساحة الثقافية، فهي منزوعة الوظيفة تعيش في حالة من الهلامية الرخوة بلا عظام، فما الحل من وجهة نظرك لتستقيم هذه الصفحات؟

عبدالله خليفة

ما لم تصبح الثقافة ضرورة فلن تنمو لها عظام، ولن تتحول إلى مشروع. وهذا شأن كل الصفحات الثقافية فهذه الصفحات بلا رؤية وبلا استراتيجية. وإذا أريد للثقافة أن تكون مشروعاً، فإن الصفحات الثقافية يمكن أن تكون جزءاً من هذا المشروع، المطلوب هو أن تتحول الصفحات الثقافية إلى جزء من رؤية ثقافية وفكرية تخدم حركة التاريخ…أما والثقافة مهمشة في واقعنا العربي، فستظل الصفحات الثقافية مجرد ورقة توت نغطي بها عوراتنا لنقول إننا نهتم بالثقافة. وتطوير الصفحات الثقافية يجب ان يتصل بتطوير الثقافة نفسها، وتطوير الثقافة يجب ان يرتبط بقانون الفعل الثقافي، لا بد من وجهة نظري أن تتحول الصفحات الثقافية إلى شريحة من الواقع الثقافي، يقودها ويكتبها وينشطها شعراء وقاصون ونقاد ومفكرون، ولا بد أن يكون في كل صحيفة قسم ثقافي ينخرط فيه عدد من المتحاورين والمثقفين والمبدعين والمفكرين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 30, 2023 22:11
No comments have been added yet.