العنفُ مبررٌ ضد الصهيونية
اليهودية وإنتاج العنصرية
لم تتشكل تجربة حضارية ديمقراطية كبرى راسخة عميقة متوارثة لدى قبائل اليهود المشتتة عبر خرائط الأرض. ثمة قدراتٌ فذةٌ تراكمتْ في مجال العلاقات التجارية والنقدية، فنجد القبائل اليهودية وهي تخرجُ من أحضانِ التجمعاتِ القرابية المتماسكة المنغلقة لا تندمجُ بالمجتمعاتِ الحضارية شبهِ الرأسمالية وشبهِ الديمقراطية في المدن والدول التي تنزحُ إليها.
وسواءً كان ذلك بنزوحِ القبائل من فلسطين إلى مصر أو إلى بابل، فإن التجمعَ التحديثي شبه الرأسمالي أو المُـقاربِ للحداثةِ في ذلك الزمن، يبقى منعزلاً عن الاندماج. إن القبليةَ الدموية السلالية تبقى مهيمنةً على العلاقاتِ الماليةِ البضائعية، وتعيدُ فوائضَها إلى أحضانِ الجماعة القبلية – الدينية المتماسكة.
هناك جوانبٌ عقيدية تتأس من البذور الأسرية والقبلية، برفضِ الاندماج مع (الأغيار). فهناك اليهودُ وهناك الأغيار. ولا مجالَ للخلطِ والاختلاط والتداخل والنمو المشترك. ومن هنا تغدو العقيدة مشبعة بالتفاصيل الخاصة المميزة؛ في رسم الوجود، في ذكر السلالة والأنبياء والحكايات الحقيقية والخيالية والمحرمات والطقوس، لكي تبقى القبيلة – الشعب، في وصاية الكهنة.
لعل بعض الاختراقات المحدودة أو الواسعة تمت لهذه العرقية الزرقاء، المتعالية فوق الشعوب، ولا يعقل أطلاقاً أن يحتفظ أي عرقٍ بنقائهِ الأبدي.
ونلاحظُ هذه العقيدةَ بعدمِ الاندماج مع الأغيارِ حتى في الرمزياتِ القصصيةِ المقدسة للأديان، فالقائدُ اليهودي يتاجر ويجمعُ ثروةً ويصلُ لمنصبٍ كبيرٍ في الدولة، لكنه لا يختلطُ بالخاصةِ أو العامة الأهلية في البلد الذي ارتفع فيه من الحضيض لذروة عالية، والعلاقة الأسرية تقومُ على استدعاء أهله، وجلبهم للبلد الغريب، ويرفضُ العلاقةَ الجنسيةَ الانصهاريةَ مع هؤلاء الذين احتضنوه!
إن تجميعَ المال بصورةٍ مقترة متراكمة، والعيش في القواقعِ الاجتماعية أو الزرائبِ السياسية، والتمدد المستمر نحو عروقِ الذهب والفضة، نحو الأمكنة التي تتفجر فيها الثروات هي خصائص البقاء والصعود الاجتماعيين.
وكذلك الحفاظ على القرابية لكونها تحتفظُ بتراكمِ رأس المال، والاختلاط مع الأغيارِ يزيلُ ليس الدم النقي بل عروق الذهب التي تشتهي أن تصيرَ جبالاً!
لقد كان الترحالُ الأوليُّ في التاريخِ المبكرِ للقبائل الشديدة المحافظة بحثاً عن موقعٍ خصبٍ بعيد عن سنابك الإمبراطوريات الداهسة لها، وكان حلمُ النهرِ الخصب والأرض الخضراء هو الجنة الأرضية التي تريدها.
لكنها في ذلك الموقع، في أرضِ فلسطين نفسها، الجنة الموعودة، حلم
الأجداد والآباء، رأتْ الكوارثَ الساحقة لها.
مرة أخرى حافظتْ على مصارعةِ الأغيار، ورفضِ الاندماج بالشعوب، ورفض تقاليدها وميراثها، وفي العمقِ كان هناك توظيفٌ لذلك التراث واستلاله من نسيجهِ المغاير، والتزاوج الخفي والاختلاط غير المكتوب في سيرة القبيلة – الشعب الذهبية النقية.
هذا التاريخُ الانفصالي الصراعي مع الشعوب ربما تضَخمَّ وتوسع كثيراً في مملكةِ الخزر، الواقعة قرب بحر قزوين، هذه التجربة اليهودية التي حاولتْ الإدماج في شعوب الشرق وتنامت في التاريخ بشكلٍ كبيرٍ ومتحضر، لكن الخلايا السرطانية كانت موجودة كذلك.
في هذه التجربةِ التاريخيةِ الكبيرة نجدُ أن القياداتِ اليهوديةَ لم تستطعْ أن تستثمرَ هذا الموقعَ ومواردَهُ الكبيرةَ والشعوبَ الخام التي كانت تقدم قوى عملٍ ضخمة، بسببِ عدم قدرتها على خلقِ نسيجٍ توحيدي عقائدي أو ثقافي منفتح، وفي حين حقق المسلمون ذلك بانفتاحهم على الشعوب الوثنية ودمجها في حضارتهم، تهاوتْ تجربةُ مملكةِ الخزر، يقول باحثٌ عربي ملخصاً هذه التجربة الفريدة:
(ومن المؤكد أن الخزر لم يكونوا عِرقاً واحداً أو ينتموا إلى قبيلة معينة، ولكنهم تجمع سياسي وعسكري من الشعوب والقبائل، وكانت اليهودية التي تجمع دينياً بين قادتهم ونخبهم الحاكمة والمؤثرة، فكان اليهود الخزر ينتمون إلى أعراق وشعوب وقبائل متعددة، فقد كانوا هم أيضاً تجمعاً نخبوياً يشملُ قيادات ونخب الخزر أنفسهم)،(تاريخ يهود الخزر، عرض إبراهيم غرايبة)
إن النخبَ اليهوديةَ لم تكن قادرةً على صهرِ الشعوب التي تحكمها، لغيابِ الفكرة المنفتحة الإنسانية، غير العرقِية، وتقوم الشعوب الأخرى بصهرها فيها.
وهنا يظهرُ العصابُ الأسطوري، تتفجرُ صور فلسطين، الجنةُ الأرضية الصاهرة لما هو مشتت، وتظهرُ مشروعاتُ العودةِ التي تبقي القبيلة الذهبية الغيبية موحَّدةً تحكمُ نفسَها وتطردُ الأغيارَ من بينها.
ويظهر عمق التعصب اليهودي والعقلية الاسطورية من خلال سرقة الموروث المصري والموروث الرافدي الغيبين وترك جوانبهما الموضوعية والإنسانية ونشر هذا التراث الديني الغيبي الاسطوري على شعوب الشرق وخاصة العرب الذين أخذوا هذا الإرث الاسطوري ونشروه بينهم بل وتبنوه !
لقد تم اختيار فلسطين كغيتو كبير يمنع انصهار اليهود في المجتمعات الحديثة، ولهذا فإن عملية النضال التوحيدية بين العرب والإسرائيليين ضد الصهيونية تلاقي الفشل الكبير حتى الآن.
4/8/2014
ضرورة هزيمة التطرف الإسرائيلي
كانت الهيمنة على الأديان البشرية من قبل القوى المحافظة ذات أشكال متعددة، وكان للدين اليهودي مسار خاص، توحد فيه مع قوى المال الكبرى عبر التاريخ، ثم تداخل مع الامبرياليات، أعلى أشكال الرأسمالية الحديثة.
لكون الفئات اليهودية التجارية والمالية قد كرست نفسها في هذه الأشكال الاقتصادية، ثم توحدت مع حركة الاستعمار، فقد غدت فلسطين ضحيتها الأشد ضراوة.
وقد عرفت هذه القوى كيف تتغلغل في الحركات الاجتماعية والدينية المختلفة اليهودية وتؤدلجها وتسلحها وتحولها إلى جيتو كبير في منطقة الشرق الأوسط، يرفض الصراع الطبقي داخله، ويوجهه للصراع القومي الشوفيني.
إنها جوانب مركبة معقدة بين جذور الأديان وتطوراتها المعاصرة، والمرحلة الرأسمالية الحديثة، بتعدد الأقطاب فيها وتحولها.
على مدى التاريخ العربي الصراعي ضد هذه الظاهرة اليهودية – الإسرائيلية – الصهيونية، قامت القوى العربية بمجابهتها حسب برامجها الدينية والقومية التقليدية والمتخلفة، التي تقومُ على ثنائية النور أو الظلام، الإله أوالشيطان، نحن أو هم، أي وضع القضية في دوائر غير عقلية وغير اجتماعية وتعليقها في فضاء وهمي.
أي ليس على درس الظاهرة بشكلٍ تاريخي، وبكشفِ تناقضاتها الطبقية الداخلية واستثمار هذه التناقضات لتطوير الموقف العربي، وبضرورة المرحلية المتدرجة في تنفيذ أهداف الموقف العربي لاسترداد الأرض والتاريخ.
وكانت الكوارث تتالى من هذه الرؤية الفكرية السياسية المحافظة المحنطة: تقسيم فلسطين تحول إلى هزيمة، وانتصار إسرائيلي شبه كلي، ثم تدفقت الهزائم العسكرية وابتلاع المزيد من الأرض وضرب التقدم العربي الهش وتقوية النزعات الشمولية العربية، ثم انقلاب ذلك إلى النهج المعاكس وهو الاستسلام!
هذا النهج تبدى في المفاوضات اللاقومية، وتمزق القوى العربية وتناحرها، وتنامي السيطرة الإسرائيلية وحروبها المكلفة ونمو مقاومات دينية تنطلق من الموقف السحري الديني نفسه الذي يريد التغيير والنصر مع تمزيق الصفوف العربية الإسلامية وعبر المغامرات.
فلابد من الانتقال من هذه العقلية القومية الدينية الجامدة اللاتاريخية اللااجتماعية اللامرحلية، إلى موقف مغاير، إلى فهم الإسرائيليين كبشر، كقوى اجتماعية متضادة، إلى أن ثمة أمهات يكرهن الحروب، إلى أن هناك مثقفين إنسانيين يرفضون الهيمنة الصهيونية واستعلاءها، إلى أن هناك عمالا يكدحون ويعانون ويتم استغلالهم وتجنيدهم للحروب، وترك كل هؤلاء وعدم الاهتمام بمعاناتهم ومطالبهم وتركهم في السيطرة الكلية للنظام الخارج عن القانون الدولي، هو ليس من فعل السياسة في شيء، إلا في سياسة الهزائم والمغامرات.
ظهور سياسة عربية قومية وطنية فاعلة ضد الصهيونية، بدأ منذ اتفاقيات السلام المنفردة، التي نقلت بعض الأقطار العربية على سوء هذه الاتفاقيات إلى وضع تمكنت فيه من التطور الداخلي، لكن كان عملها هو فقط مع النخب الإسرائيلية المسيطرة ذات التوجه الصهيوني، ولم تمد أيديها إلى القوى اليسارية والتقدمية الإسرائيلية، لم تقم بعزل النخب المسيطرة ذات التوجهات الحربية عن الجمهور العامل، أي أنها أبقت قوى الاحتلال والهيمنة بل قامت بتقويتها وإعادة انتخابها مراراً.
لم تكن في سياسة السلام العربية المستسلمة مقاومة، بل كانت فيها متاجرات واستغلال للعمال العرب واليهود واستفادات اقتصادية نفعية، فلم تبن هذه السياسة ككل على مواقف عميقة، متحالفة مع قوى النضال الاجتماعي في إسرائيل، التي تعاني هي الأخرى سياسة الحروب والتوسع الإسرائيلية.
نحن بحاجة إلى عقلية سلام نضالية، وليست عقلية استسلام، وترك الأمور تجري على علاتها ونواصيها كيفما شاءت التطورات العفوية.
وكان يُفترض من الفلسطينيين خاصة أن يقودوا مثل هذه السياسة، وأن يعقدوا تحالفات واسعة عربية – إسرائيلية – عالمية من أجل وضع الصقور الإسرائيليين في زاوية ضيقة.
إن هذه السياسة لا تتضارب مع سياسة رفض التطبيع، حيث ان الحكومة الإسرائيلية الراهنة هي تتويج للصقور، وهزيمتها يجب أن تكون في بؤرة عمل السياسات العربية والعالمية الديمقراطية، لا أن تقدم لها التنازلات، فهذه الحكومة لها شهية هتلرية وكلما قـُدمت لها التنازلات انتفخت بالأراضي والسيطرات العنصرية والشروط اللاإنسانية.
يجب هزيمتها!
علينا ألا نقوي هتلر الإسرائيلي، فغداً يأتي إلى عواصمنا!
وهذا لا يعني تركها وحدها تلعب في ساحة المنطقة، وترك القوى الكثيرة من الإسرائيليين في عهدة موسوليني تل أبيب، والجمع ممكن بين السلام والمقاومة، بين تثمين مواقف الإسرائيليين المعادية للحروب والتوسع والمساندين لوقف المستعمرات وإزالة الجدار العازل ومساعدة غزة والانسحاب من الأرض العربية المحتلة، وبين رفض عنجهية وزراء التوسع وزيادة الاستيطان والحقد القومي.
يجب عدم تقديم المكآفات لهؤلاء الأخيرين، بل وضع الخطط لهزيمتهم، وعلى العكس يجب مد يد المساعدة لضحايا هذه السياسة على الجانبين الإسرائيلي والعربي.
29 يوليو 2009
التوراة والحرب
ليس ثمة تجارب وآراء عسكرية كبيرة في التوراة، فالقبائل اليهودية قبل ألفين وأكثر من السنوات كانت قبائل صغيرة ليس ثمة إمكانية لحضورها على مسرح الأمم وقتذاك، مثلها مثل قبائل أشقائها العرب، القبائل القيسية، الذين انحدروا جميعاً من منطقة سواحل بحر قزوين.
ولهذا فإن التسمية للمجموعتين العرقيتين: عبرانيون وعرب، المتقاربة، توضحُ النشأة المشتركة، وكذلك عودة المجموعتين للجد المشترك النبي إبراهيم كما تؤكد الوثائق المقدسة لكلا الشعبين الكبيرين.
وفي حين توجهت القبائل اليهودية إلى السكن في بلد الآراميين والكنعانيين؛ وهي فلسطين وما حولها، ثم هاجر بعضٌ منها لمصر الزراعية الغنية، فإن القبائلَ العربية توجهت لشمال الجزيرة العربية، في هذه المنطقة الأوسع، والخالية من الامبراطوريات الكبرى.
فحدث مصيرٌ مغايرٌ للشعبين، واكتسبَ كلٌ من الرافدين تقاليد عسكرية مختلفة، ففي حين وجدت القبائل اليهودية نفسها في عبودية وأشغال شاقة في مصر وعدم القدرة على تكوين جيش، فإن العرب صاروا قبائل حرة وذات انتشار وتقاليد عسكرية متجذرة في تلك الصحراء المترامية الأطراف.
ولهذا كانت القصص والعبارات العسكرية في التوراة تقوم على حفز اليهود للقتال، وعدم تأهلهم للحرب، وتنقد ذوبانهم في الأمم الأخرى، وتحضهم على التفرد وكره الأمم الأخرى والانعزال عنها. فهم شعبٌ صغيرٌ والأمم الأخرى كثيرة الأعداد، وحتى حين اقتربوا من الأرض (الموعودة) فلسطين، احتاجوا إلى وقت طويل للتسلل إليها، ولم ينجحوا في السيطرة عليها إلا بعد تفكك الحضارة الكنعانية التي ورثوها فقد كانت أكثر تطوراً منهم وقد استعاروا تقاليدها وطرق تجارتها وتحديثها،، ومع هذا لم يستطيعوا الحفاظ على المملكة اليهودية التي تقسمت إلى مملكتين ثم سُحقتا.
وهذا لا يعود فقط للأعداد المحدودة لليهود قياساً بالأمم السابقة العريقة بل للموقع الذي أصرت اليهودية على البقاء فيه، وهو أرضُ فلسطين.
فهذه الأرض الصغيرة عموماً دُشنت في العقلية اليهودية كمكانٍ مقدسٍ أزلي للعبرانيين، بسبب هجرة الآباء المؤسسين لليهودية نحوها، وعدم قدرتهم على تكوين دولة فيها، فبدا ذلك كحلمٍ توشج مع تلك القصص الدينية الكثيرة والكثيفة للآباء والأنبياء.
وفي حين كان العرب في أمية وينحدرون أكثر وأكثر في البداوة في الصحارى العربية ويتحولون إلى قوة ضاربة عسكرية كبرى، كان اليهود يتفاعلون مع الحضارات في الشمال، ويؤسسون عبر دولتهم وبعد تحطيمها وأسر الكثير منهم في المعتقل البابلي، ثقافة دينية متأصلة استفادت وتأثرت وحورت الكثير من التقاليد والأفكار المصرية والعراقية القديمة الوثنية. لكنهم يحافظون على المعتقل أو الجيتو وعلى التقوقع وعدم الرغبة في الانفتاح على الأمم خوفاً من الذوبان، إلا إذا آمنت الشعوب بهم وذابت في تقاليدهم.
فكانت التقاليد العسكرية قليلة في هذا التراث المشغول بالهجرة والنفي وأحلام العودة لأرض الميعاد.
وما صعّد اليهود عالمياً هو تبنيهم لطرق التجارة المالية والصرافة المنتشرة بين الكنعانيين، وتحويلها إلى تقاليد شعبية مقدسة، تطبق على الأمم الأخرى ولا تطبق على اليهود.
فعبر أسر قليلة والتوجه للأرباح وعدم تكوين دولة كبقية الأمم والاصرار على العودة لأرض الميعاد فلسطين عبر ألفي سنة من الشتات، أخذت الأحلامُ الاجتماعية لهذه الجماعات اليهودية في التفتح في الغرب الذي جعل اليهودية المصرفية الاستغلالية هي حياته اليومية، فتبناها مادياً ورفضها روحياً.
وقد خاف زعماء اليهودية الغربية من هذا الذوبان للجاليات اليهودية المختلفة في الغرب المتوجه للمساواة بين المواطنين بشكل عام، وإبعاد الأديان عن الحياة السياسية، فقلت الفروق بين اليهودي والمسيحي، اللذين صارا مواطنين شكلياً على الأقل. لأن الجذور المسيحية بقيت في الغرب قوية ومسيطرة لأسباب اجتماعية كبيرة.
هنا تحقق لفكرة العودة لأرض الميعاد فلسطين إمكانية تحويل الجيتو اليهودي إلى دولة، وجعل الجماعات التي كانت تحن للأرض المقدسة في الخيال المستمر بأن تضع أقدامها على أرض حقيقية وهي مليئة بالذكريات والرموز.
كانت هذه هي دكتاتورية الكبار في تلك الجماعات الخائفة من الديمقراطية والعلمانية الغربية.
وقد جاء ذلك كله مع صعود الهتلرية التي استغلت الوجود اليهودي لأفكارها العنصرية، فاجتثت الملايين منهم وغدت بالنسبة إليهم مثالاً مكروهاً بغيضاً، ولكن غدت كذلك نموذجهم الباطني المرغوب فيه، فالقوة العظمى الباطشة القوية ذات الانتصارات الكاسحة تغدو كذلك مصدر إعجاب للضعفاء المحطمين والمهمشين.
خاصة أن اليهود لم يشهدوا تجربة عسكرية كبيرة لهم، وافتقدوا في منعزلاتهم الأشكال السياسية والفكرية الديمقراطية.
فجاءت التجارب العسكرية اليهودية على أرض فلسطين محتفية بتلك التقاليد الهتلرية، من أساليب القمع والعقاب الجماعيين، إلى استخدام أساليب (الصاعقة) وهي فرق ألمانية نازية اعتمدت أسلوب الحرب المفاجأة مع ضربات شديدة للخصوم.
في ألمانيا وإسرائيل المعاصرة كانت الدولتان وسط جمع أممي معاد لهما، فاعتمدت كلاهما على الحرب الخاطفة، أو على زرع الشقاقات الكبيرة بين الخصوم، واستفراد كل على حدة، وعلى القول بالعنصر المتميز المغاير لعامة البشر الأقل رقياً، وعدم التمييز بين العسكريين والمدنيين واستخدام أساليب الإبادة، وعدم جعل النساء والأطفال والشيوخ خارج الصراع.
وذلك بسبب المصدر القومي الاجتثاثي المتعالي على البشر، فوجدت إسرائيل نفسها أنها تهاجم هتلر في كل مناسبة ولكنها تطبق تقاليده السياسية والحربية، نظراً لوحدة الأصل الاجتماعي، وفكرة المجال الحيوي وحياة الغزو.
9 يناير 2009
العنفُ مبررٌ ضد الصهيونية
تقوم الدولةُ الصهيونية على أسسٍ دينية تقليدية، وهي ليست دولة عصرية إلا فى الشكل، فطائفة اليهود تتمتع بالسيادة المطلقة والمواطنة الأولى؛ نظراً لتكون الدولة على أسس توارتية خرافية، ولهذا فإن العلمانية فيها شكلية، وتم إنشاء الدولة على أسس ما قبل الحداثة.
ولهذا فإن العنصريين الصهاينة لم يقبلوا بالمستويات التاريخية، ويحولوا الدولة الدينية إلى دولة علمانية ديمقراطية كما حدث في التسوية التاريخية بجنوب إفريقيا، حيث قبل المسيحيون حكم الأغلبية، وتم إنشاء دولة ديمقراطية مشتركة.
وبطبيعة الحال فإن هذه التسوية الديمقراطية الحقيقية لا تقبل الصهيونية الحاكمة في تل أبيب بشيء منها، أي أنها لم تقبل بقيام دولتين إسرائيلية وعربية؛ وتتوجه عملياً لإزالة أي وجود فلسطيني مؤثر، سواء برفض التسوية التي أنجزتها مباحثات أوسلو أو بالتمادي في سحق الوجود الفلسطيني الممزق أصلاً.
وهدا يعود لأن القوى السياسية الفلسطينية المؤثرة أسقطت خيار الحرب الشعبية، وركزت فقط على اللغة السلمية والحوار، وهو أمر لا يمكن رفضه، ولكن ليس هو الوسيلة الوحيدة، وأي حوار ما لم تسنده قوة عسكرية وحرب عصابات فهو كلام فارغ.
إن العمل الفلسطيني الذي يركز على شكل واحد من النضال ثبت خطأه، ولم يقم أي شعب في العالم باستخدام أسلوب وحيد في الكفاح، تاركا خيارات العنف جانباً.
لكن العنف ليس هو العنف الأعمى الذي يأخذ النساء والأطفال، بل هو العنف الموجه للمؤسسات العسكرية والاستخباراتية والعلمية الصهيونية، عنف ضد آلة الحرب والاحتلال، وهذا العنف وحده والمستمر والتاريخي هو وحده الذي يجعل خيارات السلام والحوار مفيداً.
لقد قامت النظرة الفلسطينية الكفاحية على نظرة أحادية، فأما الكفاح المسلح ورفض أي تسوية وحوار، وأما التسوية والحوار وبدون عنف، وما هكذا قاومت الشعوب، وما هكذا انتصرت حروب التحرير الشعبية؛ فقد جمع الفيتناميون بمهارة بين أساليب الحرب الشعبية والمفاوضات، وكانوا يهاجمون المعسكرات الأمريكية ويراسلون الجمعيات السلمية والنضالية الأمريكية، فيقومون بتفتيت الصفوف ونقل المعركة إلى داخل المجتمع الأمريكي.
وهكذا سارت حرب التحرير الجزائرية، وعلى الرغم من الإبداعات النضالية الفلسطينية خاصة في مجال الانتفاضة، لكن التركيز الوحيد على المفاوضات، وعلى العمليات الانتحارية التي أضرت أكثر مما أفادت، وللأسف فإن الدينيين الإسلاميين لا يعرفون أساليب الكفاح الحديثة، وغالباً ما يفيدون العدو أكثر من تحريك الكفاح الفلسطيني، تدفعهم الرغبة المتأججة في البروز، وخدمة دول أخرى تريد التقليل ما أمكن من دور فتح وبقية المنظمات الشعبية، وكان يمكن بقدرتهم البشرية واستعدادهم للتضحية أن يتوجهوا للهيكل العسكري الصهيوني في حرب طويلة لتدميره.
لقد استخدم الفلسطينيون أساليب ماهرة في العمل السياسي السلمى الجماهيري، عبر الانتفاضة وعبر النضالات ضد الجدار العازل، الذي يأكل أراضي فلسطينية جديدة، وهم يحضرون جماعات السلام الإسرائيلية والغربية ومنظمات الصحافة وحقوق الإنسان؛ ويحركون كافة وسائل التأثير ضد المتطرفين العنصريين، لكن الصهيونية المدججة بالسلاح مغرورة، وهي تستند إلى عقد تاريخية بإثبات الذات المريضة، ولهذا فبدون نكسير رؤوسها لن يأخذ الفلسطينيون شيئاً.
والنضال لا يعني الانقطاع عن وسائل التأثير السلمية والجماهيرية هذه، ونقل المعركة داخل المجتمع الإسرائيلي، بل أيضاً ضرورة استمرار النضال المسلح ضد المؤسسات العسكرية الصهيونية وبضرورة تدمير جيش الاحتلال والدفاع.
لقد قبلت كل دول الاستعمار والاستغلال بأنصاف الحلول، والتسويات التاريخية ما عدا الجماعات الصهيونية، المتجبرة والمتطرفة، لأنها واجهت تخاذلات من العرب، وترددات وضعف، فأجمعوا كافة أشكال النضال في حزمة واحدة، ولا تفرطوا في شيء منها.
26-1-2004
إسرائيل والعلمانية
إن اختيار الحركة اليهودية لفلسطين مكاناً لدولتها، كان هذا يعنى التوجه العميق لتشكيل دولة دينية.
ويُفترض أن هذه الحركة حركة علمانية، أي تفصل الدين عن الدولة، وتفصل السياسة عن التوراة، ولكن هذا الاختيار الديني لموقع الدولة السياسي، جعل من العلمانية مجرد شكل سياسي خارجى زائف .
إن اختيار المكان الديني للحركة أدى إلى انبثاق كافة الظاهرات الدينية لدولة علمانية مفترضة، فانفجرت الذكريات والأساطير مجدداً بالعودة إلى الأمكنة التي تسجلها التوراة بدقة بالغة في وقائعها الكثيرة جدا.
وتقر التوراةُ بأن أرض فلسطين هي للفلسطينيين أساساً وللكنعانيين، وأنها أرض حتى في الزمن القديم ليست لليهود أصلاً، ولكن (الرب)، أي وعي حركة القبائل الضائعة التائهة في الصحراء، بعد الفرار من مصر، قرر دخول فلسطين بعد أن تتمرس هذه القبائل حربياً وتنمو عددياً .
راحت الدولة العلمانية المفترضة تتعمق بصورة دينية متطرفة، فراحت تستعيد الأسماء العبرية المنقرضة، وتؤجج النزاعات الدينية المتطرفة، ليصبح اليسار متقلصاً بصورة مستمرة، في حين يتصاعد اليمين الديني والسياسي.
لقد استطاعت البرجوازية الإسرائيلية الكبيرة التي تقف فوق اقتصاد صناعي وتقني متقدم، أن تحافظ على الإرث الديني التقليدي بكل أساطيره.
وهكذا فإن البرجوازية التي خافت من ذوبان اليهود في المجتمعات الغربية، حيث تحولت المجتمعات المسيحية إلى مجتمعات يهودية مالية، استطاعت أن تشكل لهؤلاء اليهود (جيتو) قومياً، معزولاً عن الحضارة الرأسمالية، جغرافيا، وكذلك بأن يسبح على بحر من الأساطير، فجمعت بين عدة طيور في قبضتها، طير العزلة والتخندق الديني، وطير التطور الصناعي والتقدم التقني، وعدم الذوبان في العالم المجاور المختلف ديناً ومستوى اقتصادياً واجتماعياً.
كانت النخب المالية / الدينية اليهودية على مر التاريخ تنمي ثرواتها وتميزها الديني، الدينُ يزيدها ثروةً والثروة تزيدها ديناً؛ وحين تكسرت أسوار الحيتو بفعل الثورة الديمقراطية والعلمانية؛ أرادت الصهيونية الاحتفاظ بذلك الجيتو عبر فلسطين.
أصبحت الأوساط الدينية والمالية الكبرى اليمينية تخشى نمو اليسار والعلمانية فى إسرائيل وفلسطين معاً؛ وكان مشروعها الأساس هو تعميق التظاهرات المضادة، عبر تنمية التنظيمات الدينية على كلا الجانبين، وخلق حالة من العداء المستحكم والمذابح، تبريراً للعداء المستمر، ولبقاء الجيتو، وصار رمزه الآني (الجدار العازل).
إن في نمو قوى السلام واليسار والعلمانية الفكرية والتسامح الدينى في إسرائيل ذوبان للمشروع الأصلي الذي تم نقله من الحارات اليهودية المغلقة من أوروبا وأمريكا، وتحطيم للسياج العنصري، ولكشف تاريخ من العداوات الاجتماعية والمالية التي اُلبست ملابس الأديان، وتعرية لجلود الثعابين العسكرية المتلهفة للحروب وتوسيع مصانع السلاح.
إن في المذابح المتكررة على ضفتي العداء، والدقة البالغة في اصطياد المسلحين الفلسطينيين من بين عشرات السيارات، والتصويب الدقيق على هذه الأجسام دون غيرها في الأزقة من خلال الطائرات، يعطينا مؤشراً على الخيوط السرية الدموية المشتركة المتغلغلة بين المتحاربين، وكيف أن القوى المتطرفة الدينية والمالية لا تريد لهذه الجروح أن تتوقف، بل أن تنزف بصورة مستمرة.
حفاظاً على الجيتو وقد صار دولة مالية استغلالية كبيرة!
27-12-2004


