اليهودُ من التراث إلى الواقع

ظهر اليهودُ والعربُ وبعضُ الأقوام الأخرى في منطقة المشرق كقبائل نازحة بدوية باحثةٍ عن المناطق النهرية الخصبة، لكن ذلك لم يحدثْ في أول النزوح بل بعد مئات السنين.
في حراكِ اليهودِ المتوجهِ نحو البلدان الخصبةِ كانوا في البدءِ قبائل بلا هوية محددة، بل كانوا يشكلون هويتهم، عبر الاحتكاك بالحضارات والأقوام الراسخة في المنطقة، ولهذا كان عبورُهُم المستمرُ الذي أعطاهم فيما بعد اسم العبرانيين، مثلما أعطى العربَ تعبيرهم، يَتسمُ بالبحثِ عن المنافع والخصبِ لكنهم كانوا بداةً غلاظاً.
رؤوساءُ العشائر الكبار اتخذوا لهم أسماء تاريخية وهم: إبرام، وإسحاق ويعقوب.
عبّرَ حراكُ العشائرِ اليهوديةِ عن البحث عن المناطق الفارغةِ من السكان والشعوب الكبيرة مثلهم مثل شعوب كثيرة مترحلة وَجدت في منطقة الأنهار هذه قبلة إقتصادية، ولكنهم دائماً كانوا يجدون الأمكنةَ مليئةً، وأقل الأماكن من الشعوب الكبيرة كانت الصحارى فكانت شمالُ الجزيرة العربية هي الامتدادُ التاريخي لهم. وهي تمضي من جنوب العراق حتى سيناء والصحراء المصرية الشرقية. بل وحتى هذا المكان الكبير الوسع الشظف كان فيه العرب أقرانهم والمتداخلين المتصارعين معهم، والذين انحدورا للجنوب، وهناك العماليق كذلك، أما مناطق الخصب في العراق وفلسطين وسوريا ومصر فكان الدخول فيها عسيراً، وقد تم إقتحامها والصراع مع الكنعانيين في حران وأريحا لكن السيادة والعيش الرغد لم يأتيا.
القلة العددية لمؤسسي العبرانيين فيما بعد، والبداوة، والترحال، وهجمات الأقوام الأخرى، جعلتهم على هامش الحضارات التي قاربوها.
والجثومُ على الحدودِ المصريةِ من قبل هذه القبائل كانت البدايةُ الفعليةُ للتاريخِ اليهودي كما سيُعرفُ لاحقاً. لهذا كان التاريخُ السابقُ المليءُ بشذراتِ القصص هو مجردُ بدايةٍ غامضة، وإفتتاحية شبه مجهولة، وكان تاريخاً غائب الملامح رغم أن التأصيلَ اللاحقَ سوف يضخمه.
لهذا كان ظهورُ النبي موسى واقعياً في المسار التاريخي الحقيقي هنا، فهذه الأقوامُ من الرعاةِ والخدم وأصحاب المهن الدنيا الجاثمة على هامش الدولة المصرية، من الصعب أن يظهرَ فيها مثقفٌ بارزٌ بمستوى موسى، ولهذا كان موسى مصرياً بكلِ شخصه، كما يدلُ عليه اسمهُ وثقافته، أما التهويدُ الطفوليُّ له فقد جاءَ لاحقاً. فهو في اللغةِ المصريةِ القديمة بمعنى(وليد).
وثمة فترةٌ مهمةٌ بين ظهورهِ التاريخي وبين ظهوره الواقعي، حيث كان قد تزوج صفوره ابنة الكاهن في أرض الميدانيين وهي في المنطقة القريبة من التجمع السكاني الكبير للعبريين، وانجب منها ولدين وكَبُرا وتداخلت حياتهما بالحدث التاريخي، مما يُعطي مساحة زمنية للتداخل العميق مع هذه الحشود المهمشة.
وهذا السردُ الذاتي تداخلَ مع التحولاتِ التاريخية على الجانبين المصري والعبري. حيث أن الحضارةَ المصريةَ كانت في حالةِ مخاضٍ متنقلة من الوثنيةِ التعددية الكثيفة إلى التوحيد، وكانت تلك هي لحظة إخناتون التوحيدية الفاشلة، وتوجه موسى للتوحيد ومفارقته أرض مصر وحمل هذه الأقوام لرسالة التوحيد. انهما جانبان وحدا الذاتي والموضوعي، لكن حشود المرويات وألغاز التاريخ والنظريات، كلها تشوشُ هذه اللحظة المركبة المعقدة.
لكن توحيد موسى ورسالته وتحميلها لشعب وثني من قبائل صغيرة فقيرة في خضم إمبراطوريات المشرق، يظل لغزاً كبيراً. لكن الجانبين المتضادين، موسى والعبريين، ظلا يتصارعان، فأن نقل الثقافة المصرية التوحيدية البازغة لقبائل بربرية كانت عملية غير ممكنة عملياً، لكنها غدت مهمة قرون، وقد بدت المرويات الموسوية الموجهة لتثقيف وتديين هذه القبائل غير محبوكة على الجسد القبلي المفتت البدائي الذي ظلتْ الأرضُ الموعودةُ التي تفيضُ لبناً وعسلاً هي الوجهة التي تشده دون سواها.
إن التاريخَ اليهودي يبدأ هنا بإستخدام اسم الإله (يهوه)، إن النبي موسى هو الذي صاغهُ على جسم هذه القبائل ورَكّبَ موادَهُ الشعائرية والعبادية وأنتج بعضَ مواده الفكرية الدينية، لكي تصهرَ الكيان المفَّتتَ في كلٍ موّحد، وجاء اسمُ الإلهِ مفارقاً لإرث القبائل، ولكن الاسم القديم التجسيدي الطالع من ثقافةِ الخصوبة الزراعية الوثنية لم يعد ملائماً، فجاء اسمُ الإلهِ الجديدِ المُجرد، غيرِ المرتبطِ بالموروثِ الزراعي الخصوبي وعاداته، ويحملُ طابعَ القوة والتحدي ويجلجلُ بتراثِ منطقة البراكين لشمال الجزيرة العربية، مما يُعطي شجاعةً لهذه القبائل المُداسة على الشارع العام للأمم، ويدفعها للأرض الموعودة. ومن المؤكد إن إعادة تكوين ديانة أمر يحتاج لوقت طويل. كما أن الأرض الموعودة مليئة بالسكان المدافعين عنها، ولهذا قيل أن ثمة تيهاً قد حدث لأربعين سنة، وهو ليس تهياً بل هو تكون للدين الجديد العام دون إنفصال كلي عن القديم، كما أن ذلك كان عجزاً عن الدخول إلى فلسطين وتراكماً للمواليد وإستعداداً صعباً للغزو!
أدت ظروفُ النشأةِ اليهودية وصغرِ حجمِ السكان وسيطرة رجال دين غرباء على العبرانيين، إلى حكمٍ سياسي مفكك، فاللاويون وهم رجالُ الدين المجلوبين من مصر شكلوا طبقةً مسيطرة شبه أجنبية، إستغلتْ السكانَ العاملين حتى إنتفضوا عليها وإستبدلوها بعصرِ الملوك الذي لم يكن أفضل.
مثّل طابعُ الدينِ اليهودي أولَ حكم ديني عميق الاستبداد، يمركزُ قوة سكانية صغيرة محدودة المعرفة والجذور في المنطقة في مواجهة شعوب واسعة وثنية، فكان لا بد أن يتوقع بقوة، وفي زمن إنكسار الدولة عبر الغزو العراقي، أتيح لرجال الدين الجدد في بابل أن يعيدوا صياغةَ اليهودية بحيث تتجذر في تراثِ المنطقة الخصوبية بدون أوثانها، فكانت إعادةُ نظرٍ شاملة مؤدلجة مسيسة إستلهمت التراث المناطقي الواسع الضارب في الجذور عبر مسحة تهويدية قُدمت فيما بعد للعالم المسيحي.
لكن بعد هذا كان زمنُ الشتات، الذي ترسختْ فيه القوقعةُ الدينيةُ لدرجة العصاب اليومي، وكل هذا العصاب يجري من أجل العودة لفلسطين الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، أرض الأجداد والتاريخ(العظيم) الذي زُخرف وبُولغ في عظمته وبطولاته.
التقوقعُ خلقَ رغبةً عارمة في تشكيل وطن قومي ديني، مفارق للبشرية، أتاحته القدرة اليهودية في تكوين رأس المال، لكن حين ظهر الوطن ظهر كقوقعة محصنة معادية للمحيط، وبقاؤه ك(جيتو) كان لا بد أن يهيمن عليه رجالُ الدين المتعصبين المنتجين لهذا المجتمع عبر عدة آلاف سنة، فكان لا يمكن أن يكون علمانياً، وأن يغدو ديمقراطياً يقبل بتنوع المواطنين الديني.
ونظراً لنشأته العسكرية فإنه إعادَ إنتاجَ نفس موديل الزمن القديم، حيث الهيمنة العسكرية- الدينية المتداخلة، وهذا هو ذات التركيب للمجتمعات المتعصبة والفاشية، حيث العرق أو المذهب هو المحدِّدُ لتكوين الدولة الإلهية أو الطائفة المنصورة.
لكن الإنشاء من قبل الرأسمال الكبير المتكون في ذروة الغرب كرّسَ من الخارج شكلاً حداثياً متطوراً، وهو بناءٌ إقتصادي متطورٌ لكن عبر شكلٍ سياسي إيديولوجي يعودُ لقرون غابرة ويفرضُ نفسَهُ بهذا التسلط التراثي المرعب، فالمضمونُ لم يغير الشكل والشكلُ يخربُ المضمون. وكأن الرأسمالَ الأمريكي عادَ لبيتِ أيل ويغتسلُ تحت مطر إلهِ البراكين.
الطابعُ العسكري الديني المحافظ العنيفُ المكرّسُ في الماضي والحاضر، وسببُ خرابِ الحكم القديم هو نفسه يزعزعُ إسرائيل المعاصرة، حيث قاد ويقود لتكاليف رهيبةٍ على كل جبهات النزاع فلم يؤدِ التطور الاقتصادي لرفاهية السكان المنتظرة، ولم تغدُ أرضُ الحلم التي تفيضُ عسلاً ولبناً، بل هي أرضُ الحروب والخصومات المستمرة، وإرتفاع تكاليف المعيشة بحيث أن ثمن شقة في يافا يصل إلى مائة وخمسين ألفاً من الدولارت.
التقوقع الداخلي الذي لم تهزمه الحداثة والديمقراطية، ما زال مصراً على الأنا المطلقة المتحدثة مع الإلهِ وحيدةً دون الأغيار، لكن الصراعات الاجتماعية ومطالب الأغلبية العاملة تكسرُ جزءً من هذا الإنكفاء التاريخي، وها هي تثور مثل العرب سكان العالم الثالث، تطالبُ بأقل بكثير من تلك الأرض الحلم، تطالب بالإسكان وتخفيض الأسعار.
ويتضح النهجُ اليميني المتطرف أكثر في عدم القبول بالعيش المشترك مع الفلسطينيين في دولةٍ علمانية واحدة أو في بلدين منفصلين، وتحميل الفلسطينيين تكاليف الأزمة الاجتماعية الناشئة من سلسلة طويلة من الحروب بتوسيع المستعمرات وحصار غزة.
ولم يستطع التكون الحداثي أن يفرض تحولاً في هذه الثقافة الدينية الرجعية المتكلسة بل هي التي تخترقُ التيارات الحداثية الظاهرية وتحيلها لأشكال أخرى من المقاربة الدينية.
فكلما كانت التربية المحافظة مسيطرة منذ الطفولة في أشكال حادة عصابية فإنها تحيلُ المواطنَ الحداثي إلى كائنٍ يعودُ يومياً لعصور الهامشية على حدود مصر ويمضي (التيه) في سيناء ويعيشُ الكراهيةَ الدائمة للأمم الأجنبية. ولهذا فإن اليسار الحكومي يشترك مع اليمين الديني المتطرف في حكومة واحدة تغتصبُ الأرضَ وتحيل الاقتصاد إلى إقتصاد عسكري يقع عبئهُ على السكان الذين لا يجدون قوة سياسية كبيرة ترفض إقتصاد الحرب ودولة الدين العسكرية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 17, 2023 01:01
No comments have been added yet.